يتواصل الرَّدح المُتبادل، ويستمر حوار الطرشان العبثي، بين أبواق السلطة الفلسطينية من جهة، وبعض المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين على الجهة الثانية. هذا المشهد الحزين، بقدر ما يثير مشاعر الأسى، يثير في الوقت نفسه مشاعر الغضب والغثيان، ومن الطرفين، السلطة والمثقف التقليدي العجيب، في آن، وبخاصة ذاك «الأكاديمي» الذي سار في التيه، مثل محمود عباس، ثم اغترب عن القضية الوطنية، ضاع في زواريب وحارات السياسة والمعارك الصغيرة. إنّ هذا المشهد الفلسطيني، السريالي جداً، البائس جداً، يُجسده خلاف متوهم ومختلق بين «أنصار محمود عباس» وهذا الجمع «الأكاديمي» (بعضهم مع حل الدولتين، وبعضهم مع حل الدولة الواحدة، والمشاركة في برلمان العدو، ومنهم من كان سفيراً للسلطة) غير أنهم قرروا - لسبب ما - إصدار بيان، باللغة الإنكليزية، عن التاريخ والأخلاق! ضد من؟ ضد محمود عباس. والسبب؟ موقفه من «اليهود» و«المحرقة» و«معاداة السامية»!
لماذا أصدر الأكاديميون بيانهم باللغة الإنكليزية؟ هل قرروا مخاطبة الغرب والمجتمع الإسرائيلي ومحيطهم أولاً؟ لماذا فعلوا ذلك في وقت يحترق فيه «مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين» على يد عصابات مأجورة تابعة لمحمود عباس؟ ولم يذكروا «عين الحلوة» ولا حق العودة في بيانهم، فالمخيمات الفلسطينية «خارج القصة» وخارج «القضية» و«الطوشة»، ثم أصدروا بيانهم في ذكرى 30 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو الذي وقّعه عباس شخصياً في حديقة البيت الأبيض، لكن «أوسلو» أيضاً لم يكن مشكلتهم. فلم يأتِ ذكره في البيان، صار خارج القصة أيضاً!
وجاء «بيان المثقفين ضد عباس» في وقت تصرخ فيه القدس والمقدسات، ويدافع أهل القدس باللحم الحي عن عاصمة العرب والمسلمين، وفي وقت تخوض فيه الحركة الأسيرة معركة شرسة وقاسية في السجون ضد سياسات المجرم بن غفير، وتستعد المقاومة لمعركة محتملة في قطاع غزة المحاصر. وفي أيام حارقة تكوي شعبنا في الداخل المحتل 1948، إذ لا يمر أسبوع واحد لا «تحترق» فيه ضحية فلسطينية جديدة في أفران الاستعمار الصهيوني وماكينة وآفة الجريمة المنظمة، لكن هذا كلّه خارج اهتمام السلطة، وخارج بيان المثقفين!
لماذا إذاً قرّر جمع من المثقفين الفلسطينيين أن يصدروا بياناً وتوجيه «النقد» لـ«تصريحات مسيئة» وردت على لسان «مختار المقاطعة» أبو مازن، قالها في مضافته التي تسمى «المجلس الثوري»! وكان الرجل كعادته، تائهاً وسارحاً في ملكوت وخراريف لا نهاية لها عن «وعد بلفور» و«التاريخ» و«المحرقة» و«النازية» و«معاداة السامية» وكارل ماركس!
هذه الصورة، وهذا الجدل، بين أنصار «مختار السلطة» ومن أصدروا البيان، تذكّرنا بمشهد روما في العصور الغابرة: المدينة تحترق، بينما ينهمك الفلاسفة في الجدل حول جنس الملائكة!
الأنكى من ذلك:
بدا مختار المقاطعة «أفهم وأشطر من المثقفين» و«مُحقاً» و«أقرب إلى الحقيقة التاريخية، وصار عباس في عين مثقف ليبرالي آخر، يشبه من أصدروا البيان، بل يعتبرهم «أصدقاءه»، صار «ضحية سوء فهم» لأنه لم يخئ، ولذلك أصدر الأخ فتوى سياسية وثقافية وأخلاقية وفكرية عاجلة، قال فيها: «ظلمتم السيد الرئيس»!
ربما من المفيد هنا التذكير بما يجري داخل ألمانيا العنصرية في هذه الأيام، ثمة حروب يومية تشنها أجهزة الدولة الألمانية ضد اللاجئين الفلسطينيين، هدفها إرهابهم ومصادرة حقوقهم وصوتهم في الغرب الديموقراطي جداً. وتمنع ألمانيا إحياء ذكرى النكبة ويوم الأسير والهتاف للمقاومة، ولم نسمع صوتاً من سفارات السلطة ينتصر للذين ركبوا قوارب الموت، من مخيمات اللجوء إلى مخيمات المنافي الجديدة في أثينا ومدريد وبروكسل وبرلين، لا صوت لسفارات العار الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولم يجد اللاجئ الفلسطيني من يدافع عنه أو ينتصر لحقه في الصراخ.
