لا يمر عام بلا مؤتمر فلسطيني أو مؤتمر عن فلسطين. تنظّم هذه المؤتمرات عادة قوى فلسطينية، أو مؤسسات تتبع للقوى الفلسطينية وإن ادّعت غير ذلك.لا بأس بعقد هذه اللقاءات، وحشد الفلسطينيين والعرب في مكان واحد لأيام، مدفوعة التكاليف من جميع الجوانب، لكن بشرط أن تكون هناك نتيجة معقولة تصدر كمخرجات، تفيد الجمع الأكبر، في المجالات التي تعنون تحتها هذه اللقاءات (المؤتمرات).
إن سبب هذه المقدمة، وما يبدو أنه نقد، هو ملاحظتي أن بيروت استضافت خلال الأسبوعين الماضيين أكثر من لقاء، بعضها احتشد فيه أكثر من 150 شخصاً تمت دعوتهم من أنحاء العالم. لم يكن لهذا اللقاء برنامج معمم، والحضور، كانوا من أطياف مختلفة، تجمعهم فلسطين نعم، لكن لا تجمعهم الاختصاصات والاهتمامات من أجل فلسطين.
نعم، بعض المؤتمرات تقدّم «رؤيا» للعمل الوطني، تدعو فيها إلى الوحدة، وغيرها من المعطيات الفلسطينية الضرورية والإشكالية اليوم، ضمن الحال الأسوأ في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع مع الكيان، لكن ها هنا، يجب أن تطرح أسئلة جادة، من وضع هذه «الرؤيا»؟ ولمن قدّمت؟ وهل من قدّمت لهم، قادرون على الدخول بحملة تغيير في مواقعهم؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب وقفة، وتفكير. فبخصوص السؤال الأول، إن عقد مؤتمر مسؤولة عنه حركة «فتح»، فإن ما سيقدم به معدّ من قبل «فتح» وبالتالي لم يتم التشاور مع «الإخوة الأخصام» في حركة «حماس»، وفي النتيجة، ستنتهي هذه المبادرة، مع انتهاء المؤتمر أو اللقاء أو الفعالية (التسمية ليست مهمة). لأن أحداً لن يتابع العمل فيها، لكن ستتم العودة إلى «الرؤيا» عند الحاجة، والحاجة ها هنا، هي المحاججة للخصم السياسي. ذكرت «فتح» لئلا يفهم أن النقد المذكور، يمسّ «حماس» وحدها، لأن ما ينطبق على الحركة الأولى ينطبق على الثانية تماماً، في هذا المقام على الأقل. أمّا بخصوص السؤال الثاني، فإن الـ«رؤيا» التي تقدّم، تكون معدّة سلفاً، وتقدّم للحضور، ليس للمصادقة عليها تماماً، بل للنقاش، وربما قبول بعض التعديلات الطفيفة، لكن الذين سيناقشونها منسجمون أصلاً مع واضعيها، وبالتالي، نعود إلى مشكلة السؤال الأول، مع من ناقش واضع الـ«رؤيا» رؤيته؟ مع نفسه، مع أشباهه. وبالتالي لم نتحرك قيد أنملة. والسؤال الثالث، سيبقى معلّقاً، لأن الإجابة عنه مرتبطة حكماً بالقوتين اللتين تسمحان أو تمنعان في الضفة الغربية وقطاع غزة. وها نحن مكاننا، بعد عشرات المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات والجلسات.
هل هنا اكتفاء بالنقد؟ ما سبق مقدمة لمبادرة أدعو فيها كل القوى الفلسطينية والعربية، وكل الفاعلين في الشأن العام، وكل الأكاديميين والمثقفين، إلى التفكير بها. تذكر بعض المراجع، أنه عقد في لندن «مؤتمر لندن الاستعماري» المعروف بمؤتمر «كامبل بنرمان» سراً في الفترة 1905-1907 بدعوة من حزب المحافظين البريطاني. ويروى أن هذا المؤتمر حدث بمشاركة علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد. وأنهم جميعاً أوصوا بـ«إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل - في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس - قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة». لم يحصل هذا المؤتمر، وليس له وجود، والدكتور محسن صالح مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، وقبله الراحل الدكتور أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني الأسبق، ومسؤول الموسوعة الفلسطينية، بحثا عن هذه الوثيقة بحثاً حثيثاً وذهبا في فترات مختلفة إلى بريطانيا وبحثا في أرشيفها ولم يجدا أي شيء يدلّ على وجود مثل هذا المؤتمر، أو أي وثيقة تخصه.
