في مجموعته القصصية «شمال الأندلس، غرب الوطن»، يتحدّث الكاتب الحيفاوي والصديق العزيز سهيل مطر عن رحلة فلسطيني الداخل المحتل منذ عام 1948، في ربوع الأندلس وشبه الجزيرة الأيبرية ولقاءاته المتعددة بالآخر، الآخر الأوروبي، الآخر العربي من الدول العربية الأخرى، الآخر الإسرائيلي المحتل السائح في أوروبا، والآخر الفلسطيني من مناطق عام 1967. كشخص من تلك المناطق، ومن الضفة الغربية على وجه الخصوص، كفلاح زار أعزاءه في الشمال الفلسطيني، خاصة في البلدة الفلاحية الطابع عرابة البطوف، وجدت أن الفلسطيني في الداخل هو بالنسبة إليّ ذو تتطابق بي وآخر يختلف عني في الوقت نفسه، على نحو يذكّرني بروايات الخيال العلمي المتعدّد الأكوان؛ كلانا فلسطينيان متشابهان لكنهما من أكوان مختلفة صنعها الاحتلال.على هذا الأساس، يتشابه ضعف علاقة كل من فلسطيني الداخل وفلسطيني 1967 مع وعيهما الطبقي المتحدّر من الحركات الثورية الاشتراكية في القرن العشرين مع اختلاف الأسباب. لا يمكننا أن نؤاخذ سكّان الأراضي المحتلة منذ عام 1967 على ضعف وعيهم الطبقي في نهاية القرن العشرين حيث حوصروا من الاستعمار في الانتفاضة الأولى بينما كان قادة الاتحاد السوفياتي الغورباتشوفيون يسارعون إلى بيعه في المزاد العلني. إذا كان جيل السبعينيات والثمانينيات قد وجد نفسه في مواجهة الاحتلال دون كتلة اشتراكية عربية، فإن جيل التسعينيات والألفية قد وجد نفسه في مواجهة الاحتلال في غياب كتلة اشتراكية دولية. هنا رسمت العولمة ذاتها أممية جديدة تتفوّق في قدراتها المادية على أممية القرن العشرين وتتعداها بأشواط، فتعطي صورة سرابية بأنه قد تم تعدي تناقضات رأس المال. فأدّى ذلك إلى بيئة تضعف فيها الأحزاب اليسارية التاريخية وتنشط فيها المنظمات غير الحكومية الدولية.
وبالطبع، لا يمكننا إلا أن نتفهّم الضرورة الوجودية وراء رفض المجتمع الفلسطيني في الداخل إعطاء الأولوية لمسألة الوعي الطبقي. فإذا كان الفلسطيني في غزة والضفة والشتات قد وجد نفسه بعد عام 1991 في كابوس نهاية التاريخ، حيث بات الشيوعي الدولي يمينياً برجوازياً، فإن فلسطيني الداخل قد وجد نفسه منذ عام 1948 في كابوس نهاية المجتمع المدني الفلسطيني في مدنه الرئيسية الساحلية، حيث كان الشيوعي من البداية هو العدو المستعمر. وجدت لدى محادثتي مع أصدقاء من جيل الألفية من مناطق 1948 حنقاً أصيلاً على الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكيف توارى هذا الحزب وراء هدف تحقيق الدولة الواحدة الاشتراكية، بينما كان في الواقع عاجزاً من الناحية المادية-التاريخية عن تحقيق هذا الهدف فبات باباً رجعياً للأسرلة.
هنا يمكن فهم السياسات ما بعد الماركسية لدى مجتمع الداخل الفلسطيني وتفضيله للجماعة الثقافية الوطنية على الطبقة كأساس للمقاومة، كردّ فعل دفاعي جماعي ضروري ووجودي، بعكس سياسات ما بعد الاشتراكية حول العالم والتي تمثّلت بتخلي النخب البيروقراطية الحاكمة في العالمين الثاني والثالث عن جماعاتها، تحت مسمى الانفتاح الاقتصادي.
هناك من يدّعي وجود أزمة وانقسام مناطقي وفئوي بين فلسطينيّي الداخل وفلسطينيّي مناطق 1967، قائميْن على تبني السياسات التحررية الهوياتية في الحقبة النيوليبرالية من عدمه. هذه نظرة غير دقيقة، فالانقسام ليس جغرافي الطابع، وإنما جيلي الطابع. يعود ذلك لحقيقة أن جيل الألفية وما بعد الألفية الفلسطيني في الداخل والضفة والمغترب في أوروبا وأميركا لم يكن قادراً بشكل عام على بناء وعي طبقي بديل، وإنما استبدل ذاك الوعي بأشكال مختلفة من الوعي الهوياتي، القائم على الهوية الدينية المحافظة والهوية الثقافية الاثنية والهويات الجندرية وغيرها من هويات القامع والمقموع. أبناء وبنات الألفية في الداخل كانوا سبّاقين للانفتاح إلى سياسات الهوية كأدوات للتحرر من الاستعمار، من ثم لحقهم بعد ذلك جيل الألفية من الطبقة الوسطى في الضفة الغربية، متأثرين في بيئة المنظمات غير الحكومية الدولية وفشل الانتفاضات العربية وما لحقه من هستيريا جماعية ثقافاوية لدى الطبقة الوسطى العربية، ومن ثم لحقهم في ذلك الفلسطينيون من حملة الجنسيات الأميركية والأوروبية بعد انتخاب دونالد ترامب وصعود اليمين البديل والحرب الثقافية في الغرب والذي أدى إلى انغماس الفلسطينيين المغتربين في هستيريا الحركة اليسارية التقاطعية في الغرب، والتي تستبدل الوعي الطبقي بوعي العلاقة بين القامع والضحية.
