أيام قليلة وتدخل الأزمة المالية العالمية عامها الثالث، ولا تزال تداعياتها أمراً معيشاً في كثير من الدول، ولا سيما تلك التي تأثر اقتصادها بنحو كبير من جرّائها. إمارة دبي كانت نموذجاً عربياً معبّراً في هذا الإطار. وآثار الأزمة بدت واضحة في مفاصلها الأساسية. كيف تبدو دبي اليوم بعدما ضربتها أعتى الأزمات، وهي التي تطمح إلى أن تكون مركزاً مالياً ضخماً، لا بل بديلاً من هونغ كونغ
دبي ــ جنى نصر الله
هادئة هي دبي هذه الأيام. إيقاعها رتيب والحياة فيها مملة. الملل كان دائماً صفة ملازمة بالنسبة إلى البعض، أما اليوم فهو يكاد يكون حالة عامة خيّمت على الإمارة منذ بدء الأزمة المالية التي استوطنت الإمارة قبل نحو عامين.
لا مفاجآت جديدة تحملها إليك دبي، كما دأبت أن تفعل منذ نشأتها. وهذا دليل تراجع، أو في أحسن الأحوال مراوحة، وخصوصاً أن الإدهاش مثّل فلسفة هذه المدينة وأساس وجودها. أصبحت دبي مدينة طبيعية تنمو وفق المقاييس المتعارف عليها عالمياً وتتطور بفعل تراكمي، كما هي حال كل المدن، حتى أكثرها ازدهاراً وحضارة.
لم تكن هذه هي حال الإمارة في الأمس القريب، عندما كانت تغيّر شكلها بسرعة تضاهي ما تفعله عارضات الأزياء في حفلات العرض. كان المقيمون فيها إذا غابوا عنها بضعة أشهر، لا يمكن أن تتجاوز ستة وإلا خسروا إقامتهم وفق قوانين البلاد، تاهوا عن الطرق المؤدية إلى بيوتهم التي نبتت فيها ناطحات سحاب، فيما كان يحتاج الزائرون في كل مرة إلى خريطة طرق جديدة ليصلوا إلى مقصدهم من دون أن يضيعوا في الطرق المستحدثة أو بين الجسور المعلقة في الهواء.
كانت الأبنية تعلو بسرعة محيّرة لا يمكن إلا أن تثير تساؤلات ربما بدت ساذجة من نوع «متى رسموا الخرائط ووفروا التمويل وجاؤوا بالعمال وحفروا الأساسات؟»، وسواها من الأسئلة التي يستنبطها كل وافد ويعدل في ترتيبها ربطاً بالتجربة في بلاده. أما الأكثر رومانسية فكانوا يتهمون الإمارة بعدم احترام ذاكرتهم، إذ إنها لا تبقي مكاناً على حاله، فإما أن تضيف إليه ومن حوله فتضيع هويته الأولى، وإما أن تهدمه من أساسه.
كان الوضع جنونياً قبل بدء الأزمة، إذ كان إنشاء حيّ جديد بمبانيه ومراكزه التجارية ومصارفه وناسه مسألة في غاية البساطة والسهولة. هكذا مثلاً تحولت البرشاء، المنطقة الفاصلة بين الشيخ زايد وجبل علي، إلى منطقة مزدهرة ومكتظة بعدما كانت تثير شفقة سائق التاكسي الهندي أو سخريته من إحدى القاطنات عندما كانت تعطيه عنوان البيت، إذ كان يقول لها بإنكليزيته الركيكة: «I know Madam, only one yellow building». كان بناءً وحيداً لونه أصفر معزولاً في صحراء مترامية.
هكذا كبرت دبي وتوسعت خلال أقل من عقد، فنشأت مجمعات سكنية جديدة يسمونها مدناً في عمق الصحراء، علماً بأن الأعوام الخمسة الأخيرة التي سبقت الأزمة شهدت فورة استثنائية. فكانت مدينة جميرة التي بنيت على شكل أسواق قديمة، وكان مول الإمارات وهو الأكبر في الشرق الأوسط، وكانت دبي مارينا حيث حلّقت أسعار الشقق عالياً، قبل أن ترتطم أرضاً محدثة دوياً صاخباً، وكانت «جميرة بيتش رزيدنس» التي بنيت بمحاذاة الشاطئ وأحاطته بأسوار من الأبنية الشاهقة لتكون أحد آخر المشاريع الضخمة التي شهدتها دبي قبل أن تلج الأزمة، ثم جزيرة النخلة التي كان يُخطط أن تصبح مصيفاً للنجوم العالميين، فإذا بالفراغ يعصف في أرجائها، وكان طبعاً برج دبي الذي كسر التأخر في إنهائه قاعدة الالتزام في المواعيد المحددة التي تقدّسها دبي، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بإنجازاتها، فجاء التأخير إشارة إلى عمق الأزمة. أما تغيير اسمه إلى برج خليفة، فكان دلالة دامغة على اشتدادها.

