في تقديمها للدراسة التي نشرتها هذا العام (2022) والتي تحمل عنوان «محو النكبة، ودعم الفصل العنصري: إنكار الفظائع في الإعلام الأميركي»، تتحدّث هيئة التحرير في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» عن دور التغطية الإعلامية في صراع الفلسطينيين منذ بداية حركتهم الوطنية؛ كيف يقوم الإعلام الغربي بشكل متعمّد بتحريف وتشويه تاريخهم وروايتهم وثقافتهم ومقاومتهم، لقد وضعهم في الهامش دائماً، انطلاقاً ممّا طرحه إدوارد سعيد في مقاله «إذنٌ بالرواية»: «ثمّة منظومة إعلامية تأديبية في الغرب تؤدي مهمتها في مراقبة معظم الأشياء الأساسية التي قد تقدّم إسرائيل بصورة سيئة، وكذلك معاقبة أولئك الذين يحاولون قول الحقيقة».إنّ من أهم ما حقّقه الإسرائيليون، إضافة إلى الدعم الدبلوماسي والعسكري المتواصلين، هو نجاحهم هذا في استخدام تواطؤ الأميركيين لنشر سرديتهم ومحو جرائمهم في الإعلام. واستناداً إلى مقال إدوارد سعيد، لقد ازدادت حدة الخطاب الأميركي والإسرائيلي ضد العرب، من ضمنهم الفلسطينيون، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، واستغلّت هذه الأحداث لتشبيه أي عمل مقاوم بالإرهاب. يتبع الإعلام الغربي الازدواجية بطريقة واضحة عبر إظهار الفلسطينيين كإرهابيين، بينما يُظهر الجانب الإسرائيلي بمظهر المتحضّر. تقارير «أمنيستي» و«هيومن رايتس ووتش» التي تدين عنصرية «دولة الاحتلال» ونظام الأبارتهايد الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، تعرّضت لهجمات من اليمين المحافظ، وهو ما يمكن الاستدلال به على أن أي نقد لإسرائيل يجعلك تحت خانة الاستهداف بمعاداة السامية حتى لو كنت من ضمن المنظومة الإمبريالية الغربية ذاتها.
أمّا مقدمة المؤلف، البروفيسور والكاتب غريغ شوباك (وهو أستاذ في جامعة غويلف - هامبر في تورينتو) فتبدأ بفكرة تغييب الرواية الفلسطينية، عارضاً السياق التاريخي لسردية الصراع في الإعلام الأميركي، بشكل يجعل الجمهور الذي يستهلك خطاب هذا الإعلام متأثراً بهيمنة الرواية الصهيونية. ينظر شوباك إلى أحداث النكبة كأهم جواب للقضية الفلسطينية، مستنداً إلى رواية الفلسطينيين أنفسهم حول النكبة، وكونها الحدث الأساسي في تاريخ صراعهم. فالإعلام الأميركي الذي يرسم صورة فلسطين لا يعكس الواقع بطبيعة الحال، ويخلو من أي سرد تاريخي ينصف الفلسطينيين، وهذا ما تستند إليه الدراسة، عن كون إنكار النكبة جزءاً من إنكار الغرب فظاعة المجازر والإبادة التي تعرضت وتتعرض لها الشعوب المستعمَرة، ما يجعل متلقّي التغطية الغربية، الأميركية خاصة، غير مهيأ لإدراك حقيقة الواقع الفلسطيني الحالي.
يعتمِد شوباك على التغطية الإعلامية الأميركية للأحداث الواقعة بين عامَي 2000 وعام 2021، وتحديداً أحداث معركة «سيف القدس» والهبّة الشعبية في الأراضي المحتلة في أيار من العام الماضي، ويقدّم تحليلاً لهذه التغطية في أهم أربع صحف أميركية، وهي: «الوول ستريت جورنال» و«يو اس اي توداي» و«النيويورك تايمز» و«الواشنطن بوست».
يذكر شوباك إحصاءات مثيرة خلال مسحه لـ 21 عاماً من التغطية الإعلامية الأميركية، حيث وجد أن عدد المقالات التي تحوي كلمات كـ«إسرائيل» و«إسرائيلي» أو «فلسطين» و«الفلسطينيين» يبلغ 80583 مقالاً، فقط 478 مقالاً منها يحتوي على مصطلح النكبة، أي ما تعادل نسبته 6% فقط.
ترتكز دراسة شوباك على تحليل حالة التغييب هذه وتفصيلها، حيث عمد إلى تقسيمها إلى ثمانية أساليب أنكرت فيها النكبة في الإعلام الأميركي، وهي كالآتي:

