جنين | على وقع التاريخ الممتد في عمق الزمن، تتجلّى جنين ومحافظتها بأروع صور الرفض والمقاومة لكل عدوان أو استعمار أو احتلال. فقبل التاريخ الميلادي بـ 610 أعوام، حارب أهلها الملك الآشوري شاؤول الذي اتخذها حصناً، ثم مرّ فيها سيدنا عيسى عليه السلام، وفتحها المسلمون في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ولم تكسرها السنوات الأربع والثمانون تحت حكم الصليبيين. حتى إن الوباء الذي التهم أهلها إلا عجوزاً واحدة، في زمن المماليك، لم يقض عليها. ولمّا حاول نابليون احتلالها، آثر أهلها حرقها حتى لا يدخلها الجيش الفرنسي. وفي الثلث الأول من القرن المنصرم، احتضنت ثورة الشيخ المجاهد عز الدين القسام. وفي عام 1948 شهدت معركة طاحنة مع العصابات الصهيونية. وقبل وبعد عام 1967 كانت منطلقاً لمجموعات فدائية. وفي الانتفاضة الأولى كانت مشعلاً شعبياً ثائراً. وفي الثانية، أيقونة صمود وتحدّ أذهلت العالم. وفي الأشهر والأيام الماضية والحالية، ما زال بأسها شديداً في مقارعة المحتل، حتى أصبحت عاصمة للتغيير الثوري المطلوب الذي يؤذن بالتماهي مع التغيير الإقليمي والدولي الذي يشهده العالم.هذا الواقع الذي تعيشه هذه المدينة بالذات، قهر الاحتلال وكسَّر مجاديف خطته العسكرية «كاسر الأمواج»، ومرَّغ أنف عمليته الأخيرة «بيت وحديقة» في وحل الفشل. بل كان لها المجد في كشف آخر لعورته المتلاحقة والدالة على تآكل حالة الردع التي تغنّى بها عقوداً وسنين طويلة. فما كان من هذا العدو المتقهقر خزياً أمام هذه المدينة ومخيّمها إلا أن يُفَعِّلَ أوراقاً أخرى، في محاولة كسر وترويض هذه المدينة حتى لا ينتقل «وباؤها» المحمود إلى باقي الرقاع الفلسطينية مؤذناً بثورة شبابية جديدة شعارها المقاومة المسلحة كسبيل وحيد لإنهاء الاحتلال، بعد أن سئم الشعب الفلسطيني، ومنذ زمن بعيد، خيارات التسوية وسراب السلام الكاذب.
لذلك، لجأ الاحتلال الماكر إلى محاولة تفعيل ورقة العلاقة مع القيادة المتنفّذة في رام الله، والتي لا تزال تعيش في غيّ سراب التسويات بالرغم مما يلاقيه شعبها من قتل يوميّ واغتيالات ومصادرات للأرض والممتلكات وتدنيس المقدّسات، وتوغل الاستيطان، والإذلال على الحواجز والطرقات. فحرَّك هذا العدو شغف بعض القيادات المتنفّذة، بإعادة التواصل معها، وإعادة إحياء دورها الفاعل في ضبط الشارع الفلسطيني وخصوصاً في جنين، تحت شعار باهت كاذب وهو السيطرة على جنين ومخيَّمها والقضاء على ما يسمونه زوراً وبهتاناً «الفلتان الأمني» - ويقصد به المقاومة الناشئة الصاعدة العظيمة التي تلقى حباً جارفاً ومساندة عارمة من أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، بل إنها عنوان لخيار إيماني لا يختلف فيه اثنان، وهو أن المقاومة المسلّحة بالذات هي السبيل لخلاص الفلسطيني من الاحتلال في كلّ فلسطين من النهر إلى البحر.
هذه الوحدة بين كل الفصائل المسلّحة قد تجسّدت بالميدان في كل مراحل المواجهة وعُمّدت بالدم


بعض القادة الذين يعيشون حول رئيس السلطة، ويتناغمون مع مشروعه السياسي، والتي تتنافى هذه الظاهرة مع تطلعاتهم وطموحاتهم السياسية التي ينتظرونها بعد وفاة الرئيس أبو مازن، وتقضّ مضجعهم، يروّجون لهذه الظاهرة على أنها «مشروع إيراني». وذلك من أجل رمي هذه الحالة الثورية بحجر كبير قديم جديد، حتى يجد هذا التصنيف الظالم مساندة من بعض الأنظمة العربية والإقليمية والدولية، وحتى إسرائيل، للوقوف في وجه هذا التيار. ونظراً إلى أن الحقائق الدامغة على الأرض تدحض هذا الادّاء، وتأخذه لمُسلَّمة أن هذا الجيل الشاب من الشعب قد ملّ التسويف والانتظار وقرّر أن يأخذ مبادرة نزع حريته بيده أمام صلف المحتل المتغطرس، فلم تستطع هذه القيادات الصدام المباشر مع هذه القوى الشبابية المقاومة، بل لجأت لمحاولة قصقصة امتدادت هذه الظاهرة خطوة خطوة تمهيداً لحصارها في جنين والمخيّم، والعمل على استمالة كوادرها وعناصرها بأسلوب العصا والجزرة.