إن أي بيان يصدر عن جهة فلسطينية حول الموقف من «المحرقة» و«النازية» و«الصهيونية» و«اليهود»، سيظل ناقصاً - وأحياناً مشبوهاً - وخاصة إذا لم يتضمن موقفاً واضحاً من المقاومة المسلحة ومشروع العودة والتحرير


ولم نقرأ بياناً للمثقفين الفلسطينيين (الأكاديميين) في الغرب. لم يستنفروا وينتقدوا سياسات ألمانيا العنصرية التي تُجرّم الفلسطيني وتُشرعن تيارات النازية الجديدة وأحزابها، وتحتضن الصهيونية والفاشية والنازية، وتقدّم الدعم للكيان الصهيوني العنصري في فلسطين، وتبرّر جرائمه ومجازره بحق الشعب الفلسطيني.
هذه السلطة «الفلسطينية» العميلة المنبطحة أمام ضباط الاحتلال والغرب الاستعماري، كانت تستعين بالمثقف الفلسطيني التقليدي التابع والعجيب، ليدافع عنها. فيما هناك مثقف «آخر» مشغول في تعليم عباس درساً في التاريخ والأخلاق عن «معاداة السامية»!
ولا نقول إنهما وجهان لعملة واحدة، هذا ظلم لكثير من الناس، لكن من برروا سياسات ياسر عرفات، وبرروا كوارث السلطة، ومن كانوا سفراء للسلطة وناطقين باسمها، وقرروا أن يغيّروا رأيهم، نقول لهم: فليكن، نرحب بكم. فأن «تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً» كما يقال. أمّا إذا أراد البعض غسل موقفه/ موقفها، ليفعل ذلك بالانتصار للشعب الفلسطيني ومقاومته وحقوقه أولاً، وليس بالغمز من قناة «ضحايا النازية» و«معاداة السامية»، ولا بهذه الطريقة المدّعاة والسمجة. فالمشكلة ليست في محمود عباس، النص والشخص فقط، المشكلة في طبقة فلسطينية مأجورة باعت كل شيء.
لا غرابة أن يحمل تومبايس تونكيل، وهو يمثل السياسة الخارجية الألمانية وأحد أكبر عُتاة الصهاينة والألمان والعنصريين «بيان المثقفين الفلسطينيين» وينشره على صفحته، ثم يقول: «المجتمع المدني الفلسطيني يرد على تصريحات الرئيس عباس، وفي هذا نحن متفقون»! نعم، هكذا يتسلح هؤلاء العنصريون بمواقف «المجتمع المدني الفلسطيني» ليس حباً في «بيان الأكاديميين» ولا كُرهاً في مواقف «مختار المقاطعة»، ولكن لرمي تهمة معاداة السامية على ظهرنا، فهؤلاء يكرهون كل ما هو عربي وفلسطيني ومسلم وشرقي. همهم الوحيد التخلص من العبء التاريخي لجرائمهم وإلقائها على ظهر العرب والمسلمين والملونين والأفارقة واللاجئين الفقراء.
ومن ينتصر لشعبه وروايته التاريخية وحقوقه وأسراه ومقاومته الباسلة يجد نفسه - بالضرورة - في مواجهة الصهيونية والنازية والفاشية والرجعيات العربية من المحيط إلى الخليج، ويجد نفسه بالضرورة ضد نهج سلطة الحكم الذاتي، وهي في المحصلة الأخيرة مجرد «برغي» صغير في هذا المعسكر، وجزء في منظومة المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة.
القصّة أبعد وأخطر من تصريحات أطلقها محمود عباس حول «المحرقة». إن أي بيان يصدر عن جهة فلسطينية حول الموقف من «المحرقة» و«النازية» و«الصهيونية» و«اليهود»، سيظل ناقصاً – وأحياناً مشبوهاً - وخاصة إذا لم يتضمن موقفاً واضحاً من المقاومة المسلحة ومشروع العودة والتحرير. فشعارات وكلمات مثل «الحرية والعدالة والمساواة» لا قيمة لها إذا لم تشر بوضوح إلى حق الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه من النهر إلى البحر. يقول لنا البعض «عباس معادٍ للسامية» ثم يعتبر «منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني»!
نعلم أن هناك أشخاصاً تدفعهم المواقف الوطنية الحريصة والنيات الحسنة والطيبة، وحقهم الطبيعي في التعبير والمشاركة، ومواجهة قيادة المنظمة وسلطة أوسلو التي صادرت صوت الشعب الفلسطيني ودمرت مؤسساته، غير أنه من المفيد الحذر أمام غرب استعماري قذر، وعدم خلط الحابل بالنابل. ثمة من يزاحم عباس على التمثيل و«المنظمة» و«الرواية التاريخية» ورضى الغرب وطق الحنك.
وأخيراً، حارتنا الفلسطينية صغيرة، لا باب لها ولا أسرار فيها، نعرف حين تحرد بعض الشخصيات والقيادات والمنظمات، ثم تطير إلى لقاء الرئيس، فإذا صفّر وصفق لها، ذهبوا إليه ساجدين وراكعين.