ومثل هذا المؤتمر، هناك «ملتقى هرتسليا للأمن القومي الإسرائيلي» الذي يعقد سنوياً في الكيان، بحضور أكاديمي وسياسي وإعلامي وعسكري، يتم خلاله «طرح الجانب القومي والعسكري وميزان مناعة إسرائيل. ويشمل التطرق إلى شؤون الإدارة وأعضاء الكنيست وكبار رجال الدولة. ثم يتطرق الملتقى إلى الشأن الأمني من جيش وقضايا الاستخبارات وقوى الأمن المختلفة. وقضايا الاقتصاد والأكاديمية والعالم اليهودي والمواطنين الأجانب» (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار») واللافت في هذا الملتقى أنه يتولى «طرح وبحث قضايا مصيرية ومستقبلية في أجندة السياسة الإسرائيلية. وتبدو في الآونة الأخيرة أهمية هذا الملتقى في توجيه الدفة السياسية العملية في إسرائيل. لهذا، فإن عدداً من المراقبين السياسيين يتطلعون إلى توصيات الملتقى بفارغ الصبر لما تثيره من ضجة حولها» (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية«مدار»).
ما علينا، إن فكرة المؤتمرين هي المهمة، هي ما نحتاج إليه فلسطينياً وعربياً، على اعتبار أن إسرائيل هي مشكلة العرب كلهم، وليست مشكلة الفلسطينيين وحدهم. فنحن بحاجة ماسة إلى مؤتمر سنوي، يحضره أهل الاختصاص فقط، يتناقشون ويتحاورون، ويقدمون رؤيا واستراتيجية للعمل، من أجل مستقبل فلسطين والفلسطينيين، ومن أجل مستقبل العرب في داخلهم وفي صراعهم مع إسرائيل. ولا أقول أو أدّعي أن مثل هذا المؤتمر سيحرر أرضاً أو يحرر أسيراً، أو ينهي أزمة من أزمات العالم العربي الكثيرة في السنوات الأخيرة. لكنه على الأقل سيقدم فهماً عميقاً للواقع، سيقرأه ويحلّله ويقدم أفكاره وطروحاته ومشاريعه، سيضع المسؤولين أمام استحقاقات حقيقية، بدل هذه التي يتشدقون بها، ولا يفعلون من أجلها أي شيء. سيقدم مثل هذا المؤتمر أفكاراً استراتيجية للعمل السياسي، والنضال الوطني والقومي، سيضع النقاط على حروفها الصحيحة، والقطار على سكته، وسينبّه مثل هذا المؤتمر، صراحة، إلى المخاطر الجدية المحدقة بمستقبل العالم العربي إذا ما استمروا بالتطبيع والرضوخ لإسرائيل، وإلى مستقبل فلسطين وشعبها، إذا لم تتخذ «فتح» و«حماس» خطوة جدية من أجل فلسطين - على ضآلة الموضوع أمام مشكلة فلسطين الكبرى - وإلا فإن الضياع قادم بفعل الاحتلال أولاً، وبفعل أولي الأمر من الفلسطينيين، وعلى رأسهم قادة فلسطين، والعرب المطبعون والمتواطئون مع إسرائيل ومن والاها.
إنّ هذه الدعوة - المبادرة، هي بقصر القول، فلسطين تحتاج إلى «عقل» يفكر ويتدبر بها، وهذا العقل ليس سياسياً فقط. وإن لم يحدث مثل هذا المؤتمر، سنبقى أمام مؤتمرات تصرف فيها الأموال، ولا يخرج عنها إلا الكلام المعاد.