8 أساليب لإنكار النكبة

1-حدثان منفصلان:
يوحي الإعلام الأميركي للجمهور بأن النكبة وعملية إنشاء «دولة إسرائيل» حدثان منفصلان، بمعنى أن هذا الخطاب يُهيئ للمتلقي بأن المجازر التي سبقت إعلان إقامة هذه «الدولة»، والتطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين، غير مرتبط بإنشاء الكيان المحتل الذي أقدم على محو قرى فلسطينية وتهجير سكانها الأصليين وقتل غيرهم.
يتناول شوباك هنا عدة مقالات أقدَمها مقال كتب في أيار 2000 في «النيويورك تايمز»، يدّعي فيه كاتبه بأن ما يسمّيه الفلسطينيون النكبة هو حدث «مصاحب لولادة إسرائيل»، وهو ادعاء قائم على إنكار أي علاقة بين الحدثين. يستدل شوباك بمقال آخر، ولكن هذه المرة من «الوول ستريت جورنال» نشر في أيار 2011، أي بعد 11 عاماً من المقال الأول، ويدّعي فيه كاتبه بأن «الفلسطينيين يحيون حدث النكبة الذي وقع عليهم بعد إنشاء دولة إسرائيل»، وكأن المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، قبل إعلان إنشاء الدولة وخلاله، لم تحدث، وأن النكبة مجرد حدث وقع على الفلسطينيين بشكل ما.
يتكرر الأمر في كل المقالات التي يتناولها شوباك، حيث لا يطرح أي كاتب غربي أن النكبة الفلسطينية هي شرط مسبق لإنشاء هذه «الدولة»، لا حدث اعتباطياً مصاحباً لها، كما أن الفاعل والحدث في هذه المقالات غامضان في الغالب، وبشكل يهدف إلى تصوير أن إسرائيل خلقت من العدم. ووفقاً لشوباك، فإن هذه السردية التي بالكاد تذكر النكبة، تشكل ذريعة للأميركيين والإسرائيليين لشرعنة قيام نظام عنصري ضحيته الشعب الفلسطيني.

2-اللغة المفرغة:
تعتمد التغطية الإعلامية الأميركية على اللغة المفرغة التي لا تحتوي على أي مضمون معني بأيّ سياق تاريخي ينصف الفلسطينيين. ويستدل شوباك هنا بوصف «النيويورك تايمز» للمسيرات الفلسطينية في ذكرى النكبة أيار 2005 «ذكرى إنشاء إسرائيل، يوماً يسمّيه الفلسطينيون النكبة»، حيث يترك هذا الأسلوب المجال للقراء للتساؤل عن سبب تسمية الفلسطينيين لهذا اليوم بالنكبة، من دون ذكر أن إنشاء إسرائيل جاء على حساب 750 ألف فلسطيني تم تهجيرهم. وهو ما يعطف على تقرير لـ«يو اس اي توداي» أعدّ في تشرين الأول 2005، حول عام النكبة، يذكر فيه تهجير مئات الألوف من دون ذكر مهجّرهم.
وفي مقال آخر نشر في حزيران 2011، ولكن هذه المرة في «الواشنطن بوست»، يستشهد شوباك بأن كاتب المقال يذكر بأن عام 1948 هو عام اللجوء الفلسطيني من دون ذكر أعداد أو مسؤول عن هذا اللجوء.
ليس الحال أن الإعلام الغربي «يفشل» في تغطية صراعنا أو إيصال صوتنا، كما يرى شوباك، بل هو جزء من المنظومة الغربية الإمبريالية. بكلمات أخرى، هو شريك في الجريمة


3-الفاعل مبنيّ للمجهول:
يتعمّد الإعلام الأميركي، في تغطيته، تغييب الفاعل منعاً لتحميل العصابات الصهيونية أي مسؤولية على ما اقترفته في فلسطين. ولذلك، يتجنّب الكتّاب ترك تساؤلات عن شرعية «الدولة» لدى الجمهور، بشكل يظهر النكبة وأصحابها أقرب إلى كونهم الفاعل بدلاً من الضحية، في طريقة جديدة يستخدمها الإعلام الأميركي لدعم الرواية الصهيونية. يدلل شوباك على ذلك عن طريق ذكر تقرير لـ«النيويورك تايمز» يدّعي أن «ما يسمّيه الفلسطينيون النكبة، هو تهجيرهم من قراهم في أول حرب عربية إسرائيلية» وذلك دون ذكر فاعل التهجير. ويذكر لاحقاً مثالاً آخر، في «الواشنطن بوست»، يقول إن «إعلان قيام دولة إسرائيل هو ذكرى النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين التي أدّت إلى تهجير مئات الآلاف منهم»، وهنا أيضاً يتجنّب المقال الاعتراف بمسؤولية العصابات الصهيونية عن التهجير.

