strong>وائل عبد الفتاحماذا لو نزعنا ورقة التوت؟ هل ستظهر العورة؟ ولماذا نخفيها؟ ولماذا التخفّي وعدم مواجهة الحقيقة أو التفكير فيها، من مستقبل الحكم، إلى النظام وحدود الهاوية. حتى الرافضون للتطبيع يريدون أن تظل ورقة التوت أيقونة للتخفّي لا منطقاً لكشف العجز وفضحه

■ استعراضات الطهاة: «من أجلك أنت»



هذه لحظة الطهاة، لا الرئيس. لا أحد يعرف من هو صاحب فكرة شعار مؤتمر الحزب الوطني: «من أجلك أنت». الخلاف الوحيد الذي قيل عن الشعار هو أنه يشير إلى الرجل، في العام نفسه الذي قاتل فيه الحزب لتخصيص مقاعد «كوتة المرأة». والردّ كان: «بحثنا في المعاجم وسألنا خبراء النحو وتأكدنا أنّ أنت تعني الذكر والأنثى».
هناك من يفكر إذن في الحزب الوطني. وهناك حوار دائر بشأن توجّهات الحزب وصورته. هذا اكتشاف في الحزب الذي تكوّن بطريقة كاريكاتورية حينما رحل الرئيس أنور السادات سنة ١٩٧٩ من حزب «مصر العربي الاشتراكي»، الذي كوّنه بنفسه سنة ١٩٧٦. وانسحب معه رهط كبير، بعدما اختار بعض آخر من رجاله وأقاربه الانضمام إلى حزب العمل الاشتراكي. كانت «تقسيمة» جديدة أراد بها السادات التحول السياسي الكبير والسيطرة على النخبة المحيطة به، واختار المنتخب الذي يحكم من يومها إلى الآن.
الحزب تغيّر طبعاً. وأصبح هناك صنّاع صور وأفكار. لكنها في الحقيقة أفكار تصلح لشركة إعلانات حكومية لا لحزب يريد العبور من الشمولية إلى الديموقراطية. ولا من عهد الأب إلى عهد الابن، مروراً بفترة تجمع الأب والابن في تركيبة معقّدة لا يفهمها إلّا قلّة قليلة تابعت جمال مبارك وهو يقول لبعض أساطين الحزب من رجال الأعمال «يا عمو». كان من بينهم رجال يتصل بهم الرئيس صباحاً ويطلب منهم أن يشاركوه الإفطار. هؤلاء المدلّلون شعروا بقلق عندما اتسع نفوذ جمال، وتغيرت طريقة النداء إلى «يا بيه». وفي المرحلة الأخيرة حذفت البكوية والاسم ينادى عليه خالياً من الألقاب. هذا التطور هو ما حدث في الحزب الوطني. تتغير إدارة المنتخب في حضور الإدارة الجديدة.
والإدارة الجديدة لا أسس لها سوى «الإعلان». السياسة هي الإعلان تقريباً.
هذا ما تعلّموه من سيلفيو برلوسكوني، الذي صنع حزبه من مدرّجات كرة القدم. اعتمد على مشجعي فريق «أ س ميلان»، وصنع منهم ومن أفكارهم حزباً. وهو في الحقيقة ليس حزباً بالمعنى الكلاسيكي، لكنه منتخب لا يجمعهم سوى الوصول إلى السلطة والاستفادة منها إلى آخر رمق. في هذا النوع من الأحزاب، تُستبدل السياسة بالإعلان والأفكار، تسير كلها لصناعة وهم عن سلعة ليست موجودة. وهذا تقريباً سرّ الشعار الركيك الذي اختاره الحزب لمؤتمره الذي يعقد اليوم. من الوهلة الأولى يصلح الشعار لإعلانات عن ملابس أو شركة عقارات في إقناع الزبون بأنها ستصمّم السلعة على ذوقه ومزاجه. قادة الحزب غالباً لا يقرأون كلامهم بعد أن يلقوه في وجه الصحافة. يشترك في ذلك القديم والجديد، أتباع الأب وخدمة الابن. رجال صفوت الشريف ورجال أحمد عز. كلهم لا يفكرون. هم تروس في ماكينة خلود السلطة. ليس لديهم أفكار بالمعنى السياسي. لديهم أسرار. فقط أسرار.
