غزة | لم يتوقع الغزيون أن يجرهم الحصار إلى خيارات بائسة تدنت نفوس كثيرين إليها تحت مظلة الاعتذار بغياب المواد الأساسية والكمالية، فقد دفع غياب السماد الزراعي عددا من المزارعين في غزة إلى البحث عن بدائل من دون النظر إلى خطورتها على صحة الناس، الذين سيتناولون منتجاتهم على أنها «خضروات وفاكهة بلدية (محلية)» تغنيهم عن شر الاستيراد من إسرائيل.
البديل الجديد لم يكن إبداعيا كالعادة، بل عصارة نفايات سامة تستخرج من خلاصة القمامة بعد جمعها في بعض مكبات قطاع غزة، يلجأ بعض المزارعين إلى دمج هذه العصارة مع الماء في ري مزروعاتهم على أنها بديل عن السماد، وأثبتت التجربة لهم أنها تساعدهم على جني ثمارهم خلال مدة صغيرة، ما استدعى فحص تلك العصارة للاطمئنان إليها في ظل سكوت حكومي، وهنا اكتشفت «الأخبار» الطامة: عصارة عالية السّميّة وقد تؤدي، مستقبلا، إلى الإصابة بمرض السرطان.
تبين أن عصارة النفايات تحتوي على عدد من المواد الثقيلة والخطيرة مثل الزرنيخ والحديد والنيكل والقصدير، لكن الحديد كان الأكثر فيها، وهي بغالبها مواد عالية السمية وتسبب بعضها السرطانات بعد امتصاص التربة لها ثم انتقالها للإنسان عبر الثمر، لكن ذلك مرتبط بالأثر التراكمي بعد الأكل المزمن للثمار المسمومة.
تكلفة عصارة النفايات أرخص بكثير من السماد الزراعي المفقود

وبغض النظر عن مدى علم هؤلاء المزراعين بخطورة ما يفعلونه أو عدمه، فقد تبين أن الجهات المسؤولة في بعض الوزارات ذات الاختصاص على علم بالموضوع، لكنها لم تحرك ساكنا على اعتبار أن استخدام هذه العصارة مقتصر على منطقة معينة!
من هنا عملت «الأخبار» على تحليل عينة من عصارة النفايات ومقارنتها بالمعايير الدولية لنسب وجود عدد من المعادن والمكوّنات التي يمكن ري المزروعات بها، وظهر وجود فارق كبير يمكن ملاحظته في نتائج التحليل المرفقة (على الويب).
ولدى سؤال عدد من المزارعين، تبين أنهم يستخدمون هذه المادة في أكثر من محافظة في قطاع غزة، مؤكدين أنها متوافرة وتباع بسهولة، لكنهم شددوا على أنهم لا يعلمون بأي أضرار جانبية لها. المزارع أحمد زياد (اسم مستعار) في شمال القطاع يزرع 17 دونما بالحمضيات، ويشير إلى أنه استخدم تلك العصارة بكثرة وخاصة مع محاصيل الحمضيات والطماطم، لكنه لاحظ أن أنواعا من الخضروات والفواكه لم تتحمل سقيها بها، لكونها «مادة قوية جداً، والآن نشتريها بدلا عن سماد التربة».
عن مصدر تلك المادة، يكشف المزراع الشاب أنهم يحصلون عليها عبر أشخاص من المكب الرئيسي للنفايات في القطاع. ووفق معاينة ميدانية سريعة. فمن المفروض أن يكون هذا المكب تحت رعاية إحدى بلديات القطاع، فيما يؤكد زياد أن الرقابة ليست قوية، وهذه المادة «يبيعها أشخاص معينون لا يعرفون عنهم سوى كنيتهم». ويضيف: «نتعامل مع رجل اسمه أبو العبد... نطلب منه المادة فيرسلها بغالونات في كل واحد 16 ليترا من العصارة بسعر 16 شيكل (4 دولارات)، ثم يكون التسلّم بعد ساعات من طلب المادة».
