يعيش المقدسي في عالمين متوازيين متصارعين، قدسين اثنتين، وخط رفيع بينهما يقاس ببضعة أمتار مثل ذلك الذي يفصل بين أسوار القدس، التي تعرف أهلها، وبين شارع يافا، أو «ماميلا» حيث أقيمت «حديقة الاستقلال» ومراكز تجارية على أنقاض مقبرة مأمن الله. إنّ مركزية الصراع في القدس ليست محض صدفة، فهي لا ترتبط فقط في حقنا في المقدسات أو الجانب الديني للمدينة، فمدينة القدس أحد أهم الشواهد التاريخية على أحقيتنا في الأرض، وهو ما يحاول المحتل محوه. على امتداد جغرافيا القدس المحتلة من شرقها إلى غربها، ترى التجسيد المادي لصراع الجنوب مع الشمال، صراع من يعتبرون أنفسهم متن هذا العالم مع من هم على الهامش. وهو البعد الذي يغيب في كتابتنا عن القدس، خاصة تلك التي نقدّمها للفلسطينيين والعرب المحرومين من رؤية القدس بتناقضاتها الحالية وهو ما سيحاول هذا النص تقديمه ووصفه. لم يعد هناك خط فاصل واضح بين ما يسمّى «القدس الشرقية والغربية» عند «بوابة ماندلبوم» التي كانت تفصل بينهما. فاليوم في تلك النقطة ذاتها تجد المتحف الإسرائيلي، المقام في منزل مقدسي قديم ترجع ملكيته لعائلة البرامكي، ويعرّف بأنه متحف للفن العصري السياسي الاجتماعي، مقام على الخط الفاصل بين الشرق والغرب أو على «خط التماس» كما يسميه الاحتلال. ويخترق هذا الخط اليوم «القطار الخفيف» في مسار سكته على شارع «رقم 1» الاستيطاني، الذي يستقله المستوطنون متنقلين بين شطري المدينة. إن تابعت السير باتجاه المركز، فسترى كيف تتحوّل المعالم من حولك شيئاً فشيئاً، من شارع استيطاني تختبئ خلفه أحياء استولى عليها «الحريديم»، مروراً بمقاه ومحالّ حي المصرارة التي يقصدها الفلسطينيون والسياح الأجانب، وصولاً إلى أهم أبواب سور القدس، باب العامود. ما إن تصل الدرجات، أول شيء فستجده هو مقر شبح مصغر لجيش الاحتلال الذي أقيم لفرض سيطرتهم على المكان، لكنه لا يشبه المكان أبداً، يبدو وكأنه من عالم آخر لدرجة مؤذية للنظر. إن هربت بنظرك للمدرجات، فستجد أحد أبسط أشكال الحياة الاجتماعية في القدس وأكثرها عفوية، ستجد المقدسيين يحتسون القهوة أو الشاي على المدرجات، يشبهون الحجارة المبنية أمامهم والمدرجات الجالسين عليها، ملامحهم وألوان بشراتهم تشبه الفلاحات اللواتي يجلسن عند الباب بأثوابهن المطرّزة، يبعن البقدونس والنعنع والفجل، وهناك أيضاً ستجد السائح الأبيض المذهول بمنظر البسطات والنساء والرجال على أنهم «أوثنتيك» و«سكان أصلانيون»، بينما هم يسترزقون لإطعام أطفالهم. ما إن تتابع حتى تصل الأسواق، فسترى كل المحالّ التي يكره المحتل وجودها، فهو يدرك أيضاً أنها ليست مجرد محالّ تجارية، بل هي جزء من هوية المكان: سوق اللحامين، وسوق القطانين، وسوق خان الزيت، وسوق الدباغة، وكل الأسواق المسماة على حرف وتجارات أهلها، والتي طالما كانت مرآة لهوية المكان التي تدلل على غرابة المحتل، وهي أبسط أشكال محاربة القدس العتيقة المستمرة لوجوده.