إغفال الأرقام

أصاب الشلل دبي وأصبحت الأبنية غير المنجزة مشهداً مألوفاً في هذه الإمارة التي تعشق استخدام أفعل التفضيل، وترغب دائماً في امتلاك الأكبر والأضخم والأطول، ما جعل مندوب غينيس في إقامة شبه دائمة في ديارها، ولكنه يبدو اليوم في إجازة غير محدودة الأمد، شأنه شأن كثيرين ممن يعملون في هذه المدينة، مع فارق بسيط أنه يعيش كما الإمارة على أمل استعادة وظيفته حين تستعيد هي نشاطها المعهود. أما الموظفون، سواء كانوا مديرين أو عمالاً، بأجور باهظة أو زهيدة، فقد غادرت نسبة كبيرة منهم إلى غير رجعة، إذ لم يكن هذه المرة من فضل لأعجمي على عربي... بعدما وحّدتهم الأزمة المالية، وهي من المرات النادرة التي يتساوى فيها الأجانب مع العرب في هذه المدينة التي كان يكفي أن يحمل فيها طالب الوظيفة جواز سفر أجنبياً، مع أولوية للإنكليزي والأميركي والكندي والأوروبي الغربي، حتى يحصل على راتب مضاعف لما يمكن أن يحصل عليه العربي، وإن تمتع بالكفاءات نفسها. وإلى راتبه أيضاً يُضاف «بدل الحرارة»، الذي لا تلحظه رواتب أبناء الجالية العربية، حتى لو كانوا قادمين من أعالي المناطق الجردية في لبنان، حيث تنخفض الحرارة إلى ما دون الصفر شتاءً!
باتت عبارة «التفنيش»، أي إنهاء الخدمات باللغة الإنكليزية ـ الخليجية، الأكثر شيوعاً وترداداً في أرجاء الإمارة
وحين يخسر الوافد وظيفته في دبي، لا يعود لبقائه أي معنى، أو بالأحرى إمكانية، إذ إن إقامته تُلغى تلقائياً. ولعل أسطع دليل على انخفاض أعداد الوافدين في الإمارة وإليها، هو غياب زحمة السير التي كانت من علاماتها الفارقة. فحتى سائقو سيارات الأجرة الذين يعملون في مؤسسة تابعة للحكومة تعرّضوا لـ«التفنيش»، وفق التعبير الإنكليزي ـــــ الخليجي الذي يعني إنهاء الخدمة. العبارة باتت الأكثر شيوعاً، وتتردد أصداءها في كل أنحاء الإمارة، وذلك بعدما انخفضت الحاجة من ستة آلاف سائق قبل بدء الأزمة إلى ألفين فقط بعدها. وتشير المعلومات غير الرسمية إلى أنه يُستغنى عن 100 سائق شهرياً من دون احتساب أولئك الذي بادروا إلى الاستقالة بعدما تقلص دخلهم، وخصوصاً أنهم يتقاضون نسبة مئوية تصاعدية ربطاً بعدد الرحلات التي يقومون بها خلال الشهر.
وتراجع الطلب على سيارات الأجرة ليس مرتبطاً ببدء تشغيل المترو، بدليل أن المراكز التجارية تبدو شبه خالية من روادها، بعدما كانت تزدحم بأعدادهم الهائلة، ولا سيما في عطلة نهاية الأسبوع. أما المتاجر في الداخل، فباتت تصطاد الزبائن الذين كانوا يقفون حتى الأمس القريب في صفوف طويلة أمام صناديق دفع بدل المشتريات، علماً بأن عدداً كبيراً منها أقفل أبوابه أو استغنى عن الفروع التي كان يسارع إلى حجز مكان لها في أي مركز تجاري جديد.
وحدها الأرقام كفيلة بإعطاء صورة واضحة عن واقع الأزمة وتداعياتها، اقتصادياً واجتماعياً. ولكن إمارة المعادلة الرقمية، حجبت كل الأرقام على هذا المستوى. فلا معلومات رسمية معلنة عن أعداد الذين صرفوا من العمل منذ بدء الأزمة، أو عن المتاجر التي أغلقت أبوابها أو المؤسسات التي أعلنت إفلاسها، أو الشقق التي فرغت من قاطنيها. وحدهما الرصد والمراقبة بالعين المجردة، معطوفين على الأخبار التي تتناقلها الألسن، ترسم واقع الإمارة التي مهما حاولت أن تخفي الأرقام، فإن حركة أسواقها المالية تكشفها.

