مما لا شك فيه، أن عملية «طوفان الأقصى» أعادت فلسطين إلى الواجهة، كقضية أساسية في ضمائر شعوب العالم، وبرهنت أن الكيان الإسرائيلي قاعدة قتل وإجرام، وليس وطناً لشعب اضطُهد وحُرق، ووجدَ وطن أجداده الحل بحسب زعم مؤسّسيه.«طوفان الأقصى» أظهرت حقيقة جيش الاحتلال والدول الشريكة والداعمة له، لتظهر للجميع مشاريعهم المراد تنفيذها بلا أي قناع قد ارتدوه سابقاً، أمام العالم وأمام شعوبهم.
هذه الدول الاستعمارية الشريكة في دعم الكيان، أدركت أن استئصال المقاومة العسكرية في غزة هدف مستحيل، خسائره عميقة الأثر في بنية الكيان وشرعيته، وشرعية هذه الدول أيضاً، وأن الهدف الآخر لدى الاحتلال وأعوانه، عزل شمال القطاع عن جنوبه، وتهجير الأهالي منه، عبر قتل مناحي الحياة كافة في القطاع. ويعمل من أجل الهدفين بلا أي رادع، رغم الخسائر التي يجنيها على مستوى الرأي العام العالمي.
فعدوان الكيان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليس انتقامياً فقط، بل هو سعي لتأسيس واقع جديد لتنفيذ مشاريع كبرى، تتداخل فيها دول في العالم وبعض دول المنطقة.
يقول البعض إن المقاومة هي التي بادرت في 7 تشرين الأول، وهذا رد فعل من الأعداء. لكنّ الحقيقة أن العدوان على غزة معدّ مسبقاً ومستمر منذ احتلال فلسطين. والأمر فقط مفارقة بين من يريد تحرير أرضه والأسرى وإفشال مشاريع التطبيع، ومن يريد تصفية القضية، ويبحث عن أسباب لتنفيذ عدوان له مخطط إستراتيجي.
مبادرة المقاومة بالهجوم، تقع ضمن ذهنيتها وخططها لتحقيق إنجازها التاريخي في «طوفان الأقصى»، وقد جعلت هذه العملية الكيان يبدو على حقيقته الهشة، ما استدعى التدخل الاستعماري لحماية المستعمرة، ومع الوقت باتوا جزءاً من قيادة العدوان. هذا اليوم التاريخي لن تزيل أثره المجازر بحق المدنيين، فبأس المقاومة وصدقها واستعدادها لرد الفعل على مبادرتها، جعلت العدوان بمكيال آخر غير الذي كان يخطط ويعد مسبقاً للشعب الفلسطيني ولقطاع غزة.
وجاءت جبهة المساندة من حزب الله في جنوب لبنان، فقوّت المواجهة، وكرّست مبدأ وحدة الساحات بالتنسيق التام وتوزيع الأدوار بما يخدم القضية الفلسطينية بشكل عام، عسكرياً وسياسياً ووجودياً داخل مجتمع المستوطنين في الكيان. فسكان الشمال يرفضون العودة إلى المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة، ودول الاستعمار المساهمة في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، لا تريد حروباً أخرى ستشكل ضربات كبرى للكيان الإسرائيلي، صاحب الدور في حماية مشاريع الاستعمار الدولي في المنطقة، فهذا الاستعمار لا يريد دخول المنطقة كلها في فوضى غير مسيطر عليها، ولا يمكن استثمارها، وهذا من إنجازات عمل المقاومة التراكمي، إذ لم يعد مسموحاً استغلال ظروف المنطقة لإحكام السيطرة عليها أكثر. فالآن هناك من يقول يرفض ويقول لا.
ووحدة الساحات، بانت بوضوح من خلال اليمن الذي اتخذ موقفاً من شأنه تعطيل التجارة في العالم، وإجبار الكيان الإسرائيلي والدول الداعمة على الرضوخ وإيجاد حلول للعدوان القائم. فجرأة اليمن على إيقاف السفن التجارية التابعة للاحتلال، أوضحت للجميع أن هذه الحرب تخصّ محوراً بأكمله. وهذا إن دل على شيء، فإنه يؤكد على أن العقل الذي يدير المقاومة ينتقي تفعيل الجبهات بما يخدم فكرة صراع الأقطاب، فباب المندب بوابة اقتصادية دولية، وتحديداً لدول الاستعمار القديم، والفعل فيه إشارة إستراتيجية، بأن قناة بن غوريون عصب مشروعهم المستقبلي، لا يمكن استثمارها إذا ما تم إنجازها.
هذه الحرب، أكّدت للمستوطنين وكل الكيان الإسرائيلي، أن زواله ليس مجرد فكرة، بل فعل له من يقوم به، في كل فلسطين المحتلة، وفي الدول المحيطة بفلسطين، وفي كل المنطقة. وأكّدت أن شعوب المنطقة، لم ولن تتقبل وجود الكيان الغريب عن المنطقة وأهلها. وهم ومقاومتهم يتمكنون من إنهاء مشاريع تقسيم المنطقة الجديدة، التي تنزل تحت مسمى «الشرق الأوسط الجديد».
أخيراً، إن الانتصار في هذه المعركة، سيرسم المستقبل المنشود لهذه المنطقة. مستقبل فيه أمة مقدّمة على حياتها وصناعة أملها، فيها فلسطين المحررة من بحرها إلى نهرها، وفيها باقي المناطق المحتلة محرّرة، يسكنها الشعب الفلسطيني، وليبقى فيها من يريد من مجتمع المستوطنين كمواطنين لهم حقوق كاملة في دولة فلسطين العتيدة من البحر إلى النهر. فأهل فلسطين والعرب والمحور ليس هدفهم رمي أحد في البحر.