محمد زبيبإذا كان التزام الكتل النيابية بإقامة «نظام تأمين صحي أساسي موحّد وشامل للبنانيين كافة، بإدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبتمويل من الموازنة العامّة» قد تعرّض للاهتزاز، بسبب غياب الوضوح في معظم البرامج الانتخابية للأحزاب والتيارات الأساسية، ما عدا برنامج التيار الوطني الحر، فإن التزاماً آخر، لا يقلّ أهمية، قد تعرّض للنسف في بعض هذه البرامج، علماً أن محاولات تفريغه من مضمونه بدأت منذ فترة طويلة.
فالمعروف أن 11 كتلة نيابية، منها كتل تيار المستقبل والتيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله، قد التزمت أيضاً (في الوثيقة الصادرة عن الجلسة الثانية من المنتدى اللبناني حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية، المنعقدة في 21 ـــــ 22 نيسان 2008، برعاية بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان) العمل على:
- «إقامة نظام أساسي موحّد لضمان الشيخوخة يتماشى مع آخر نص قانوني قُدّّم إلى المجلس النيابي. يحلّ هذا النظام محل أنظمة نهاية الخدمة والتقاعد القائمة حالياً، التي تديرها مؤسسات مختلفة، ويطبّق على اللبنانيين كافة وعلى غيرهم متى كان ذلك مناسباً، ويطبق أيضاً على أساس طوعي على المواطنين اللبنانيين العاملين في الخارج. ويتيح صندوق الشيخوخة المجال أمام أنظمة تكميلية تديرها صناديق تعاضد أو شركات تأمين خاصة. وهو يرتكز على الرسملة الفردية، وصولاً إلى سقف معين مع مستوى أدنى محدد ومضمون من المنافع تعبيراً عن التكافل الاجتماعي. ويجب أن يخضع الإطار المسؤول عن إدارة نظام الشيخوخة للتدقيق والرقابة المالية المناسبين».
إن هذا النص الوارد في الوثيقة المذكورة باعتباره يجسّد توافقاً منجزاً، أو تسوية بين آراء متناقضة، لم يجد طريقه إلى برنامج حزب الله الانتخابي، الذي خلا كلياً من أي إشارة إلى مسألة الانتقال من «نظام تعويضات نهاية الخدمة» إلى «ضمان الشيخوخة» أو أي مسألة أخرى تتصل مباشرة بضعف وتشتّت وعدم فعالية أنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية القائمة في لبنان، ما عدا إشارته العمومية جداً، والمتناقضة أصلاً مع جوهر التزاماته في المنتدى المذكور، إذ ورد في برنامج الحزب أنه «يدعم تطوير وإصلاح صندوق الضمان وتوسيع قاعدة المستفيدين منه».
أمّا تيار المستقبل، الذي يعتبر نفسه معنيّاً جداً بالنقاش الدائر في شأن طبيعة نظام ضمان الشيخوخة ووظيفته وآلياته انطلاقاً من تكريس نفسه ممثلاً للرأسمال، فأعاد النقاش إلى الصفر، وكأنه لم يوقّع وثيقة المنتدى ولم يلتزم بتنفيذ مضمونها، فبرنامجه نصّ على ما يأتي:
- «إقرار قانون إنشاء نظام التقاعد والحماية الاجتماعية، يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، بهدف إدخال مبدأ المعاش التقاعدي الذي يؤمّن مدخولاً مناسباً للمسنين، وتعديل، تبعاً لذلك، برنامج تعويضات نهاية الخدمة الذي يديره الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي... إن إعادة النظر بدور الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومهمّاته يجب أن تكون مكمّلة ومتمّمة لإنشاء الصندوق الموحّد للتقديمات الصحية، بحيث تنحصر مهمّات الصندوق في التقديمات الآتية: فرع التعويضات العائلية وفرع الأمومة والمعاش التقاعدي».
يُغفل برنامج تيار المستقبل مبدأ «التكافل الاجتماعي» الوارد في وثيقة المنتدى، ويشير إلى «المدخول المناسب» لا إلى «سقف معيّن مع مستوى أدنى محدد ومضمون من المنافع»، كما أن البرنامج نفسه لا يشير إلى ضرورة شمول اللبنانيين كافة بالنظام المطروح، ما يعني أنه لم يتراجع عن موقفه الذي عبّر عنه ممثلوه في المنتدى عندما أصرّوا على اعتماد مبدأ «الرسملة» فقط من دون أي حماية للنظام نفسه وللمشمولين فيه... واللافت أن برنامج تيار المستقبل أعاد خلط الأدوار، فالوثيقة التي وقّعها والتزم بتنفيذها تضع «التغطية الصحية الشاملة» تحت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فيما هي تنص على إنشاء «إطار مسؤول عن إدارة نظام الشيخوخة» يخضع لـ«التدقيق والرقابة المالية المناسبين»، وليس العكس كما جاء في برنامج التيار، وربما سبب ذلك، هو الرغبة في إبقاء أموال النظام تحت يد الحكومة تتصرّف بها كما تشاء وكأنها لا تمثّل حقوقاً مترتّبة لمصلحة المضمونين.
ولا يختلف موقف حركة أمل كثيراً عن موقف تيار المستقبل، وهذا ما ظهر جلياً في الصيغة التي خرج بها مشروع القانون من اللجان النيابية المشتركة، قبل ردّه مجدداً إليها وتنويمه هناك، فالمشروع أُقرّ وأحيل على الهيئة العامّة للمجلس النيابي بعد توقيع وثيقة المنتدى، إلا أنه جاء على نقيض التزامات الكتل النيابية، ولم ترضَ به الأطراف المعنية (العمّال وأصحاب العمل) نظراً إلى صيغته المعادية لمبدأ «الحماية الاجتماعية». المفارقة، أن نواب تكتل التغيير والإصلاح وافقوا على صيغة مشروع القانون «العجيب» في المجلس النيابي قبل أن يستدرك النائب ميشال عون الأمر ويعلن رفضه له، ولا سيما أن ممثلي الكتل الأخرى كانوا قد اضطروا في المنتدى إلى الالتزام بإقرار «نظام أساسي موحّد لضمان الشيخوخة يتماشى مع آخر نص قانوني قُدّّم إلى البرلمان، أي نص اقتراح القانون الذي تقدّم به تكتل عون، وهذا ما جعل التيار الوطني يجدد التزامه، في برنامجه الانتخابي، بالعمل على:
- «اعتماد مشروع قانون حماية الشيخوخة الذي قدمه التيار الوطني إلى البرلمان، على أن يشتمل على المنتشرين اللبنانيين، بناءً على قاعدة اختيارية، وأن يطبّق أيضاً، على العمال الأجانب... إن نظام الحماية هذا يقوم على مبدأ الرسملة الفردية، مع إعادة توزيع جزئي طبقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي. ويوحّد هذا النظام جميع الأنظمة التي يستفيد منها المستخدمون الحاليون، على أن تؤمّن صناديق التقاعد الخاصة منافع إضافية. ويجب على أرباب العمل أن يخضعوا لنظام اشتراكات موحّد، بالنسبة إلى مستخدميهم الأجانب واللبنانيين على السواء. أما السلطة المسؤولة عن هذا النظام، فيجب ألا تخضع لرقابة الضمان، بل تكون إدارة ذاتية وخاضعة لرقابة لجنة الرقابة على المصارف».