لم تكن الهجمة الصهيونية على جنين في الثالث من تموز 2023 الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة. فسياسة الإبادة الجماعية (Genocide) لنظام الاستعمار الإحلالي الصهيوني، والتي بدأت قبل قيام النظام/الدولة، لم تنته بعد قيام الدولة ولا يتوقّع أن تنتهي ما دامت الإيديولوجية الصهيونية المؤسِّسة والمحرّكة لهذا الكيان.لقد خضع الشعب الفلسطيني بشبابه (وصباياه)، أطفاله وكهوله، لعمليات إبادة على الصعد كافة: الاقتصادي، السياسي، الثقافي والاجتماعي، منذ نشوء الحركة الصهيونية. فقد كانت سرقة الأراضي وهدم البيوت وإفقار الفلاحين، العنوان الأبرز لحركة الاستعمار الإحلالي، وبمباركة من الاستعمار البريطاني الذي لم يألُ جهداً في تقديم كل ما يساعد الحركة من الاستيلاء على الأرض الفلسطينية. فمن ناحية، فرضت حكومة الاستعمار ضرائب باهظة على الفلاحين، وتبعتها سياسة السجن لمن يتخلّف، ما أدّى بدولة الاستعمار البريطاني إلى السيطرة على أجزاء وافرة من الأراضي وعرضها بالمزاد العلني وتحويلها إلى ملك للصهيونية (أو اليهود الغربيين).
تتابعَ سير هذه العملية إلى أن وصل إلى ذروة الإبادة الجماعية فيما اصطلحنا على تسميته بالنكبة. ولكنّ مصطلح «النكبة» الذي يستعمله معظم الكتاب والأكاديميين، وحتى السياسيين، لم يكن حدثاً تاريخياً عابراً، بل كان ركناً واحداً، بل أساسياً، في عملية الإبادة الجماعية في فلسطين. ولكن، مع إشعار الفلسطيني بعقدة الهولوكوست اليهودية التي تسبّبت بها الدول الغربية، والتي عُمّمت من الغرب، وبالذات من خلال الحركة الصهيونية، بأنها أول وأهم إبادة جماعية في التاريخ، وترافقت مع حملة إعلامية ضخمة تجرّم كل من ينتقد أو يحاول أن يجادل في هذه المسألة. ولقد ذهب الكثير من الكتاب الغربيين، ومنهم يهود وسكان أصليون، ضحية لهذا الصلف الصهيوني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر الكاتب اليهودي الشهير نورمان فينكلشطاين، وعلى قدر ما التاريخي إلان بابه، وكذلك وورد تشرشل من السكان الأصليين في أميركا، والذي كان لكتابه «القليل من الإبادة الجماعية» - Genocide A little Matter of – الذي ناقش فيه سياسة الأميركَتين في الإبادة الجماعية للسكان الأصليين الذين قُدّر عددهم بما يفوق المئة مليون إنسان وسبقت الهولوكوست بكثير - فقد اتُّهم تشرشل بالعداء للسامية وبتزوير الحقائق ووُضعت أمامه الكثير من العوائق والعراقيل وتمّ تشويه سمعته.
يرفض الصهيوني أي مقارنة مع ما حلّ باليهود ويعتبر الهولوكوست أو الإبادة الجماعية جرماً خاصاً وفريداً من نوعه اقترف بحق اليهود فقط. ولكن، وللأمانة العلمية، والأهم الإنسانية والأخلاقية، فقد اتضح أن الهولوكوست لم تكن أول فاجعة إنسانية ولم تكن آخرها. فالتعريف العلمي للإبادة الجماعية حسب اليهودي رفائيل ليمكن (Raphael Lemkin) والذي تبنت الأمم المتحدة معظمه، يشمل ويعبّر عن حالات وشعوب كثيرة مورست الإبادة الجماعية بحقها، ماضياً وحاضراً ولا تزال. وبجرد سريع لأهم مبادئ الإبادة الجماعية حسب ليمكن نذكر التالي:
1- الإبادة الجماعية لا تعني القضاء الكلي على الشعب أو المجموعة الإثنية أو العنصر، بل القضاء على بعض من سكانه.
2- التسبب بأذى جسماني أو عقلي لبعض الأفراد.
3- إلحاق أضرار بالمجموعة التي من الممكن أن تسبب دمار المجموعة جزئياً أو كلياً.
4- تعمّد إلحاق الأذى أو خلق شروط تمكّنها من القضاء على المجموعة كلياً أو جزئياً.
5- فرض سياسات أو قياسات تهدف إلى عرقلة إعادة الإنتاج البشري من خلال استعمال حبوب أو كيماويات تعرقل أو تمنع المرأة من الحمل.
