لدى كل فلسطيني في لبنان حكاية مع الصورة النمطية للبناني تجاهه، ذلك أن الواقع المعاش للاجئ الفلسطيني بمآسيه المتعددة الاقتصادية والسياسية، شكل أنماطاً أو نماذج معلبة لدى البعض، لكيفية الموقع والمكان الذي يجب أن يتواجد فيه الفلسطيني، بحيث أن الاستثناء أن يكون طبيباً أو مهندساً أو فناناً أو إعلامياً يعمل في لبنان، فالأصل أن الفلسطيني هو على هامش المجتمع اللبناني، بخلاف حال الفلسطيني خارج لبنان، فالأسماء البارزة والناجحة في مختلف التخصصات كثيرة.

أذكر كثيراً الحيرة التي كانت تنتاب زملائي في الثانوية في مرحلة البكالوريا، عن التخصصات التي يجب على الطالب الفلسطيني الالتحاق بها، والتي من الممكن أن تؤهله للعمل في لبنان، فكانت التخصصات كالحقوق، والإعلام، والفنون الجميلة، والتمثيل، والعلوم السياسية، والهندسة، والطب، والصيدلة، من الأحلام، وإن أصر الطالب الفلسطيني على تحقيق حلمه من خلالها، فمجاله محصور إما بالالتحاق بوكالة «الأونروا» للعمل، وهذا سيكون من سعيد حظه، فالأماكن محدودة، وبحاجة إلى واسطة في الأغلب، أو السفر للخارج، أو سيبقى بلا عمل، وإن التحق بوظيفة فهو على هامش المؤسسة.

امتثال عودة... طموح أوصل إلى الأمم المتحدة
دعيت في الآونة الأخيرة إلى مؤتمر في بيروت يناقش أوضاع القضية الفلسطينية من بوابة «التنمية المستدامة»، وكان من بين المتحدثين الرئيسيين، شابة فلسطينية في مقتبل العمر، تعمل في الأمم المتحدة، كباحثة في مجال حقوق الإنسان، مناقشة «العلاقة بين تحقيق التنمية في فلسطين، وبين المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، وختمت حديثها عن قصة أثارت انتباه الجميع، كيف أنها في إحدى مؤتمرات الأمم المتحدة في بيروت، تعرضت لموقف تنميطي من الصورة اللبنانية تجاه الفلسطيني، قابلت امتثال عودة امرأة لبنانية في المؤتمر، ومن خلال لهجتها علمت أنها فلسطينية، فأصابها الذهول، فما كان منها إلا أن بادرتها بالقول «فلسطينية لاجئة من لبنان وبتعملي بالأمم المتحدة، كيف!! ليش أنتو الفلسطينية بتتعلموا!!».
عندما سمعت هذا الكلام من امتثال، عادت بي الذاكرة إلى الكثير من الحوادث التي حصلت معي، وآخرها ما حصل مع زوجتي عندما أدخلت ولدي إلى إحدى المستشفيات اللبنانية، وخلال كلامها مع المستخدمة التي تنظف الغرف، صودف أنها لبنانية، سألتْ زوجتي عن عملي؟ وقد عرفت من لهجتها أنها فلسطينية، فأجابتها بأني أعمل مذيعاً للأخبار، فصعقت هذه المرأة أيضاً، وفغرت فاهها مصدومة، قالت ماذا! فلسطيني ويعمل مذيعاً! وأترك لمخيلة القارئ، كيف تلون وجهها «من أحمر إلى أسود»، بحسب وصف زوجتي، لتطمئنها أني أعمل في الإعلام الفلسطيني، وليس اللبناني، ومعنا موظفون لبنانيون، ومع ذلك بقيت المرأة مصدومة!
قصة امتثال، اللاجئة الفلسطينية، استوقفتني، توجهت إليها وتحدثت معها، ليس مستغرباً كيف وصلت إلى الأمم المتحدة، لكن كيف كان الطريق؟
امتثال شابة فلسطينية من مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، متفوقة في دراستها، التحقت بإحدى أرقى الجامعات في لبنان، الجامعة الأميركية، تخصصت في الاقتصاد، كانت تعلم جيداً أن لا مستقبل للاجئ الفلسطيني في لبنان، فوضعت نصب عينيها أن تتخرج من جامعتها بتفوق. ماذا يمكن أن يحصل بعد ذلك، لا بد أن تلتحق بوظيفة.

حاولت امتثال أن تعمل متدربة في مؤسسات أو مصارف، جوبهت بالرفض، والسبب «أنت فلسطينية»


في السنة الثانية حاولت أن تعمل متدربة في مؤسسات أو مصارف، أجرت العديد من المقابلات، كانت تجابه بالرفض، والسبب «أنت فلسطينية»، سألتْ بدورها، ولو حتى متدربة، من دون أن أتقاضى راتباً؟ فكان يأتيها الجواب: نعم، أيضاً ولو متدربة، فالمتدرب يمكن توظيفه لاحقاً في المؤسسة، وبالتالي كانت العبارة الشهيرة: «أنت تأخذين من درب اللبناني».
ما كان يجري معها، شكل نقطة تحول في حياة وطموح امتثال، فكان السؤال الذي لا بد من الإجابة عنه، لماذا الفلسطيني يعاني من هذا السوء في لبنان؟ وكيف لي أن أفهم هذا الواقع كي أغيرّه.
لقد شكّل ما حصل مع امتثال صدمة لدى عائلتها، فهي خريجة اقتصاد متفوقة من أفضل الجامعات في لبنان، فما كان من عائلتها إلا أن دعمتها في قرارها للدراسة في الخارج، فتوجهت امتثال لدراسة حقوق الإنسان والديموقراطية في بريطانيا، عبر منحة لمدة سنة، مقدمة لدعم الطلاب، بعد التخرج أحسّت بداخلها ومن خلال تجربتها، أنه يجب أن يكون لديها قدرة تنافسية أكبر لكونها لاجئة فلسطينية في لبنان، ما دفعها للتقدم لدراسة ماجستير ثانٍ في مجال حقوق الإنسان والديموقراطية في الوطن العربي، بين لبنان وتونس.
عادت امتثال إلى لبنان، وحاولت من جديد، وأجرت العديد من المقابلات لكن عبثاً، فأصبح خيار العمل خارج لبنان مساراً إلزامياً، فتقدمت بطلب للعمل في الأمم المتحدة، وبعد عدة مقابلات استغرقت وقتاً، التحقت بفريق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف.
نموذج امتثال يتكرر كثيراً، الفارق أن امتثال اتخذت قراراً بتغيير مجرى حياتها، والقيام بنقلة نوعية، ومغالبة الواقع السيئ والصعب للاجئ الفلسطيني في لبنان، فكسرت القالب وحطمت الصورة النمطية التي أراد البعض حصرها بها. ربما لا يتيسر للكثير من الطلاب الفلسطينيين، لا الإرادة الصلبة ولا الفرصة للعمل في الخارج، كما حصل مع امتثال، فواقعه في لبنان يحصره بأضيق الخيارات، وبالتالي هل ستبقى الصورة النمطية لدى البعض كما هي؟ وإلى متى سيبقى الواقع الفلسطيني في لبنان بلا حقوقه المدنية؟