«ما يمكننا فعله اليوم في الشرق الأوسط، قد لا نكون قادرين على فعله غداً»، عبارة قالها إيهود أولمرت خلال بحثه مع نظيره التركي رجب طيّب أردوغان المفاوضات مع سوريا. لو قُدر لمقولة أن تختصر وضع البيئة الاستراتيجية لإسرائيل لكانت هذه العبارة هي الأدق
محمد بدير
تعيش إسرائيل منذ أعوام مفارقة صارخة في جدلية الحرب والسلام مع محيطها. فمن جهة، ثمة مسار تنازلي في الموقف الرسمي العربي بدأ قبل أوسلو ـــــ لكنه تظهّر فيها ـــــ وتواصل مع مبادرة السلام السعودية ووصل إلى ذروة جديدة في الغطاء السياسي، الذي منحه عرب الاعتدال لعدوان تموز على لبنان، وبعد ذلك لمحاصرة قطاع غزة وقبله ياسر عرفات تمهيداً لاغتياله.
ومن جهة أخرى، يفضي رصد تطور الأمور في ما يسمى «محور الممانعة» إلى رسم خط بياني تصاعدي يعكس التنامي المطّرد في القدرات العسكرية.
في ظل ذلك، باتت إسرائيل تدرك أن الرهان على الوقت لن يكون بالضرورة في مصلحتها، كما كان عليه الحال حتى أعوام قليلة مضت. فالتراجع على الجبهة الرسمية العربية يقابله تقدم في التهديدات المتراكمة على «جبهة الممانعة»، بدءاً من غزة مروراً بحزب الله وصولاً إلى إيران. والأخطر من ذلك، أن تل أبيب تعي أن وتيرة التحول على الجبهة الثانية أسرع وأنشط منها على الجبهة الأولى، وأن تداعياته المعنوية في الشارع العربي أكثر حضوراً وتأثيراً.
في الوقوف على معالم هذا التحول، يمكن تسجيل ثلاث نقاط أساسيّة:
أولاً: إن تهديد حركات المقاومة انقلب ليصبح ذا طابع استراتيجي بعدما كان يجري التعاطي معه من قبل بوصفه تهديداً تكتيكيّاً غير داهم. والتهديد الاستراتيجي الذي كانت تمثله إيران تحول إلى تهديد وجودي بحسب التصنيف الأخير للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
ثانياً: إن ساحات المواجهة (غزة، لبنان، سوريا، إيران) باتت مترابطة بصورة شبه عضوية، إذ يَفترض التقدير أن تسخين واحدة منها أو إشعالها سيؤدي إلى ارتفاع حرارة الأخريات تناسبياً.
ثالثاً: إن العمق الإسرائيلي أمسى جزءاً لا يتجزأ من ميدان القتال في أي حرب مستقبلية، مع ما يترتب على ذلك من انعكاسات على صعيد قدرة الصمود الشعبي والاقتصادي.
هذه المتغيرات تركت أثرها الجوهري في المقاربة الإسرائيلية لمسألتي الحرب والسلام. منعُ الأولى ـــــ أو ترحيلها ما أمكن ـــــ أصبح مصلحة عليا بالنسبة إلى تل أبيب، وفقاً لما أعلنه وزير دفاعها، إيهود باراك، في غير مناسبة. كذلك أصبحت محاولة تحقيق اختراق جدي في العملية السياسية استراتيجية لتطويق محور الممانعة (اتفاق مع السلطة الفلسطينية) أو تفكيكه (اتفاق مع سوريا). يصح القول إن كل الحراك الإسرائيلي في مرحلة ما بعد حرب تموز يتلخص في السعي إلى تطبيق هذين المبدأين، بمعزل عن الخلافات والمزايدات الداخلية في إسرائيل، التي هي من لوازم الانتخابات المقتربة.
أولمرت قال قبل أيام: «ما يمكننا فعله اليوم في الشرق الأوسط، قد لا نكون قادرين على فعله غداً». وما يعطي العبارة قيمتها المضافة من حيث تشخيصها لواقع إسرائيل من دون مواربة، هو أنها صادرة عن رئيس وزراء مستقيلٍ ليس مرشحاً أو منافِساً للعودة إلى منصبه. يُفترض بهذا الحال أن يجعل أولمرت متحرّراً من الحسابات الحزبية والانتخابية الضيقة ويدفعه، في آخر أيام حياته السياسية، إلى قول الأمور كما هي، أي كما يراها من موقعه بتجرد وموضوعية. إذا صح هذا الافتراض، وثمة ما يدل على صحته في تصريحات أولمرت وأدائه عموماً، فإنه يعني أن انقلاباً مفاهيمياً طرأ في إسرائيل، تقوضت معه القاعدة التي تقول إن «ما لا يمكن تحقيقه بالقوة مع العرب يمكن تحقيقه بمزيد من القوة»، لتحل مكانها قاعدة بديلة ترى أن عهد توسّل القوة في سبيل فرض التغييرات في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل قد ولى، أو يوشك، وأن وظيفة الحروب لم تعد ـــــ بالنسبة إلى إسرائيل ـــــ تحقق مآرب سياسية، بل هي لضمان الوجود والدفاع عن الأمن والحدود.
بهذا المعنى، يمكن القول إن إسرائيل تتقدم مع وداعها عاماً وحلول آخر خطوة إضافية على طريق فقدان موقع المبادر والتحول إلى موقع المتلقي، الذي يتركز أكثر جهده في محاولة التخفيف من أضرار التحولات المحيطة عبر السعي إلى تدارك بعضها أو التأثير في مسار بعضها الآخر.