وأخيراً، إرغام أطفال من السكان الأصليين على ترك أمّهاتهم وعائلاتهم وإرغامهم على العيش لدى عائلات أوروبية بيضاء. والأخيرة هي ما يُطلق عليها عملية التبييض أو صهر السكان الأصليين في المجتمع الاستعماري الغربي (1).
لا يختلف اثنان من الأكاديميين الفلسطينيين وغيرهم، وبالذات أولئك الذين يتخذون التحليل الماركسي، وبالذات نظرية ماركس حول ما يسمى بالظروف الأساسية أو المبدئية لتطور الرأسمالية (The So-Called Primitive Accumulation)، أو مصطلح الاستعمار (imperialism) لروزا لوكسمبورغ، حيث إن المصطلحين يركزان على دور العنف والقوة المستعملة من الدولة الرأسمالية الاستعمارية ضد الشعب المستعمر، ولكنْ مستبعد من هذا التصريح أولئك الأكاديميون الذين يتخذون الاستعمار الإحلالي والأصلانية إطاراً لتحليلاتهم، كالمفكر باتريك وولف ولورنزو فيراشيني ومارتن شو، وغيرهم... بأن النكبة هي تجسيد للإبادة الجماعية الفلسطينية. وأن هذه الإبادة ليست بحدث تاريخي عابر، بل هي فكر وممارسة ملازمان للفكر الصهيوني الاستعماري والمبني على اقتلاع الشعب الأصلاني. وبالرغم من التعريف العلمي للإبادة الجماعية، والذي لا يشك اثنان في ملاءمته لما آل إليه الشعب الفلسطيني وما زال يرضخ تحته، لكن وإلى الآن يمتنع الكاتب/ة العربي/ة والفلسطيني/ة عن استخدام مصطلح الإبادة الجماعية، بدلاً من النكبة، خوفاً من ردة الفعل الصهيونية والغربية.
لم تكن عملية جنين، كما ادّعت سلطات الكيان، تهدف إلى التخلّص من «المخرّبين» أو المقاومين، وإلا لماذا تجريف الشوارع وهدم البيوت وتشريد آلاف المواطنين


فمن المهم التذكير هنا بأن الهجمة الصهيونية الأخيرة على جنين وتخريب وتجريف شوارع المخيم وهدم البيوت وتشريد الشعب واغتيال مقاومين، لم تكن إلا واحدة من عمليات الإبادة الجماعية. فالمقاومة الفلسطينية تذكّر الدولة الصهيونية بحقيقتها الاستعمارية والإحلالية والمغتصبة لفلسطين وشعبها. كلّنا نتذكّر المجازر الرهيبة والمتعددة لمئات القرى الفلسطينية وتشريد أهاليها وسلب أراضيهم وسرقة أملاكهم من نقود وأثاث وكل ما في بيوتهم. ففي السنوات القليلة الماضية نشر المؤرخ اليهودي آدم راز (Adam Raz) مجموعة مقالات وكتب وثّق فيها عمليات النهب والسرقة الممنهجة لبيوت وأملاك الفلسطينيين الذين شُردوا من أراضيهم وبيوتهم(2).
لم تكن مئات المجازر التي اقتُرفت بحق الفلسطينيين قبل قيام الدولة وبعدها مجرد عمليات عابرة أو بلا قصد، بل جميعها كانت متعمّدة، مقصودة ومخططاً لها من القيادة الصهيونية العليا، وكانت جزءاً لا يتجزأ من مخطط الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وقضية التعمّد والقصد تُعد أساسية لتعريف الإبادة الجماعية. فعلى سبيل المثال، لم تكن مجزرة دير ياسين، مع فظاعتها، الأفظع أو الأكبر، بل بالمقارنة يمكننا القول إن مجزرة الدوايمة (القريبة من الخليل) كانت بالرهبة والفظاعة نفسيهما إن لم تفقهما شراسة وعنفاً، حيث راح ضحيتها المئات من الأطفال والنساء والكهول. القضية المهمة هنا أن الدولة المستعمرة، وبقرار من المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية، عملت جل جهودها، من خلال الكذب والرياء والتضليل، إلى التعتيم وإخفاء الحقائق. والفرق الأهم هو أن مجزرة الدوايمة، وكذلك مجزرة كفر قاسم، كما سنفصّل قريباً، لم تُقترف من خلال منظمات صهيونية إرهابية خارجة عن أنظار الدولة كما الحال في دير ياسين، بل من صهاينة جنود جزء من الجيش النظامي (29 تشرين الأول عام 1948)، أي تحت مرأى ومسمع وبموافقة ضمنية أو علنية من الدولة. وهذه، كما كثير غيرها، تندرج تحت الجريمة المنظّمة التي يعاقب عليها القانون الدولي، وبالذات البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن، وللأسف، بقي هذا الجزء من الإبادة الجماعية طي الكتمان لعشرات السنين.
