وائل عبد الفتاح

هكذا انتهى «ربيع الحرية»



من يحمي الأبقار المقدسة؟ لم ينشغل الرجل إلا بالنظر إلى الكيس الذي تلمع داخله حبات حمراء. ضحك وداعب حامل الكيس: «منذ متى أصبحت ثرياً؟».
جنون الطماطم حوّلها إلى ثروة بعدما قفز سعرها من ٣ جنيهات إلى ما يقرب من ١٥ جنيهاً. ارتفاع لم توقفه حملات الحكومة لإعادة المجمعات (من تركة العهد الاشتراكي) إلى الوجود وتقديم طماطم رخيصة بخمسة جنيهات.
تصريحات المسؤولين لتبرير الجنون الأحمر لم تبرد نار ارتفاع الأسعار، ولم تسيطر على آثارها الحارقة. قطاعات اجتماعية تخسر مكانتها في المجتمع بسبب سياسات غير عادلة، وأخرى تتسابق في ماراثون ترسم حدوده قوى تعيش في عزلتها المقدسة.
قوى مقدسة، لا تُرى ولا يُعرف حجمها، لكن يشعر بوجودها؟
خف الحضور المقدس في سنوات «ربيع الديموقراطية»، وبدت أساسيات جمهورية «الفرعون» تميل إلى تفكك بلا أفق ولا ملامح.
«الربيع» تحول إلى فوضى، وتسييس من أسفل، لم يتحول إلى كيانات، أو مؤسسات بديلة. وهذا ما أوحى للقوى بأن تتخذ بسهولة (من يعمل بمفرده على الساحة) قراراً باستعادة قداستها، وهيبة الدولة، لكن بأسلوب يستفيد من معطيات «الربيع».
لهذه القوى سحرها الطاغي، صدقت الشرائح العريضة كلاماً مبثوثاً بشكل ما عن إغلاق الفيس بوك، بعد حملة في التلفزيون الحكومي عن خطورة الموقع الاجتماعي، وتبعيته لأجندة استخبارية، واستخدامه أداة لتخريب البلد. المذيعة، المنتمية إلى الحزب الوطني الحاكم بشكل عضوي، ظلت تنصح العائلات بمنع «مصاص» الدماء والوطنية من العرض أمام الشاشات.
«الفيس بوك»، بعد تحوله إلى ساحة افتراضية للمنضمين الجدد إلى مسرح الشأن العام، أصبح مادة لحملة من البروباغندا الحكومية في إطار حرب منظمة لاحتلال كل المساحات التي أثمرها «الربيع» واحتلتها احتلالاً شبه منظم أموال تعمل لمصلحة الأبقار وتستنفر الآن لتعيد قداستها.
المعارضة الجديدة حطمت الأسوار الشائكة حول الأبقار، ونالت من قداستها. وها هي حملة حصار المشاغبة الإعلامية، تتحرك من شركات ميديا (إعلانات وتلفزيون وصحافة) حاصرت المشاغبين وحولتهم إلى ضحايا ومطاريد يُشغَلون بموقعهم، بعدما كانوا مكاناً للدفاع عن مطاريد النظام.
التحوّل ليس بسيطاً، فالانشغال بالذات، بدلاً من الدفاع عن الآخرين، انقلاب دراماتيكي، يُعلي من شأن القوى المقدسة وأدواتها الجديدة.
شركات الإعلان إحدى هذه القوى الجديدة التي تتحكم في الصحف الخاصة وترسم بنحو خفي سياساتها. الصحافة الشعبية (المدونات وغيرها) كشفت عن وعي بتفاصيل هذه الشبكة الحريرية المرسومة حول الميديا.
يكتب جيمي هوود، في مدونته عن دور علاء الكحكي في أزمة «الدستور». الاسم تكرر أكثر من مرة، وظهر من الظل ليبدو شريكاً غير مرئي في الأحداث، هو صاحب إحدى شركتي إعلانات تتحكم في الميديا المصرية. وفي عزّ الأزمة، عرض الشاري الأول لصحيفة السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، أسهمه على الكحكي، ولم يعرف قرّاء الخبر أن الكحكي شريك للبدوي في شركة الإعلانات التي قال إنها اشترت حقوق إعلانات «الدستور» واعترضت على وجود إبراهيم عيسى. وهي الشركة نفسها التي تدير صحف «المصري اليوم» و«الشروق» و«اليوم السابع» إعلانياً.
يتساءل جيمي هوود: «من صاحب أسوأ تغطية صحافية لأزمة الدستور؟ الإجابة ببساطة المصري اليوم والشروق. اللي بكل بساطة متعاقدين مع شركة «ميديا لاين» وعلاء الكحكي على حقوق الإعلان بالجريدتين».