«سالك» الصديق الحميم

حين يهتز الاقتصاد وتنحسر فرص العمل ترتفع البطالة التي تعني في دبي تراجعاً في اليد العاملة الأجنبية، وبالتالي في القدرة الشرائية. حينها لا بد أن تكون النتيجة البديهية ارتفاعاً في أسعار السلع وزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، يقابلها تراجع في الخدمات. هذا هو الوضع في دبي، الذي لا يبدو سهلاً على إمارة أرادت أن تكون عكس ما وصلت إليه نتيجة أزمة عالمية أرخت بثقلها على معظم دول العالم. ولكنّ انعكاس الأمر عليها كان أشد وطأة، وخصوصاً أنها لا تزال إمارة فتية ولا تملك أي ثروات طبيعية، وأرادت أن تحجز لها مكانة على الخريطة الاقتصادية بسرعة صاروخية.
وحدها أسعار العقارات انخفضت في دبي، ولكن كل ما عدا ذلك ارتفع ارتفاعاً جنونياً، بدءاً بالمواد الغذائية والملابس مروراً بالماء والكهرباء، وصولاً إلى النفط، الذي يمثّل ارتفاع أسعاره مفارقة في بلد خليجي. وجاء «سالك» حبيب الشعب، ليزيد في الطين بلة. و«سالك» هو الضريبة المرورية التي يدفعها السكان كلما استخدموا الطرق العامة في وسط المدينة نفسها، لا خارجها، كما هي الحال في الدول الأوروبية من حيث استُقدمت الفكرة. وهكذا يصبح «سالك» شراً لا بد منه. لذا، يسمّيه أحد الظرفاء الصديق الحميم. فهو لا ينساك حتى لو أنت نسيته.
اعتاد الناس في دبي «سالك» وقبلوه، وإن على مضض. ولكن المفاجآت المرورية لا تنتهي، وخصوصاً أن تحرير المخالفات يدرّ أموالاً تحتاج إليها الخزينة، لذا أُسقط نظام التنبيه الذي كان يسبق تحريرها، وصار هناك ضبط مهما كانت المخالفة بسيطة، من نوع ركن السيارة بضع دقائق إضافية بعد انتهاء المدة المدفوع أجرها. والشرطي لا يناقش، فهو منهمك في تحرير المخالفات، كما قال لأحد المخالفين مبرزاً دفتره: «انظر كم مخالفة حررت ولم ينتصف النهار بعد، وهناك المزيد ينتظرني». هذه عينة من الضرائب غير المباشرة الدسمة، وخصوصاً أن قيمة المخالفات تضاعفت قيمتها. ولا تزال القائمة طويلة. ففي كل فترة تبتدع الحكومة معاملات جديدة وأوراقاً لا بد أن يستحصل عليها المواطنون والوافدون على السواء. والغاية: جباية مزيد من الأموال لدعم الخزينة.
غيّرت الأزمة المالية وجه دبي، وهذا ما بدا جلياً بعد انقضاء عامين على انفجارها. وإذا كان العزاء أنها لم تدفع وحدها الثمن، فإن الرجاء أن تستعيد دورها مع انقضاء مفاعيل هذا الكابوس الذي هزّ أهم الأمبراطوريات الاقتصادية. والمقصود هنا، أن تعود مدينة الخدمات والرفاهية بما بتطابق وأكثر الشعارات التي تدغدغ طموحاتها. ولا سر في القول إن الخدمات، من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، شهدت تراجعاً ملحوظاً في هذه الإمارة التي لطالما تغنّت بقدرتها على تطبيق الشعارات مهما علا سقفها.
... أما اليوم، فبين الشعار والواقع هوة كبيرة تتجنّب الإمارة السقوط فيها، لتبدو كمن يرقص على الحبال.


حين يصبح الفندق مزاراً

اختارت دبي أن تكون إمارة سياحية منافسة، فسخّرت أموالاً طائلة لامست حدود اللامعقول. ابتكرت التزلج والرقص على الجليد، استقدمت أنواعاً نادرة من الأسماك وضعتها في أكبر الأحواض الداخلية، أتاحت لهواة النوع السباحة مع كلاب البحر، ولسواهم مشاهدة نوافير المياه تتراقص على موسيقى كلاسيكية، ولمن لا يخشى الأماكن الشاهقة يمكنه الصعود إلى أعلى برج في العالم.
ولكن كان على دبي أن تبتكر دائماً، لأن السياحة الاصطناعية محدودة الصلاحية في إثارة الدهشة. فبرج خليفة لن يصبح يوماً برج إيفل، وفندق «اتلنتيس» في جزيرة النخلة لن يكون متحف القاهرة التاريخي. ولكن المفارقة أن «معالم» دبي السياحية جذبت أعداداً هائلة من السياح الذين لا يجدون حرجاً في التقاط صور تذكارية في فندق ،كما لو كان قلعة أثرية. إنها الشطارة في التسويق ومعها يصبح الفندق متحفاً والبرج مزاراً وأحواض السمك «هجنة».