الحقيقة هي أن كل المجازر الصهيونية ضد الفلسطينيين وغيرهم من العرب كانت مخطّطة ومتعمّدة من قبل الصهيونية، حركة كانت أو دولة.
في السنوات الأخيرة، أماط المؤرخ آدم راز اللثام عن الغاية من مجزرة كفر قاسم سنة 1956 (في المثلث) والتي راح ضحيتها حوالي خمسين امرأة، وأطفال وشبان وكهول. وأكّد، بعد الكشف والتمحيص في الوثائق الصهيونية حول هذه المجزرة، أن هدفها كان تهجير أهل المثلث إلى الأردن. ومن المهم ذكره أن القيادة الصهيونية، وبشخص بن غوريون، كانت تخطط في معركة السويس لإدخال الأردن الحرب، ما قد يسهل طرد أهل المثلث إلى الأردن. ولكن شاء القدر وانتهت حرب السويس بتدخل الاتحاد السوفياتي وبدون أن يدخل الأردن وفشلت عملية التهجير تلك.
وحسب آدم راز، وبالرغم من السرية الكبيرة التي اكتنفت هذه العملية، إلا أن شادمي (shadmi) قائد المنطقة المحلية الذي لبِس العملية وأمر بن غوريون بتقديمه للمحاكمة، أقر بأن المحكمة كانت صورية والهدف منها هو تبرئة صورة الكيان والقيادة العليا من هذه الجريمة المخطّطة والمبرمجة(3). وعلى سؤال «ماذا أرادوا من شادمي؟»، أجاب راز: «أرادو ألا يكشف الحقيقة. وأن الحقيقة هي أن الخطة التي تدرّب عليها الجنود والضباط، والتي وُضعت للتنفيذ، هي، وبشكل كبير، العملية التجسسية والمعروفة باسم (operation mole)، التي كانت تهدف إلى اقتلاع أهالي المثلث وترحيلهم إلى الأردن في حالة نشوب حرب» (4).
وكما في معظم الجرائم والمجازر المخططة التي هي جزء من المخطط الكبير لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وأملاكهم وبيوتهم، كانت الدولة تكذب وتفبرك الحقائق وتضلل لكيلا تكشف جرائمها وتثبت كذبة ديموقراطيتها. إذ كما أقر راز، لم تكن هذه المجزرة بمنأى عن القيادة المركزية كبن غوريون وموشي ديان.
ومن هنا لم تكن عملية جنين، كما ادّعت سلطات الكيان، تهدف إلى التخلّص من «المخربين» أو المقاومين، وإلا لماذا تجريف الشوارع وهدم البيوت وتشريد آلاف المواطنين – الذين بالمناسبة عادوا جميعاً إلى بيوتهم القائمة منها والمهدّمة. فالمقاومة الفلسطينية لدولة الاستعمار الإحلالي لم تكن مقصورة على بعض الأفراد هنا وهناك، بل هي مقاومة شاملة وشعبية في كل مكان في فلسطين، وهي مقاومة تاريخية منذ نشوء الحركة الصهيونية، يلتفّ حولها معظم الشعب الفلسطيني إن لم يكن كله. ومن هنا أصبح من الصعب، وإن لم يكن مستحيلاً، لدولة الاستعمار أن تنجح في القضاء على الشعب الفلسطيني. فمن الممكن أن تعيد هذه الدولة الكرّة، لكن وفي كل مرة ستجد أمامها مقاومين أشدّاء يعتنقون مبدأ الشرف والكرامة والتضحية من أجل الوطن... أخلاقيات مفقودة لدى الكولونيالي المستعمر الذي أصبح يهاب الولوج في مواجهات مباشرة مع الفلسطينيين.
وبكلمات أخرى، أفشلت المقاومة الفلسطينية، ومعها حلفاؤها من حلف المقاومة، خطط الدولة الصهيونية، ووضعت الأخيرة في مأزق وجودي سيصعب عليها الانفكاك منه.
* أستاذة علم الاجتماع في
«جامعة كارلتون» - كندا

(1) See, Raphael Lemkin: Axis Rule in Occupied Europe: Laws of Occupation, Analysis of Government, Proposals for Redress (Foundations of the Laws of War). 2008.
(2) Adam Raz, Looting the Arab Property during the war of independence (Hebrew 2022) https://www.palestine-studies.org/en/node/1651218
(3) See ‘Historian Adam Raz believes that behind the horrific 1956 event was a secret plan to transfer Israel's Arabs. October 15, 2018’, Haaretz.
(4) See above.