ما إن ترى مستوطناً يتجول في إحدى الأسواق، حتى تشعر بالغضب، وأنت تدرك أنه هجين غريب يلفظه المكان. ستحاول مرة أخرى أن تبعد نظرك عنه، لتستعيد القدس بحواسك الخمس، فستتجه بعينيك نحو أحد الأفران الصغيرة لتداعب أنفك رائحة المخبوزات الفلسطينية من الخبز والمناقيش، ثم سترى أحد محالّ الفلافل والحمص، فتتذكر الجدال الدائم «مين بيعمل أزكى فلافل وحمص بالقدس؟»، فحين يتجادل المقدسيون حول فلافل وحمص «العكرماوي» و«أبو شكري» و«أبو حسن» و«أبو علي»، لن تجد -مثلاً- المستوطنين يربطون مأكولات شعبية بـ«أبو شلومو» أو «أبو كوهين»، أو أيهما يتقن صناعتها أكثر، بل ستجدهم يبيعون «فلافل إسرائيلية» في «ماكدونالدز»، فهم لا يعرفونه إلا بشراهتهم للنهب، فلا تراث ولا موروثات، أو حتى روائح تجمعهم على هوية واحدة مثلنا. ثم ستمر بأحد محالّ العطارة في خان الزيت، حيث سترى الصعتر البلدي المطحون مزيناً بالسماق والسمسم، وخلفه كل أنواع البهارات على اختلاف أماكن استيرادها وروائحها. إن كنت تمشي مع صديق لك، فسيسألك عن «بن صندوقة» أو «بن ازحيمان»، وكيف تفضل عائلتك القهوة، محروقة أو شقراء، مع أو من دون هيل، بينما لا يملك المستوطن غير قهوة «عيليت» الكريهة التي تُصنع في مستوطناتهم كغيرها من المنتجات الاستهلاكية التي لا طعم لها ولا رائحة. فالمكان وما فيه، من أصغر التفاصيل وأبسطها، بنوع البن الذي تشتريه عائلتك، أو الحلويات الشرقية التي تفضلها، أو «المسبحة» التي تتناولها يوم الجمعة صباحاً، يحدّثك عن القدس وتاريخها وأهلها.
ستصل بعد بضع خطوات إلى الأحياء السكنية، حيث يسكن المقدسيون أحواشها على امتداد السور بالاتجاهات الأربعة، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم وخلفياتهم، وستجد أسماء تاريخية ودينية للعقبات، وأسماء للأحواش بحسب العائلات التي تسكنها، وهناك تطغى الهوية المقدسية على كل الحارات والأحياء، من الحي الإسلامي وحارة النصارى وحارة الأرمن حتى حي المغاربة السليب المهدّم. ستصطدم بالاستيطان الذي يتسلل إلى تلك الأحياء، يسرق بيتاً هنا وآخر هناك، لكنك ستعرف إن كان صاحب البيت مقدسياً أو مستوطناً دخيلاً لا يشبه الحي؛ ففي حين ترى الأبواب الحديدية القديمة التي تشبه أي بيت قديم في فلسطين، أو حتى ما تراه من بيوت في الحارات القديمة في الشام، فهذه البوابات تدل على هوية ساكنيها، المقدسي العربي الذي يعيش داخلها. في المقابل، ستجد أبواب المستوطنين الحديثة التي تمتلك عيناً سحرية مسوّرة بعدد من كاميرات المراقبة، وكأنها منظومة أمنية بحد ذاتها، تعلن عن أن أصحابها ليسوا منها وهي ليست لهم، لأن من فيها من المستوطنين يخاف محيطه المقدسي، يتحسس سلاحه كلما سمع صوتاً أو شاهد أهلها من حوله. بينما أهل البلدة القديمة هم آمنون، مدركين بأنهم أصحاب الحق، بينما يخافهم المستوطن وخلفه كيان مبني على التجسس والكاميرات والأبواب التي لا تشبه أي شيء في القدس.
سترى كيف يذهب أهل القدس إلى صلواتهم رغم كل المعيقات، ستراهم يحتفلون بأعيادهم في الأقصى والقيامة رغم القمع والضرب، بينما يدخل المستوطن المقدسات مدنِّساً مدجّجاً بالسلاح وسط حماية وإجراءات أمنية تحول المدينة إلى ثكنة عسكرية مغلقة. سترى مستوطنين صغاراً يملؤهم الحقد، لا يعرفون كيف يلعبون في الأزقة تلك كما يلعب أطفالنا، لا يحفظون أماكن ليختبئوا فيها كما يختبئ أطفالنا في الأزقة وهم يلعبون «الغميضة»، أو يرمون «طقيع التومة» على المارة ويهربون، سترى أطفالنا يعطونك الابتسامة حين تمر بأحد بيوتهم، أو سيمرر لك أحدهم الكرة وأنت تمشي بينهم، أو حتى سيتأفّف أحدهم من مرورك بحدود مرماه وهو يلعب مع «ولاد الحارة». ستستمع إلى الكبار يتحدّثون عن حرب الـ 67 على القهوة وهم يلعبون الطاولة أو «الشدة»، أو يشتمون من تخلى عن ثورتهم حين كانوا في صفوف المقاومين أيام الشباب.
كل ما تراه من بيوت قديمة ومحالّ، وتشمّه من بهارات وقهوة ومأكولات، وتلمسه من حجارة وتراب، وتتذوقه من حلويات ومخبوزات، وتسمعه من ضحكات الأطفال العالية في الأزقة، وحديث الكبار عن النكبة أو النكسة، شاهد كبير على أن القدس لنا لو حاولوا التسلل إليها.
