strong>وائل عبد الفتاحكواليس الحياة السياسيّة المصرية تحوي أسراراً كبيرة، لكنها بدأت تتسرّب إلى خارج الأسوار العالية. «حرب الخلافة تمرّ بلحظات عصبية»، هذه هي القناعة اليوم، بعدما بات بالإمكان تلمّس الصراعات السياسية في أكثر من مكان

■ البحث عن سوار الذهب



لم تنتهِ المباراة بعد. الصحافي نظر إلى المتحدث باستغراب شديد. لم يتوقع أن المقصود هو «حرب الخلافة». مباراة مصر وإيطاليا انتهت للتو. والدهشة زالت، لتصل موجة الفرح العارم بالفوز «التاريخي» للفريق المصري.
«تاريخي». هكذا ردّد المعلقون بكل اللهجات العربية. ضغطوا على الحروف واحداً واحداً، كأنهم ينفخون في نفير حرب تُستدعى فيها جيوش احتياطية ومشاعر مهجورة. تتردّد الكلمة بثقلها. وتتناغم مع حماسة هادرة للمتفرجين.
هم متفرجون لكن الحرب هنا ساخنة.
الجمهور لا تصدمه مفاجأة الندية مع ساحرة العالم في كرة القدم (البرازيل). ولا الفوز على بطلة العالم (إيطاليا). لكنها أيقظت مشاعر ونفسية مركونة.
لماذا انتصرنا؟
سأل الرجل البعيد عن الاهتمام بتفاصيل الكرة. وأعجبته الانتصارات غير المتوقعة. قبلها كانت الروح يائسة وتتعامل بمنطق «نهاية التاريخ». لا جديد تحت شمس الملاعب. ولا مفاجأة في المواقع. ومصر عرفت مصيرها وطريقها محفوظ. فريق ترنح تحت نكسة الجزائر. ولا أمل في انتصارات جديدة من فريق العواجيز.
لكن الفريق نفسه، بالتشكيلة نفسها، صنع مفاجأة في جنوب أفريقيا. والعواجيز شحنتهم الهزيمة والهجوم العنيف. خرجت طاقة خبيئة.
و«كما حدث في أكتوبر (تشرين الأول)... مصر حرّكت الوضع من الهزيمة إلى الانتصار. لتستريح في التفاوض»، قال الرجل صاحب نظرية أن المباراه لم تنته. والصحافي لا يزال منجذباً إلى أجواء المباريات ويستمع إلى سيل التهاني للرئيس حسني مبارك. «كأنه قائد السرب في جوهانسبرغ»، سخر معارض لا يعجبه استغلال السلطة للنصر الرياضي.
الصحافي أفاق والرجل يختتم نظريته «المباراة لم تنته وانتظروا المفاجآت من فريق ظننتموه ميتاً أو في طريقه إلى مقابر جماعية».
هنا أدرك الصحافي المباراة المقصودة. النصر على إيطاليا أعطاه النشوة. وأصوات الجماهير السعيدة أدخلته في النقاش مع صاحب نظرية المباراة بإحساس مختلف.
المباراة فعلاً في شوطها العصبي. الأجهزة الحساسة تدير المباراة على شعرة. تستعدي المنفلتين وتطلب منهم الهدوء. طلبت هذه الأجهزة الامتناع عن ذكر أسماء بعينها. وكانت النميمة الرائجة ما حدث مع صحيفة «الشروق». نشرت خبراً عن اجتماع في الحزب الوطني الحاكم لاختيار مرشح الرئاسة. وأشارت إلى أن كل الاحتمالات تسير باتجاه جمال مبارك.
الصحيفة سربت الخبر نقلاً عن مصادر في قيادة الحزب. لكن الأمين العام للحزب، صفوت الشريف، كذّب الخبر في اتصال هاتفي مع برنامج «القاهرة اليوم» بعد أقل من ساعتين على نشره.
يبدو من بعيد أن تسريب الخبر هو نوع من الرد غير المباشر على مانشيت «الجيش هو الحل» الذي استخدمته صحيفة «الفجر»، وعلى عنوان «لا جمال ولا إخوان... عايزين عمر سليمان»، الذي نشره العدد الأسبوعي من «الدستور» نقلاً عن مدونات على شبكة الإنترنت.
«البلد على شعرة»، قال المسؤول الكبير للصحافي الذي نشر مقالاً طرح فيه أسماء بدلاء لجمال مبارك. بين البدلاء أو المنافسين أسماء مثل مدير الاستخبارات عمر سليمان، والمدير العام للوكالة الولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، والداعية التلفزيوني الشهير عمرو خالد.
وركز المسؤول على اسم من بين الأسماء. وقال للصحافي: «إذا كنت تريد أن يأتي إلى الحكم، فابتعد عن ذكر اسمه. لأن هذا قد يبعده إلى ما وراء الشمس».
لم يرو الصحافي الحكاية بتفاصيلها الدقيقة. وغيّب الاسم المقصود. لكن المستمعين خمّنوه.
إنها حرب الخلافة. تدور بين القصور وفي المكاتب. لكن لها أصداء. وجمهور من المتفرجين. جمهور متنوع. يتابع بشغف الخطط الغامضة للمتصارعين على الخلافة. فالحرب على كرسي الرئيس سرية. تجري في الخفاء. بين القوى العليا من السلطة.
الأمر الواقع يقول إن الرئيس القادم واحد من اثنين: إما جمال مبارك أو جنرال من الجيش قد يكون عمر سليمان، أو جنرال آخر متفق عليه.
هذه ترشيحات الجهات السرية، أو حرب مؤسسات السلطة التي تمارس دوراً أقرب إلى الكهانة السياسية، وربما تؤدّي دوراً في مصلحة الدولة كما تتخيلها. وقد تحاول الوصول إلى توازن بين مراكز القوى الحاكمة، وهي أيضاً مراكز غير معلنة لكن نستطيع تخمينها: عائلة الرئيس، الجيش، الاستخبارات، ومجموعة رجال الأعمال.
هناك توازن رعب بين هذه القوى يجعل اختيار خليفة مبارك نوعاً من التنجيم أو لعبة الاحتمالات. وهذا أخطر ما في الأمر: مستقبل مصر كله رهن لعبة أو مؤامرة لا أحد يعرف كيف ستنتهي؟ فمن الأقوى: جمال مبارك وسنده من العائلة ومجموعات رجال الأعمال أم الجيش وما يمثله من قوة حضور سياسي معنوي يستمد شرعيته من نظام ثورة تموز؟
بعض فصائل المعارضة (ومعها شرائح شعبية) تفضّل الجنرال على الابن، على اعتبار أن الجيش مؤسسة وطنية موثوق بها، وأن الابن سيأتي عبر سيناريو مرفوض تماماً، وهو التوريث. هذه المعارضة فضلت التبشير بالجنرال بدلاً من تبني مشروع سياسي كبير.
لكن العودة إلى الجنرال مخيفة. حكم العسكر ضد عجلة التاريخ. وهذا ربما سر الترويج هذه الأيام لسيناريو آخر، يعثر فيه النظام على المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، قائد الجيش السوداني الذي تسلم الحكم بعد فترة توترات، أدار فيها البلد وأقام انتخابات على أسس ديموقراطية ثم سلمها بعد عام إلى الفائز في الانتخابات.
سيناريو سوار الذهب له شعبية، فقد سُمع مرات عدة ومن مستويات وشرائح مختلفة. هل في مصر سوار الذهب؟ وهل إذا وجد سينجح؟ أم سيقفز إلى الكرسي ويبحث عن الخلود؟
من أين قفز سوار الذهب؟ هل هي عبقرية فريق في حرب الخلافة أم مفاجأة مصرية على طريقة مباريات جنوب أفريقيا؟ ليست حرب الخلافة وحدها في الملعب. النفسية المصرية ومفاجآتها موجودة، لكنها مثل التماسيح تظهر بلا مواعيد.

