في السادس من أيلول قبل عامين، ومع ساعات الفجر الأولى، كانت فلسطين على موعد مع الحرية. ستة شبان انتزعوا حريّتهم من السجن الحصين، الذي غادروه هذه المرة بملء إرادتهم، بعد تسعة أشهر تناوبوا في خلالها على حفر النفق بأدوات بدائية خبّأوها عن أعين السجان. عامان مضَيا على ذكرى «نفق الحرية»، وما زالت أصداء الحدث تفعل فعلها في طول البلاد وعرضها، وتبثّ في ثناياها معاني التضحية والفداء؛ فما بعد الحدث «المُعجزة»، ليس كما قبله. لم تعُد البلاد «وديعة» كما أراد لها المحتل، ولم يعُد الاحتلال بلا أثمان، فيما العمليات الفدائية تطارده في كل مدينة وحارة وزقاق.

بذلك، عادت فلسطين تشبه نفسها كما كانت؛ عصيّةً على الموت والانكسار. بدءاً من يوم النفق وحتى الآن، تتمدّد كتائب المقاومة طولاً وعرضاً في كل البلاد، فيما الاحتلال يبني الجدُرَ في كل مكان؛ يخاف غزة فيبني جداراً حولها، ويستمر في بناء الجدار حول الضفة، وينهي الجدار على الحدود مع مصر، ويخاف الجنوب اللبناني فيزيد من التحصينات بمحاذاته، ليعلنَ قبل أيام عن نيّته بناء جدار على حدود الأردن. وحول السجون أيضاً، يبني ويبني. هو احتلال يخاف أهل البلاد، ولا يريد رؤيتهم، فيبني الجدُر ظناً منه أنها تأتي بالحل، فيما يحفر الأسرى الأرض ليخرجوا من تحتها.

مقاومة النفق مستمرة
قد يظنّ البعض أن حادثة النفق انتهت باعتقال الشبان الستة، لكن مفاعيل هذا الحادث لا تزال ماثلة للعيان. الاحتلال يصعّد ضدّ الأسرى، يهاجم السجون والأقسام وينقلهم من سجن إلى آخر، ويبني العوازل بين أقسام السجون، ويريد أن يحرم الأسرى زيارة الأهل. كلّها إجراءات يحاول من خلالها «خنق» الأسرى، وإضعاف قدرتهم على المقاومة، قبل أن تنقلب تحضيراتٍ لمعركة هؤلاء، وفلسطين كلّها من خلفهم، ضدّ السجّان. لقد شكّل «نفق الحرية» «تسونامي زلزل قلب الكيان الصهيوني وأصابه في مقتل»، كما يصفه الشيخ خالد جرادات، أحد أبرز مؤسسي حركة «الجهاد الإسلامي» في الضفة، لافتاً إلى أن مفاعيله «ما زالت تعصف وتصفع وجه العدو، كاشفةً ضعفه أمام إرادة شعبنا». ويقول جرادات في الذكرى الثانية لعملية الأسرى الستة، محمود ومحمد العارضة ومناضل انفيعات ويعقوب قادري وأيهم كممجي وزكريا الزبيدي، إن «هؤلاء الأبطال والأقمار والشموس أثبتوا أن الإرادة لا يقف أمامها أي شيء»، مشيراً إلى أن إرادتهم «تجعل من الملعقة أداة فتاكة تصنع المستحيل، فلا مستحيل يستطيع أن يقف أمام إرادة المقاتل الفلسطيني». وهنا، يستحضر كلمات مهندس العملية القائد محمود العارضة، والتي لا تزال «تدقّ في آذاننا»، وفق قوله: «لا تخافوا من الكيان، إنه وهم من غبار».
بعد «نفق الحرية» مباشرة، كانت فلسطين مع صولة جديدة للمقاومة