تماماً كما كانت مسألة الطبقة باباً للأسرلة من قبل، فإن مسألة الهوية باتت باباً للتضليل الأيديولوجي الآن


تماماً كما كانت مسألة الطبقة باباً للأسرلة من قبل، فإن مسألة الهوية باتت باباً للتضليل الأيديولوجي الآن، ليس فقط في مجتمع الداخل المحتل منذ عام 1948، بل في أوساط الطبقة الوسطى الفلسطينية كافة. فبدلاً من تركيز الجهود على التوصل إلى الحل المقاوم الواقعي التحرري في المستقبل، انهمك يسار الألفية الفلسطيني بالسؤال النظري المترف «من هو الفلسطيني» ومدى انفتاح هويته وعدم جمودها. في هذا السياق، أزاحت مسألة هوية الإنسان النيوليبرالي الوعي الطبقي والوعي الوطني المعادي للاستعمار في ضربة واحدة (الغريب هنا أن يسار الألفية الفلسطيني دائماً ما يدّعي أنه أكثر وطنية من أغلبية المجتمع)، فظهرت الحركات الاجتماعية اللبيدية والرغبوية والأسيدية والتي ترى في ذاتها طريقاً تحررياً بينما هي في الواقع عبارة عن هروب من الواقع، هي حركات تساعد على تخيّل فلسطين حرة من البحر إلى النهر فحسب من دون أي برنامج حقيقي طليعي يترجم هذا التخيل إلى واقع. هذا الموقع المتناقض يجد أساسه في أن يسار الألفية الفلسطيني يتبنى أخلاقية يوتوبية، في الوقت ذاته الذي اعتنق فيه ما يدعوه الماركسي البريطاني مارك فيشر الواقعية الرأسمالية، أي القبول الضمني بأنه لا بديل للنظام العالمي الرأسمالي.
بل إن يسار الألفية الفلسطيني قد فقد قدرته على تخيل فلسطين حرة من دون أن يشوّه ذلك التخيل بالحرب الثقافية النرجسية بين المحافظين والليبراليين الثقافيين. في عام 2019 عقدت منصة «رصيف 22» ندوة من أجل تخيّل فلسطين لو كانت حرة، فاستنتج أحد الحاضرين أن فلسطين لو لم تكن محتلة، «لكانت دولة عربية مثلها مثل الدول العربية المحيطة بها: مجتمع متديّن ومحافظ وفيه أقلية يسارية وتقدمية، والباقون يحملون فكراً رأسمالياً يمينياً. وسيكون مجتمعها عنيفاً ينظر إلى المرأة بدونية»؛ هنا قلب المتحدث الصراع الطبقي فجعل اليسار الأقلية البرجوازية المدينية وجعل اليمين الأغلبية التي تحتوي الطبقة العاملة -وتحتوي المقاومة.
هنا يمكننا رسم نتائج التجربة الحقيقية المادية-التاريخية لابتعاد يسار الألفية وما بعد الألفية الفلسطيني عن سؤال الطبقة الاشتراكي وتمسكه بسؤال الهوية الليبرالي، فإذا كانت التوقعات الأولية في بدايات الألفية هي أن اليساريين الليبراليين سيكونون أكثر وطنية واقتراباً من شعبهم من الاشتراكيين الأمميين، فقد تبيّن أن الليبراليين الهوياتيين قد عزلوا أنفسهم عن شعبهم الذي يدّعون تمثيله. هنا نجد أهم تناقضات الاغتراب الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، والتي تتمثّل في عدم قدرتها على توسيع المجتمع المدني لمشاركة الجميع (كما هو الأمر في المجتمع الاشتراكي)، بينما يلقى على الأغلبية اللوم وراء ضيق وانغلاق هذا المجتمع المدني.
في إحدى قصصه القصيرة، يتحدّث سهيل مطر عن اعتقال أحد المثقفين الفلسطينيين من الداخل المحتل بسبب زيارته لبنان، هنا تعكس القصة التحولات على المجتمع الفلسطيني في الداخل، من التشاؤل إلى التفاؤل الحذر الواقعي، وذلك بعد انهيار أسطورة الجيش المحتل «الذي لا يُهزم» على يد المقاومة. إلا أن استدخال سياسات الهوية النيوليبرالية على جيل الألفية وما بعد الألفية، قد أدّى بالكثيرين إلى فقدان الجمالية الفكرية النقدية التشاؤلية التي تميّز مجتمع الداخل المحتل والانتقال إلى تفاؤل ساذج من دون وعي طبقي ومن دون برنامج واقعي.