■ صراع «الحل»



شائعة حلّ مجلس الشعب قبل عام من انتهاء ولايته هي السائدة في الشارع المصري، وتكشف عن صراع على السلطات بين مجموعتين في النظام. أرجحيّة الكفّة لم تتظهّر بعد، بانتظار «التلفون الأحمر» من الرئاسة
«ها يتحلّ إمتى؟» السؤال لم يشغل فقط عشاق التخمينات السياسية، بل شغل بال نواب مجلس الشعب أيضاً. تعطلت طاقاتهم. وشلّت قدرتهم على رسم أجندة الأيام الباقية في عمر المجلس. الشلل الذي حدث انتظاراً لقرار من أعلى، هو إحدى وسائل السلطة. هي بالتحديد: سلطة التحكّم في الزمن. بمعنى آخر: إنها قدرة السلطة أو صلاحيتها المطلقة ليس في فرض قواعد اللعبة السياسية فقط بل في تحديد موعد اللعب أيضاً.
الرئيس من صلاحياته حل مجلس الشعب من دون الرجوع إلى أي جهة (لا مؤسسة، ولا استفتاء شعبي). وانقسمت النخبة المحيطة بالرئيس حول الحل. مجموعة جمال مبارك (الحرس الجديد أو الفكر الجديد أو لوبي لجنة السياسات) كانت تسعى إلى الحل. أما المجموعة القديمة (عملت مع مبارك وكونت شبكة مصالحها من خلاله وتعمل باسمه وفي خدمته لكنها في الوقت نفسه لا تريد الصدام مع مبارك الصغير) فهي ضده.
استمر الصراع أسابيع، تسربت خلالها وعبر لوبي جمال مبارك في الصحافة شائعات عن الحل. وشُغلت الصحافة المعارضة للتوريث بتحليل التسريبات وعلاقتها بسيناريو خلافة مبارك.
هناك تفسير لرغبة المجموعة الجديدة في الحل. صاحب التفسير سياسي. ونائب محترف مخلص لمفهوم النيابة البرلمانية. يرى أن المجموعة الجديدة تتعجل انتخابات مجلس الشعب لتسبق انتخابات «الشورى»، الأسهل بالنسبة إليهم وإلى قدرتهم على اللعب في نتائجها. لكن هذا اللعب قد يفتح الباب أمام نقد حاد من المجتمع الدولي، وهم لا يريدون هذا النقد قبل انتخابات مجلس الشعب. وهناك سبب آخر هو مواجهة القلق الدائر حول خلافة مبارك بضربة استباقية يستطيعون فيها تشكيل حكومة كاملة الولاء للمجموعة «الجديدة»، التي تخاف من الزمن وتعتبره ضدها.
والملاحظ في التفسير أنه التقط فكرة الرعب من الزمن. مجموعة جمال مبارك ترى أن الزمن ضدها. تريد استغلال سلطة الرئيس على الزمن لتعجل به، وتسرعه لتضمن الحفاظ على مكاسب تحققت خلال الفترة الأخيرة.
لكن في المقابل تواجه المجموعة، كلما حققت مكاسب ملموسة، استيقاظ ديناصورات المجموعة القديمة، صاحبة المعرفة العميقة بمفاتيح ترويض الشعب. المجموعة القديمة عارضت الحل. ورجال النظام سربوا أن التقارير السيادية رفضت فكرة حل مجلس الشعب تماماً. وفتحي سرور قال للنواب: «متخافوش.. مفيش حل». وكأنه يعلن انتصار المجموعة التي ينتمي إليها، أو كأنه يحمل البشارة من الباب العالي. تتصرف المجموعة القديمة براحة أكبر وبثقة بأن قبضتها لا تزال الأقوى وأن «الجديدة» مصابة باللهفة والقلق. وبين الثقة واللهفة. تتخذ الحرب جولاتها المعقدة.