ولهذا فهناك الآن عشرات يؤدّون دور حملة الأسرار. يعرفون الطريق إلى الرئيس ولا ينطقون عن الهوى. ما يقولونه «معلومات» أو أسرار قيلت في جلسة خاصة. ويريد الرئيس اختبارها على الشعب. طهاة مطبخ الرئيس من كل الأنواع، هم الذين يتصدون هذه الأيام لروح الانفلات من قضبان المادة ٧٦. الدكتور مفيد شهاب ليس كبيرهم، لكنه نشيط هذه الأيام في الردّ والصدّ وربما لأنه لا ينفعل بسهولة ويبدو دائماً مثل أستاذ غاضب من تلاميذه. كما أنه يوحي بأن ما يقوله من وحي العلم. والحقيقة أن نشاط الدكتور مفيد لا يرتبط بمميزاته العلمية. ولكن بمهارة أخرى التقطها الأستاذ عبد الغفار شكر، أحد قادة اليسار، ومعلّم من معلمي التربية السياسية الكبار.
عبد الغفار شكر عَرَفَ مفيد شهاب في منظمة الشباب، مصنع النظام الناصري لتخريج الكوادر السياسية. وكان من بينهم الانتهازي الباحث عن سلّم للصعود السياسي، ومنهم الرومانسي الحالم بالانخراط في جيش الثورة السياسي. النوع الأخير مخلص، وكما يحكي عبد الغفار شكر، فإنهم خرجوا في تظاهرات بعد هزيمة ١٩٦٧ ليطالبوا عبد الناصر بالتحقيق ومحاسبة المقصّرين.
الدكتور شهاب لم يكن من بينهم طبعاً. كان من مجموعة «الولاء للنظام»، التي احتلت منظمة الشباب، وكان من مهمتها تطهير المنظمة من العناصر «غير المنضبطين». من يومها والدكتور شهاب محترف تطهير ومطارد للمنفلتين من قبضة النظام (سواء كان اشتراكياً أو رأسمالياً أو بين بين).
حصل دائماً على مكافآت مناسبة لكل عصر. في عهد الاشتراكية والعروبة والشباب المتحمّس عيّن رئيساً لتحرير جريدة «الشباب العربي»، ثم عضواً في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي. وفي عهد حسني مبارك كان الولاء صفة جوهريّة، والتطهير مهمة أساسية، سواء وهو رئيس لجامعة القاهرة أو وزير للتعليم العالي. لم يحصل مفيد شهاب على موقع كبير الطهاة في مطبخ مبارك، وربما لا يدير كبيرٌ مطبخ مبارك. الطهاة متساوو الرؤوس، كل منهم يقترب بحسب المزاج أو القدرة على قتل المتنافسين. شهاب طمح إلى مواقع في السلطة التشريعية، لكن هناك طهاة أقوى كوّنوا حواجز رهيبة أمامه. وبقيت له في الفترة الأخيرة مهمة طهو القوانين السريعة.
في هذه الرحلة كانت القيمة العلمية للدكتور شهاب تقلّ؛ فمن العريضة القانونية التي استعادت بها مصر طابا في معركة التحكيم الدولي مع إسرائيل، إلى صياغات ركيكة لمواد التعديلات الدستورية ولقوانين أخرى لا يفخر بها أصغر عارف بالقانون.
وعلى النقيض تماماً، كانت مهارات الدكتور شهاب في التطهير تبرع وتتخذ أبعاداً شرسة؛ فالرجل الذي يبدو للوهلة الأولى لا ينفعل ولا يتفاعل مع مجريات الأمور، بدا في جولات الدفاع عن قوانينه وموادّه المطهوّة على بخار الخلود الرئاسي شرساً وعنيفاً ومتوحّشاً. بدا مدافعاً عن طبخته قبل أن يتذوّقها.