ومن الراعى الرسمي لتصريحات السيد البدوي ورضا إدوارد؟ ببساطة أيضاً «اليوم السابع»، المتعاقدة إعلانياً مع شركة «ميديا لاين» التي تؤدي أيضاً دور المنبر الإعلامي لعلاء الكحكي الذي يقود معاركه من خلالها، فضلاً عن عدة صفقات وتحالفات أخرى مثيرة للجدل، إضافة إلى شرائه جريدة «وشوشة» منذ فترة قصيرة بـ9 ملايين جنيه (الرقم الحقيقي لا يتجاوز مليون جنيه في روايات أخرى) نتيجة للديون المتأخرة عليها.
الكحكي مندوب إعلانات سابق في قنوات سعودية، استقال منها وأسّس مع زميل له شركة صغيرة، سرعان ما كبرت لتستحوذ على إعلانات أكثر من قناة وصحيفة مصرية. والقفزة الكبرى حدثت مع شراكة الكحكي والسيد البدوي في شركة يحتار المتابعون للسير المالية للشركات في مصدر أموالها الضخمة.
وبعيداً عن الحيرة في مناخ الشك المالي، تؤدي شركة الإعلانات هذه دور رأس المثلث في إعادة رسم فضاء الميديا، بما يعيد القداسة للأبقار.
لا تتدخل الأجهزة إلا بما تمنحه من سماح بحرية الحركة لهذه الشركات التي تصنع أبطالاً، كما تصنع ضحايا. وعلى نحو متواز مع تصفية «الدستور» وضرب مواقع حرية نقل المعلومات (الرسائل الإخبارية والفايس بوك وبرامج التوك الشو) يُثمَّن مذيع آخر وتُصنَّع بطولته عبر وقف القناة التي يعمل بها، وتوقيف برنامجه اليومي.
بطل في مواجهة القبضة الغاشمة، هذه صورة المذيع الطويل اللسان على الجميع إلا الرئيس. وكما كان يؤدي أدواراً محدودة عبر السماح له بنقد لاذع، سيؤدي دوراً أكبر بعد توسيع قميص بطولته ليصبح ضحية إغلاق قناته السعودية.
وغالباً سيظهر المذيع حزيناً، قبل أن يقرر دخول المعركة الانتخابية المقبلة على قائمة حزب جرى تصنيعه ليؤدي دور حزب المعارضة الكبير. وسيجري ذلك بعد أن يكون قد خلع العباءة السعودية ودخل في مصاف بطولة مصرية يقدم بعدها برنامجاً لا يخلو من صدقية ويساهم في مرحلة توازن جديدة بين عودة الأسلاك الشائكة حول الأبقار المقدسة، وبين تسريب الاحتقان عبر الحرية الفوارة في الميديا.

هستيريا المال والسياسةلا صوت يعلو فوق صوت الثروات الهابطة بغموضها. لاعبون جدد في ملاعب السياسة يمتلكون شيئاً واحداً: المال. من دونه لا حضور ولا قوة ولا نفوذ
أسماء تلمع في صناعة السياسة في مصر من دون تاريخ سياسي، من رئيس حزب «الوفد» السيد البدوي، إلى رضا إدوار مالك جريدة الدستور ومحطمها، ومن قبلهما هشام طلعت مصطفى وأحمد عز، إلى آخر قائمة طويلة جداً من أشخاص حققوا وجودهم السياسي عبر الثروة ولا شيء غيرها.
عصر جديد من السياسة، ينافس فيه أمراء المال فرساناً من قطاعات اجتماعية تدخل مسرح الشأن العام، وتحاول طرح مطالب بناء دولة ديموقراطية.
عصر جديد لا حدود للمنافسة فيه. المال فيه بلا أفكار كبرى، غير شغل المساحات والتخديم المباشر على المصالح. في السابق كان السؤال: لماذا تتضخم ثروات الشخصيات السياسية الكبيرة بمجرد العبور إلى دائرة الضوء؟
لم يعد السؤال مطروحاً الآن بالقوة نفسها، المال سيد السياسة ومحركها، وفاتح أبوابها العتيدة، ولم يعد صادماً أن يتشارك وزراء في شركة تربح ٣٠ ملياراً في سنة واحدة من بيع أراضٍ منحتها لها الدولة.
هؤلاء، مع فرض قانون البقاء للأغنى، هم من لهم الحق في الفوز في الانتخابات، والترشح على قوائم الحزب الحاكم أو غيره من أحزاب مستنسخة، أو من يسيطر على وسائل الإعلام (شركات البث والإعلان). شبكة غريبة تسيطر على الواقع (أراضٍ وعقارات) عبر أدوات (أحزاب وقنوات) وتعيد تخطيط الملاعب السياسية (السيطرة على السلطة التشريعية).
الحدود غائمة بين السلطة و«البيزنس»، ليس زواجاً تقليدياً يسمح باستخدام السلطة للمال، لكنه ترسانة مصالح يحمي بها المال السلطة، وتعبّد بها السلطة طرق الثروة السريعة للمغامرين.