■ «عقلاء النظام»هذه المجموعة من «عقلاء النظام» تمثل خط حماية من نوع ما في لحظات الاهتزاز والانتقال القلق للسلطة. هؤلاء لم يتورطوا تماماً في عمليات استثمار السلطة، ولديهم وجه عقلاني وملمح «براغماتي». هذه المجموعة، في هذه اللحظة العصيبة والعصبية، تؤدّي دوراً مهمّاً في الحفاظ على التوازن النسبي. تتسع المساحة الآن أمام «مجموعة الوسط» وأفكارها حول قبول النظام بمعارضيه.
مخرج تسجيلي، كان ناشطاً في حركة «كفاية»، سمع ما أثار دهشته في مؤسسة كبيرة من مؤسسات حماية النظام. قال له أحد كبار قادتها: «لماذا توقّفت كفاية؟»
ارتبك المخرج. وتمتم بمقولات «لم تتوقف. لا تزال تعمل». لكنه اعترف في النهاية بأن الحركة تمر بواحدة من لحظات الأفول الكبيرة. وهنا سمع المخرج ما أشعره بالصدمة: «نحن لا نعمل لدي أحد. لا يهمنا إلا مصلحة الدولة».
هل «مجموعة الوسط» هي أحد اقتراحات مؤسسات حماية النظام؟ تعيين الدكتور عبد المنعم سعيد على رأس مجلس إدارة «الأهرام» علامة إيجابية. فهو أحد أهم عقول النظام.
العقول العاقلة، إن جاز التعبير. من القليلين الذين يفهمون تحولات النظام. ويفكرون فيها. يقبل الاختلاف. ولديه وجهة نظر يمكن الاختلاف معها، بينما مع غالبية وجوه وعقول النظام تصل إلى طرق مسدودة في الحوار. يرددون مثل الببغاوات. ويتعاملون مع السياسة بأسلوب طاقم الملك.
عبد المنعم سعيد هو أحد المبعدين، وبلا سبب واضح. فهو مؤمن بالنظام وبمسيرته، لكن لا مكان له ولا مساحة لوجوده. غالباً لأنه «يفهم». ولهذا فإن إنقاذه من ركن المحبطين هو علامة إيجابية. قد تكون قصيرة المدى وتهدف فقط إلى مصالحة أحد الرجال المهمين قبل سنة واحدة من وصوله إلى السن القانونية. وربما كانت نظرة عاقل في الدولة قرر أن يحمي الأجهزة من لحظة الهياج المتوقعة في حرب الخلافة. خبراء وعقلاء لديهم مشروعية ويمكنهم أن يؤدّوا دوراً محتملاً في صنع الاستقرار.
هذه المساحة المتخيّلة لعقلاء النظام لم تظهر آثارها بعد. لكنها تمنح الأمل في مواجهة سيناريو الانفلات الكبير والفوضى الشاملة.
هي محاول للبحث عن حيوية في جهاز الدولة العتيق العابر للأزمات والعصور والمراحل. حيوية تدافع بها الدولة عن نفسها فقط، وخصوصاً أن القوارض قوية وسريعة وشابة
وتحارب ديناصورات. هي بالنسبة إلى البعض «منتهى الأمل».