من أين أتت هذه الشراسة؟ شراسة الطهاة الذين يطهون طبخة يريدون للمجتمع بلعها بالقوة. يستغلون أنّ المجتمع جائع (للديموقراطية) وغارق (في البحث عن لقمة العيش) ومقموع (لن يعترض وسيأكل حتى الزلط).
استعراضات الطهاة مثيرة للأسى تقود البلد كله إلى المجهول.

■ حفلة ذكر على «بحيرة الأمان الثوري»اشتعلت حفلة الذكر بكامل «صهللتها» وأعادت إلى الوجود الثقافي نجوماً لا يسمع صوتهم إلّا في هذه الحفلات والمحافل. الحفل صاخب وبالكاد يمكن أن يُسمع صوت عاقل أو هادئ
«امنعها، احذفها، اطردها»، كانت هذه الصيحة ضد الشاعرة إيمان مرسال. أما «الإخوان المسلمون» فتتبعوا آثار سير الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل ليصرخوا «اعتذر حالاً وفوراً». لم تكن الصرخة رداً على رأي هيكل بأن «الإخوان» لن يصلوا ولن يصلحوا للسلطة. لكن الصرخات اصطادت حكايته عن زيارة لنصب الهولوكست. قالوا: «امسك... مطبّع». لم ينفع التوضيح بأنها ليست زيارة إلى إسرائيل، ولكن في ألمانيا. الصرخات ظلت تدوّي. وبجوارها لحقت إيمان مرسال صيحات مماثلة بدروشة أكثر ومع الرؤوس التي تهتز بإيقاع رتيب: «مطبِّعة، مطبِّعة». يضبط الإيقاع من الناحية الأخرى صيحات مفاجئة تسحب الاعترف بها كشاعرة أو همزات عن رغبتها في العالمية، أو بحثها عن «جغرافيا بديلة»، اسم ديوانها الذي تُرجم إلى العبرية.
هيكل وجد من يسمعه ومن يتحدث عن «نضاله» من أجل القضية الفلسطينية. لكنه لم يفتح باب النقاش بشأن ماذا يعني التطبيع اليوم؟ متى وكيف يندرج الفعل نحو التطبيع؟ وهل يمكن أن يكون شخص ما «مطبعاً»، وفي الوقت نفسه رافضاً لوجود إسرائيل؟
قصة إيمان مرسال فتحت باب التفكير بقوة. ربما لأنها بعيدة عن حسابات السياسة. ولكن غالباً لأنها تمتعت بشجاعة الاعتراف في ما يمكن أن تنكره أو تفعله سراً. عشرات غيرها يوافقون على الترجمة إلى العبرية، بل ويوقّعون عقوداً ثم ينكرون ندماً، عندما تسألهم الصحف. ايمان حكت ما حدث: ساسون سوميخ (الإسرائيلي من أصل عراقي، الذي ترجم نجيب محفوظ وغيره من الكتّاب العرب) أرسل رسالة إلكترونية يطلب فيها موافقتها على ترجمة الديوان إلى العبرية، وهي ردّت «لا أعترض على نشر الكتاب بالعبرية. وأرى أن من حق كل لغة أن تترجم ما تشاء لقرّائها».
الشجاعة في الاعتراف ورغبتها في الاتّساق بين الفعل والعلن هما ما فتحا الباب لحوار عن التطبيع الذي تحوّل إلى بحيرة «أمان ثوري» تقيم حولها مجموعات تحاول أن تحتكر دور الوصاية ومنع التفكير.
رفض التطبيع هو أسلوب سياسي ظهر عام 1979 بعد توقيع كامب ديفيد. المصطلح يخصّ العلاقة بين فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين ظهرت أفكار عن عودة العلاقات إلى طبيعتها. والعلاقات بين العرب وإسرائيل لم تكن طبيعية ولن تكون في ظل وجودها الاستيطاني العنصري التوسعي.