في السجن يتجدّد العهد
بعد «نفق الحرية» مباشرة، كانت فلسطين مع صولة جديدة للمقاومة، ولم يكُن أحد يدري التأثير المباشر لقادة الأسرى، وعلى رأسهم محمود العارضة، على قادة الفعل المقاوم في جنين وريفها. العلاقة التي أقامها محمود مع هؤلاء القادة ظهرت بعد الإفراج عن جميل العموري وعبد الله الحصري وتامر النشرتي ونعيم الزبيدي ونضال خازم وغيرهم، إذ عادوا محمَّلين بما تجاوز الوصية، بتوجيهات القائد محمود التي احتضنوها لدى عودتهم، لتبدأ بعدها لحظة الاشتباك وتشكيل نواة المقاومة المسلَّحة في جنين وريفها ومخيمها، والتي ارتقوا شهداء من بعدها. عن تلك التأثيرات، يتحدّث جرادات أيضاً، معتبراً أنها حظيت بـ«الدور الأكبر» في «نهضة الوعي الثوري والجهادي في الضفة الغربية وقطاع غزة والخارج»، لافتاً إلى مفاعيلها في «تحفيز الشباب الفلسطينيين ليفعلوا كلّ ما باستطاعتهم». ويقول: «بدأ جميل العموري ورفاقه مشوارهم المقاوم عندما علموا جميعاً بأن الأسرى لم يستسلموا، ومن سِجنهم واصلوا بناء العمل المقاوم، وأضافوا عليه محاولتهم التحرر من الأسر». وعلى الرغم من أن الاحتلال استطاع اعتقالهم مرة أخرى، إلّا أنهم «استطاعوا أيضاً بثّ رسالتهم وهي المقاومة لانتزاع حريتهم وحرية شعبهم»، كما يضيف. ويؤكد أن الاحتلال «ما زال حتى هذا الوقت يخشى أسرى الجهاد الإسلامي، ولذلك يضع على غرف أسرى الجهاد علامات حمراء، في إشارة منه إلى أن هؤلاء الأشخاص خطيرون جداً»، مضيفاً إن «عشرات من أسرى الجهاد الإسلامي مكتوب في ملفّ كلّ منهم ممنوع أن يستقرّ في سجن معيّن أكثر من 6 أشهر، ويجب أن ينتقل إلى آخر حتى لا يفكر في الخروج من السجن».

عامان على نفق جلبوع
في سجن حصين في سهل بيسان شمال فلسطين، يقع سجن جلبوع، وهو امتداد لسجن شطة الذي بناه الاحتلال البريطاني قبل قرن من الزمن، حيث اعتقلَ فيه المقاومين الفلسطينيين، ليرثه الاحتلال الصهيوني ويرث معه سلوك المحتلّ الأول. وفي جلبوع، التي وردت في الكتاب المقدس في عهدَيه القديم والجديد بمعنى النبع الفوار والمتدفق، احتُجِز أسرى «نفق الحرية» مع مئات من إخوتهم الأسرى، في ظلال السجن الحصين، الذي تمكّنوا من اختراق جدرانه عبر نفق امتدّ بطول 25 متراً خارج أسوار السجن. وفيما استغرقت مدة حفر النفق 9 أشهر باستخدام الملعقة وبعض الأدوات التي استطاعوا الحصول عليها خلسةً عن أعين السجان، قام الأسرى بتصريف التراب في دورة المياه، من تحت بلاطة مساحتها 60 سنتيمتراً في مراحيض غرفة «رقم 2» في «القسم 5» في سجن «جلبوع» الذي بني عام 2004، ليتمكّنوا فجر يوم الاثنين، 6 أيلول 2021، من انتزاع حريّتهم. ومع كلّ هذا الوقت في التخطيط والتنفيذ، لم تلاحظهم كلّ أجهزة الأمن التابعة للاحتلال، سواء البشرية أو تلك التقنية، في معادلة استحضر فيها الأسرى أدوات بدائية في مواجهة أحدث التقنيات والأجهزة الحديثة، فكان الانتصار لإرادتهم.