فلجأت، ومنذ الساعات الأولى على معركة «بأس جنين»، لاعتقال ثلاثة مجاهدين من جبع وطوباس، هبّوا لنجدة جنين ومخيّمها، واعتقال والد جريح أصيب بجراح خطيرة، وعم شهيد من شهداء المعركة الأخيرة ومعه شخص آخر من المخيّم، لاتهامهم بأنهم وراء التحريض على طرد وفد مركزية «فتح» أثناء تشييع جثامين الشهداء في الخامس من الجاري. تبعتها اعتقالات في جبع وبيت لحم ومخيّم عسكر والخليل، بالإضافة إلى التسريبات التي يحاول البعض بثّها من خلال وسطاء، والتي تتضمن الحديث عن عروض مالية مغرية للمقاتلين بمنحهم رواتب عالية والاحتفاظ بالسلاح الشخصي أو تعويض قيمته ورتباً في الأجهزة الأمنية مقابل الكف عن مقاومة الاحتلال بالمقاومة المسلحة. هذا الأمر كشفت عنه صحيفة «كول هيوم» العبرية المتطرفة والقريبة من نتنياهو، والتي أفادت بأن الجانب الإسرائيلي أعطى قراراً بتجنب اقتحام جنين في الفترة القادمة، لإعطاء فرصة للسلطة لكبح جماح هذه المجموعات المقاومة، الأمر الذي لم تنفه السلطة ولم تعلّق عليه، وهو يتطابق مع تعهدات فلسطينية قطعها الجانب الفلسطيني في اجتماعَي العقبة وشرم الشيخ، كما أن ما يجري على الأرض يؤكد صحته.
لكنّ فصائل المقاومة، وعلى رأسها «كتيبة جنين»، والتي يتّسم قادتها وعناصرها بالوعي والتجربة، أبدوا الحرص العظيم على التمسك بالحكمة والصبر وحرمة الدم الفلسطيني، وسعيهم الدؤوب للوحدة الوطنية التي كانت ولا تزال ميزان الصمود والتصدي والتحدي للمحتل. وهذه الوحدة بين كل الفصائل المسلحة قد تجسّدت بالميدان في كل مراحل المواجهة وعُمّدت بالدم؛ انصهر المجاهدون والمقاومون فيها بعيداً عن انقسام الساسة والتنظيمات، وأعطت درساً صارخاً مفاده أن البندقية النظيفة التي تتوجه إلى صدر المحتل هي الطريق الوحيد والأوحد للوحدة الحقيقية.
وهذه الفصائل الواعية المدركة لخطها ومسارها تعلم علم اليقين أن طهارة السلاح التي جاءت بهذا الصمود وهذه التضحيات وهذا الانتصار بفشل تحقيق أهداف العدو، والتي رفعت القضية الفلسطينية برمّتها في كل العالم، تدرك أن النصر على التآمر ضدها من قبل القريب سلاحُه الوعي والصبر والحكمة وحرمة الدم الفلسطيني مهما كانت الظروف. خاصة أن ما قامت به هذه الفصائل المقاومة لامس وجدان الشعب والأمة وأحرار العالم، وقسم كبير من أعضاء الأجهزة الأمنية سالت دموعهم عندما كانوا داخل ثكناتهم والمخيَّم يتعرّض للقصف، حتى إن قادة كباراً في هذه الأجهزة أسرّوا إلى بعض المناضلين أنهم يدركون ويؤمنون بأن درب المقاومة المسلحة هو الطريق الأسلم للتعامل مع الاحتلال، وبعض الأجهزة الأمنية قد فتحت مقراتها لأهالي مخيم جنين الذين أُجبروا على النزوح أثناء معركة «بأس جنين».
الخلاصة: على ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن نصر جنين ومخيَّمها بالصمود والتحدي الرائع أمام آلة البطش الصهيونية ليس يتيماً، ولن يكون يتيماً، وإن من تسوّل له نفسه الخبيثة أن بالإمكان وأد هذه الظاهرة الثورية الشبابية الواعدة، والتآمر عليها لشد الحالة الفلسطينية وإعادتها إلى سراب التسويات، فهو واهم ومشتبه، وأن المقاومة، بوعيها وحضورها، قادرة على هزيمة مثل هذه المشايع دون إراقة أي نقطة دم بين الفلسطينيين، لأن جنين ومخيّمها لم يعودا كيلومتراً واحداً فقط، بل شعاع تاريخ، وامتداد شعور جغرافي بمساحة دول وقوى المحور المقاوم مجتمعة.