إسرائيل ليست كائناً خرافياً أو كياناً غير موجود، إنها موجودة على الحدود تحتل أرض شعب وقع في أسرها من 1948. وبعد مقاطعة الدول العربية بقيادة مصر للاعتراف بوجودها، لم يعد باقياً سوى دول معدودة على الأصابع لم تعترف بالوجود السياسي.
وجود إسرائيل كخرافة أقوى وأكثر تأثيراً. تكبر أسطورتها في عقلية تبحث عن مؤامرة دائمة. مؤامرة تريح البال من التفكير. التفكير هو إحدى مشاكل الصراع مع إسرائيل، بدايةً من أوهام النكبة (الأسلحة الفاسدة)، إلى ارتباك الشعوب العربية في العلاقة مع اليهود وحتى رغبة أنظمة العسكرتاريا في حشد المجتمع كله تحت رؤية واحدة للصراع مع إسرائيل.
عقلية تجييش وحشد لا تفكير وإرادة سياسية. هذا ما ورثه بعض المثقفين الذين بدلاً من البحث عن شبكة واسعة من التصدي لإسرائيل (التوسعية الاستيطانية العنصرية)، يبحثون عن إجماع يوافق على وصايتهم، لا عن إرادة قوية تواجه العجز والاستسلام لمنطق الضحية الدائم.
التطبيع ورقة قوّة. لكنها عندما تتحول إلى فزّاعة فإنها لا تصنع حائط صدّ أو خط دفاع قويّاً ضد الهجمات الصهيونية. هي تضمن استمرار الحاجة إلى الأوصياء، هم وحدهم يحتكرون رسم حدود التطبيع.
التطبيع خرج كفكرة في مواجهة جنوح السلطة. لكنه يزداد غموضاً ونزوعاً لتكريس كهنة مقدّسين يرون مثلاً أن الكاتبة أهداف سويف زارت إسرائيل لخدمة القضية الفلسطينية، بينما الآخرون يزورونها في مهمّات تطبيعية. من يحدّد؟ وأين يبدأ التطبيع؟ وأين ينتهي؟
التطبيع انتشر في لحظة متشنّجة كانت فيها سلطة السادات تحاول تغيير مسار القطيع ليكسر الحاجز النفسي مع الأعداء. اللحظة متشنجة، لكنها أصبحت واقعاً. التشنج يمكنه أن يمنع الاختلاف. ماذا سيحدث إذا اختلفت معك في أسلوب التطبيع وأنا ضد إسرائيل؟ من الخائن؟
هناك كسالى يطمئنّون إلى بحيرة الأمان. ويرفضون التفكير ويخرجون من كهوفهم ليشتركوا في حفلة ذكر كلما اصطاد الكشّافة الجدد صيداً ثميناً. وهناك من أصابهم الملل، ورأوا أن الصراع مع إسرائيل فيلم قديم علينا أن ننساه ونلتحق بالعالم المتقدّم وننسى الحق الفلسطيني «ووجع الدماغ ده كله».
أبناء العقليّات الكسولة يتلاقون مع أبناء الملل في هدف واحد: تحويل التطبيع إلى سرّ مقدس، غامض تتناقض معاييره حسب الطلب أو حسب النظرة إلى الشخص. فالدكتور ادوراد سعيد (له حساباته الخاصة بجنسيته) ونجيب محفوظ (كاتب كبير) ومحمود درويش (هو القضية نفسها). هكذا تتوقّف التهم عند هؤلاء بعد أول خمس دقائق لأن هناك من يدافع عنهم من سكان بحيرة الأمان الثوري.
التخلص من هيمنة فكرة العسكرتاريا والقطيع مهمة غائبة؛ فالأنظمة برّرت استبدادها بإسرائيل، وكلما كان يختلف أحد مع طريقتها كانت تتّهمه بالخيانة والخروج عن الجماعة. رغم أن الجماعة المثقّفة لا بد أن تكون حاضنة للتفكير الحر والفردي.
قوة رفض التطبيع في انفتاحه على أفكار وتصوّرات لا في تحويله إلى هاجس مرضي.