لم يعد المال محايداً، ولا أداة، إنه شريك يسعى إلى الشراكة الكاملة في حكم البلاد. هناك منطقة حمراء في «البيزنس» أيضاً، على كل من يقترب منها دفع نسبة معروفة لشبكة سرية لا يعرفها.
لمن؟ لا يعرف صاحب الحكاية الذي يؤكد: «إذا وصلت أعمالك إلى رقم معين، فإنك لا بد أن تدفع نسبة ١٥ في المئة لكي يسمح لك بالاستمرار أو الوجود أصلاً».
هذه أعراف تتغير طبعاً، وتتبدل، لكنها تسير في إطار محكوم بالوعي الذي تغير فيه وضع الاقتصاد في مصر، من دولة تملك الثروة وتديرها، إلى دولة تدخل عصر السوق وعليها توزيع الثروة، فاختارت مجموعات يمكن السيطرة عليها ومنحتها عطايا. هم ليسوا طبقة رأسمالية ورجال أعمال، هم موظفون من الباطن يديرون ثروة الدولة.
بعضهم تجاوز الآن وضعه الوظيفي، ويقترب من أدوار أعلى. لكن القانون العام هو أن الدولة تمنح وتمنع، وكل رجالها في البيزنس، ليسوا شخصيات مستقلة، لكنهم رعايا، منحهم الباب العالي بركته.
هكذا يلتقي العابرون إلى المناطق الحمراء في السياسة والاقتصاد ويرسمون خريطة مستقبل مصر. هناك وجه شبه بين أصحاب الثروات السهلة وأغنياء الحضارة الرومانية في اختراع فنون الترف والبذخ إلى آخر مدى. سادة روما كانوا سبب سقوط الحضارة الكبيرة، فماذا سيفعل سادة الثروات المترفة في مصر؟ بالطبع هناك وجه اختلاف كبير، هو أن أغنياء روما شاركوا بشكل ما في بناء حضارة عظيمة. لكن ماذا فعل أصحاب الثروات المترفة في مصر؟
يحكي صاحب مجموعة عقارية أن زبائنه لا يتغيرون، لهم في كل مشروع قصر صغير، لماذا تتعدد القصور؟ وكيف تكوّن المال السهل ليصبح مصدر قلق شخصي يختلف طبعاً عن قلق ١٣ مليون شخص يعيشون في العشوائيات وغيرهم من الشرائح التي تُلقى إلى ما تحت خط الفقر ولا يستطيع أفرادها استكمال طلباتهم الأساسية من غذاء وتعليم وصحة.
قلق شريحة الأثرياء يخلق حالة هوس «عقاري» بامتلاك مساحات، يتصارع مع هوس العثور على مساحة بالنسبة إلى فقراء تتكاثر شرائحهم من ١٨ إلى ٢١ في المئة في سنوات الأزمة العالمية.
الهوس بالمساحات يتحول إلى إيقاع بناء منتجعات وعشوائيات، هستيريا تعبّر عن نفسها سياسياً بتحويل الانتخابات إلى عملية شراء أصوات.
هذا هو اللقاء الوحيد بين طبقات الثروة السهلة (أو من ينوب عنها في الدفاع عمّن يعيشون خلف حواجز الرفاهية) وبين طبقات تدرك أن الحياة صعبة ورهن بيع أي شيء في السوق (وهو التعبير السائد عن الفن والثقافة والسياسة والإعلام).
ينتج من اللقاء كيان سياسي هجين بين تنظيمات الدولة الشمولية الواحدة (حزب حاكم وحيد) وبين مجالس الأثرياء والإقطاعيين (حيث لا يمر سوى من يملك حصصاً وأراضي وحسابات بنكية وقدرة على إنشاء جيش من البلطجية).
المال متطرف الآن في مصر؛ قاتل ومصاص دماء ونتاج طبيعي لتطرف السلطة. تطرفها يقود الغرائز إلى الحافة دائماً، المال لا يبني في مصر، لكنه يصنع حالة وجود هستيري لأصحابه. يبحثون فيه عن الامتلاك والاحتكار، يبحثون عن جمال متطرف يقود إلى الجنس القاتل لا إلى المشاعر والعواطف.
باشوات اللحظة الراهنة يملكون ثروات متوحشة وعقولاً فارغة وأرواحاً معتمة. يشبهون أغنياء الحرب الذين كانوا مسخرة الصحافة في مصر بعد الحرب العالمية الثانية. جمعوا ثروات من التجارة في مخلفات الحروب. ثروات لم تترافق مع نقلات في الوعي ولا الثقافة ولا الذوق.
يركّبون حياة من حطام كل شيء؛ الأخلاق والحداثة والتدين والقيم والوطنية، في لوحة ترسم أفقاً جمالياً للثروة الغامضة.