حين تبدأ بالابتعاد إلى الأطراف، ستجد الشوارع الاستيطانية الالتفافية والمستوطنات تنخر في المدينة العربية كالسوس، تغيّر معالمها وتنتشر داخل حدودها وعلى أطرافها. حين تمشي في الشوارع المقدسية سترى الزحف الاستيطاني يحاول اختراق الأحياء العربية ويسرق بيوتها كما هو الحال في «الشيخ جراح»، أو يحاول اختراق شوارعنا التجارية، ويدخل إليها وكالاته ومفرداته كما هو الحال في شارع صلاح الدين أو شارع الزهراء. سترى مستوطنات قائمة على أنقاضنا العربية كما هو الحال في مستوطنة «التلة الفرنسية» المقام فيها حرم «العبرية» الجامعي، وما فيها من مساكن ومحالّ لطلابها ومرافق أخرى، تظهر بمظهر علماني معولم، يسكنها المستوطنون ومن يرتاد الجامعة من الأجانب، أوروبيين وأميركيين وآسيويين، ليختفي أصل المكان خلف محالّ تجارية ومبان سكنية وشوارع حديثة وبنوك ومستشفيات، فتنسى «لفتا»، ويعتاد لسانك على اسم «التلة الفرنسية». أو مستوطنة «النبي يعقوب» المبنية على أنقاض شرقي المدينة، التي ستمر بها لتجد محالَّ ومطاعم تفوح منها روائح كريهة مختلطة، أو مراكز شرطة استعمارية، ترى فيها سياراتهم مكتوباً عليها كلمة «شرطة» بالعبرية والعربية والإنكليزية، وأنت تعلم أن وظيفتها تتغير بتغير لسانك الناطق للكلمة.
حين تمر بتلك الشوارع، ربما لن تعرف تاريخها بعد زحفهم إليها، لكنّ شيئاً ما سيتغير بعد كل عملية فدائية، فبعد أن تمر بكل شارع استيطاني أو حي، ستتذكر بطلاً فلسطينياً يوقف زمانهم ويعيد المكان إلى أصحابه. حين تمشي في شارع يافا، سيختفي ضجيج المستوطنين ووجودهم وصخبهم حين تتذكر عملية «سبارو»، وحين تمشي في مستوطنة «النبي يعقوب» ستتذكر خيري علقم، وكأن الشارع أصبح باسمه بعدما اخترق عالمهم الأول، وكانت خطواته الواثقة في شوارعه المسلوبة، وصدى طلقاته تدلل على أصحاب المكان الأصليين أكثر من أي لافتة استيطانية مكتوبة بالعبرية، فيعود لك الانتماء إلى المكان بعد أن حاول المحتل قتله وجعلك غريباً، فأنت فعلاً لا تنتمي إلى ذلك المكان بشكله الاستعماري، تنتمي إليه بأصالته وهويته التي تتمرد على الأمر الواقع الذي يحاولون فرضه، والذي يجسده الفدائي الفلسطيني في كل عملية.
يعيش المستوطن في القدس المحتلة تلك الحرب من التناقضات كما يعيشها المقدسي، فهو يحاول فرض عالمه الأول بترفه وشكله، الذي لا مضمون ولا تاريخ ولا هوية له، على المكان. لذلك تراهم يحاولون العربدة في كل مناسبة وظرف، في كل فرصة يقتحمون شوارعها مدجّجين بالسلاح، حاملين أعلامهم التي لا تشبه المكان، يحاولون زرعها على كل المباني والمنشآت. يزرعون قنّاصتهم على أسوار القدس التي اعتادت حماية أهلها، محاولين تجنيد الحجارة ضد أهلها بعد ما كانت تحميهم، ناصبين الحواجز في كل مكان. يضيقون على المقدسيين شوارعهم وطرقاتهم، يجبرونهم على إغلاق محالّهم ليعبر مخربوهم الحاقدون، معتدين على المحالّ والكبار والصغار. إنّ هذا السعار الصهيوني الذي تشهده القدس على شكل هجمات منظمة، ما هو إلا انعكاس لحقيقة يعرفها المحتل، أن بعد عقود من الزمن، ومع كل المحاولات، سيكتب تاريخنا أن المحتل لم ينجح في تطويع المكان، ولم يفرض سيادته على القدس. في كل مرة يصرخ فيها مستوطن في القدس، تعلم أنّ عالمنا البسيط في الجنوب لا يزال منتصراً على سطوتهم، وأسلحة الفقراء من حجارة، ومفرقعات، وكارلو، وحتى صواريخ الحفاة في غزة التي وصلت إلى القدس، تسطّر تاريخاً جديداً يرفض وجودهم في المكان، منتظراً زحف المحرومين منه المشتاقين إليه من فلسطينيين وعرب.