وتنص المادة 26 من القانون الزراعي الفلسطيني (المخصّبات الزراعية) على ضرورة «تحديد أنواع المخصبات التي يسمح بتداولها وتحديد مواصفاتها وإجراءات تسجيلها وشروط وطرق تداولها»، كما يجب التزام «شروط وإجراءات ترخيص استيراد المخصبات والاتجار بها ونقلها من جهة إلى أخرى»، لكنه وفق أسلوب بيع هذا «المخصّب» الجديد (العصارة) فإنه يتنافى مع نص القانون.
وخلال زيارة ثانية إلى المكب تبين أن كمية العصارة تقلصت كثيرا بدلاً من أن تزيد بفعل الأمطار التي هطلت على غزة أخيرا، ما يشير إلى سرعة في استخدامها على يد مجهولين، كما تبين أن عصارة النفايات أرخص من الأسمدة المسموح بها، وهي أيضا تساعد على تسريع النمو وتكبير حجم الثمرة.
ومع أن المادة 23 من القانون نفسه تؤكد أنه «لا يجوز إصدار رخصة صناعة المخصبات الزراعية أو استيرادها أو تجهيزها، أو عرضها للبيع أو بيعها، إلا بعد موافقة الجهات المختصة في وزارة الزراعة»، فإن دور الوزارة غائب بفعل التأثيرات السياسية والخلاف بين حركتي «فتح» و«حماس» أولا، فضلا على القصور الميداني. إذ يقول المدير العام للري والتربة في «الزراعة»، شفيق العراوي، إنه لا علم للوزارة باستخدام المزارعين هذه المادة السامة أو وصف استخدامها بالخطير.
لكن مدير مجلس النفايات الصلبة في دير البلح، وسام أبو جلمبو، كشف أنهم بوجود هذا الخلل الكبير، مستدركا: «لا نعلم أن هذه العصارة تستخدم في عدة مناطق من قطاع غزة... كل ما نعرفه أنه جرى استخدامها في منطقة المكب». وقال أبو جلمبو: «نتحمل الخطأ والصواب لأننا في محل مسؤولية، وسنحاول أن نعالج هذه المشكلة»، رافضا الإفصاح عن الإجراءات التي يمكن عملها.
خلال زيارة أخيرة إلى المكب، التقينا المشرف العام هناك، ويدعى جمال أبو ميري، الذي اتهم «مجموعات معينة بسرقة العصارة وبيعها»، مبررا عجزهم عن السيطرة على الوضع بسبب قرب المكب من الحدود مع الأراضي المحتلة... «ما يفقدنا السيطرة بسبب الخوف من إطلاق الاحتلال النار علينا». وهذا المكب، الذي يقع وسط القطاع، أصلا غير صالح لاستقبال النفايات منذ عام 2007م وكان من اللازم إغلاقه لأن طاقته الاستيعابية لا تتحمل أكثر، فهو يستقبل يوميا أكثر من 500 طن من النفايات الصلبة.
يعود مدير التوعية البيئية في سلطة جودة البيئة، أحمد حلس، ليوضح أن ما ظهر للمزارعين من فوائد باستخدام هذه المادة (سرعة النمو) عائد إلى وجود مواد مثل الحديد والفوسفور والمغنيسيوم في التربة، وهي «تساعد على تخصيب التربة ونمو النبات لكنّ المزارعين يجهلون خطورتها في ظل غياب متابعة الوزارة لمخصّبات تفوق المعايير الدولية المسموح بها».
ويحذر حلس بقية المزارعين من أن يغشهم أحد بهذه المادة التي «تظهر على شكل سائل بلون قاتم يحتوي على تراكيز عالية جداً من الملوثات التي تنتج عن تحلل النفايات الصلبة في المكب»، مضيفا أن لهذه المادة خطر آخر على المياه الجوفية، وذاكرا في الوقت نفسه أن العناصر الثقيلة من الأسباب المباشرة لحدوث السرطان.
وتكون كمية العصارة أكبر إذا كانت النفايات الصلبة تحتوي على مواد عضوية قابلة للتحلل كبقايا الطعام، وينتج في فلسطين عن كل 100 كلغ نفايات صلبة ما يعادل 200 لتر من العصارة السامة، فيما من المفترض إعادة التعامل مع العصارة يوميا وتقليل كميتها عبر التبخر، لكن ذلك توقف منذ 2007 بسبب ضعف الإمكانات.