عبد الحليم فضل الله هناك أوجه شبه لا يمكن إغفالها بين قواعد عمل الاقتصاد اللبناني والنموذج العالمي المهدد بالسقوط. فالانهيار الذي لا يأتي بالضرورة دفعة واحدة، يبدأ من اللحظة التي يعجز فيها نموذج ما عن ابتكار حلول لمشاكله، أو حين تصبح كلفة استمراره أكبر بكثير من المكاسب الناشئة عنه. أوجه الشبه تلك تدعو إلى تدبر دروس الأزمة بعناية أكبر، والأمر بحاجة إلى شيء من التجريد، فمن دون تحديد السياق الذي ولّد تلك الممارسات الخطيرة، سنجد أنفسنا مشغولين بالأعراض الجانبية للأزمة التي لا تلبث أن تتجدد كلما سنحت لها الفرصة.
أول دروس الأزمة، هو صعوبة الاستمرار إلى ما لا نهاية في فصل الإنتاج عن الاستهلاك، وبالتالي تغذية أجزاء متزايدة من الطلب الداخلي، لا تقابلها زيادات مماثلة في مداخيل الأفراد. المشكلة هنا هي التحول في وظائف النظام المالي، لتصير مهمته الأساسية ابتكار وسائل جديدة لجذب مدخرات الآخرين تعويضاً عن النقص في الادخار الوطني. الأرقام تقول إن بلداً كالولايات المتحدة الأميركية معدل الادخار الفردي فيه قريب من الصفر، مضطر للاعتماد على بلد آخر هو الصين يدخر حوالى 50% من ناتجه. اقتصادان مختلفان تماماً مفروض عليهما التكامل دون قيد أو شرط!
الدرس الثاني: إن عزل عملية إنتاج الثروة عن المتطلبات الأساسية للمجتمع البشري، هو أمر محفوف بالمخاطر ومليء بالتناقضات. فقد انتهى المطاف بالحركة الفوضوية للأموال، خارج توجيه الدول ورقابتها، إلى توزيع الموارد على مجالات التوظيف المتاحة وفق معيارين وحيدين: المخاطرة والربحية، وذلك بغياب عنصر ثالث هو الجدوى الاقتصادية الاجتماعية، وهذا ما عزّز التوظيفات المالية القصيرة الأجل على حساب الاستثمارات المنتجة. وقد اكتشف العالم لاحقاً، ربما بعد فوات الأوان، العواقب الوخيمة لضآلة حجم الاستثمارات المباشرة من مجموع حركة الأموال العالمية (واحد بألف تقريباً). إنّ نقص الاستثمار الزراعي على سبيل المثال، أدى إلى تقلص كبير في رقعة الأراضي الزراعية، ومن ثم إلى زيادة مطردة في أسعار المواد الغذائية.
الدرس الثالث: إنّ انتقال سلطة اتخاذ القرار الاقتصادي من المؤسسات المنتخبة (الحكومات والبرلمانات)، إلى السلطات غير المنتخبة (البنوك المركزيّة والمؤسسات الدولية)، سيقلل من قوة تعبير السياسات العامة عن الحاجات الفعليّة للاقتصاد والمجتمع. وحتى لو سلمنا جدلاً بأن السلطات النقدية قادرة في الظروف العادية على تحصين الاقتصاد من تقلبات السياسة، فإنها عاجزة عن تحديد الاتجاه الصحيح في الأزمات، فتدخلها سيكون مقيداً بهاجس التخلص سريعاً من مظاهر الأزمة مثل التضخم أو الركود، وهبوط مؤشرات الأسواق، ونقص السيولة، بينما تقع أسبابها العميقة وتداعياتها البعيدة خارج مجال رؤية هذه السلطات.
الدرس الرابع: لا يمكن عزل المسألة الاجتماعية عن غيرها من مسائل الاقتصاد، فالأزمة الراهنة أثبتت أنّ الإخفاقات في حقل ما سرعان ما تنتقل إلى باقي الحقول. العلاقة هي إيجابية أيضاً، فتجربة النمو الآسيوي أثبتت وجود علاقة طردية بين مؤشر عدالة توزيع المداخيل ومستوى التنمية. ويمكن التأكيد هنا استطراداً أنّ الرفاهية لا ترتبط فقط بالزيادة في متوسط الدخل الفردي، بل أيضاً في النمو المتوازن للمداخيل. هذا يتطلب إضافة عنصر رابع على دليل التنمية البشرية هو عدالة توزيع المداخيل، إلى جانب كل من الدخل والصحة والتعليم. يعتمد لبنان النموذج نفسه المعرض للتداعي. فالاستهلاك هو محرّك أساسي للنمو، وبات أكثر اعتماداً من ذي قبل على الديون الممولة من الخارج. التسليفات للأفراد والمؤسسات تمثّل ما يقارب 90% من الناتج المحلي، فيما وصلت الديون الخارجية على القطاعين العام والخاص إلى أكثر من 140% من الناتج، أي ما يوازي نصف حجم الديون الإجمالية.
ويمكن رصد مخاطر هذه المديونية من زاوية عجز الحساب الجاري الذي عاود الارتفاع ليصل إلى 16% من الناتج، وهذا العجز وثيق الصلة بالفجوة المتزايدة ما بين الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري من جهة، والناتج الإجمالي من جهة ثانية، والمقدرة هذا العام بأكثر من 40%، أما معدل الادخار الفردي فهو سالب ويساوي تقريباً 25% من الناتج، وهذا معناه أن اللبنانيين يستهلكون مرة وربع أكثر مما ينتجون.
هناك أيضاً انفصال مشهود وشبه تام بين أداءي الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي، فمنذ عام 1992 وحتى الآن نمت الودائع بمعدل سنوي يساوي 11% تقريباً (بعد حذف معدلات التضخم)، في مقابل نمو حقيقي في الناتج لا يتجاوز 3% سنوياً، لترتفع نسبة الودائع إلى هذا الناتج من 126% إلى أكثر من 280%. ويرد التفاوت بصورة أساسية إلى عدم قيام الدولة بدورها في شراء المخاطر لتشجيع القطاع المصرفي على تمويل القطاعات المنتجة، كما فعلت في المجال المالي عندما ثبتت سعر الصرف وضمنت حصول المصارف على هوامش فائدة مريحة.
لقد ظنت الحكومات في لبنان أيضاً أنّ آثار الاستبعاد الاجتماعي لن تصل إلى باقي القطاعات، فتركت حبل عدم العدالة على غاربه. لا يتعلق الأمر هنا بسوء توزيع المداخيل ومؤشرات الفقر وحدها، بل يرتبط أيضاً بسوء توزيع التسليفات والودائع واستحواذ أقلية متناهية في الصغر على الغالبية العظمى من سندات الخزينة، وهناك شريحة تضم 28% من اللبنانيين تقع تحت خط الفقر المطلق، تنتظر أن تنضم إليها كتلة أخرى مؤلفة من نصف اللبنانيين تقريباً، والأمر متوقف على مدى صمود شبكة الأمان المتمثلة حالياً في تحويلات المغتربين، فيما لو تطورت الأزمة.
النموذج الذي يتمسك به أصحاب القرار في لبنان أصيب بفشل داخلي وخارجي مزدوج، وعلى هؤلاء الاعتراف بذلك كي يتاح لهم تدبر دروس الأزمة والتهيؤ لحقبة طويلة من التكيف والمراجعة.