4-مركزية السردية الإسرائيلية:
يتبع الإعلام الأميركي أسلوباً مهماً آخر، وهو جعل عملية إنشاء «الدولة» محور السردية. وأهم مثالين يطرحهما شوباك هنا، عنوان فيديو نشرته «النيويورك تايمز» عام 2011 ومراجعة كتاب في «الواشنطن بوست» عام 2018، وكلاهما يعرّفان النكبة كاحتجاج على إقامة «الدولة»، من دون أي مرجع تاريخي يطلع المتلقّي على معنى النكبة أو أي من الأحداث «المصاحبة» لإنشاء «الدولة». أي، وبتعبير آخر، تبنّي نظرة المستعمِر المعتادة والمتوقعة في تغليب سرديته، أولوية حدث إنشاء الدولة، حتى ولو كانت على أنقاض القرى الفلسطينية. يجادل شوباك هنا أن أسلوب تغييب النكبة، أو اختصارها بإعلان الدولة، هو خطاب عنصري يسعى إلى محو جريمة تهجير الفلسطينيين، ويطرح القضية من وجهة نظر المستعمِرين. بمعنى آخر، تمسي النكبة بحسب هذه السردية مجرد انتصار صهيوني عوضاً عن التطهير العرقي الذي تعرّض له الفلسطينيون، أي الملّاك الأصليون للأرض.

5-توهين النكبة:
عبر هذا الأسلوب، يعمل الإعلام الأميركي على التقليل من قيمة حدث النكبة، بحسب دراسة شوباك. ففي «الوول ستريت جورنال» مثلاً، يعرّف الكاتب النكبة بأنها «مغادرة الفلسطينيين لمنازلهم»، ويعطي شوباك هنا أهمية لاستخدام كلمة «مغادرة»، التي تهدف إلى التقليل من شأن وحجم فظائع التهجير التي عاشها الفلسطينيون. ثم يستدل لاحقاً بوصف لصورةٍ نشرت مع مقالٍ آخر في الصحيفة نفسها: «عندما خسر آلاف الفلسطينيين منازلهم مع إقامة دولة إسرائيل». من جديد، هناك تقليل من أهمية حدث النكبة في السرد التاريخي وتقليل من أعداد الفلسطينيين المتضررين ولا ذكر لأي شهيد فلسطيني، كما أن النكبة، مرة أخرى، توصف كحدث عشوائي اعتباطي تصادف مع إقامة الدولة، أي أن المعلومات التي تخص الضرر والعلاقة بين الحدثين والأعداد التي تضررت غير دقيقة.

6-شيطنة الفلسطيني:
الأسلوب السادس، وفق الدراسة، هو التشويه. أي، وكما في المثال الذي يذكره شوباك، يتعمّد كتّابٌ في «النيويورك تايمز» تشويه، بل وشيطنة، صورة الفلسطينيين والعرب، بحيث يدّعون أن حلم الفلسطيني في تدمير «دولة إسرائيل»، وكذلك تعليم أطفالهم الحقد، إضافة إلى استحضار صورة الوطن في أذهانهم دوماً، وتذكيرهم بما ارتكب في حقهم، هو ما يحول بالنسبة إليهم دون إتمام عملية السلام، ملقين اللوم خاصة على اللاجئين. أي أنه بالنسبة إلى هؤلاء الكتّاب، فإن على الفلسطيني الاستسلام من أجل «السلام» مع كيان محتل اغتصب أرضه، لأنّ حلمه في تدمير المستعمر غير منطقي. يتشابه هذا المثال مع افتتاحية لـ«الوول ستريت جورنال» عن إحياء ذكرى النكبة، حيث تنص على أنه «طالما أن الحقد هو ما يحرّك المجتمع الفلسطيني، ستستمر المعاناة». فالفلسطيني هنا يشيطن إلى حدّ لومه على استمرار معاناته، ويشيطن بسبب إحياء ذكرى من فُقد خلال النكبة.

7-إنكار الفظاعة:
يجادل شوباك هنا أن إنكار فظاعة المجازر تنعكس في البيانات التي جمعها خلال دراسته. ويطرح هنا أمثلة على إنكار حدث النكبة بالمقام الأول، ويستدل بعدة مقالات تثبت أن الإعلام الأميركي ينتقي كلماته في الحديث عن النكبة تبرئة لإسرائيل من كل ما ارتكبته من فظائع لإقامة دولتها غير الشرعية. إذ يستخدم الكتّاب في «النيويورك تايمز»، مثلاً، جملاً تخفي أي جرائم مثل «خسارة الفلسطينيين لبيوتهم». وقسمٌ آخر من الكتّاب يخفف من وطأة الحدث حتى إن اعترف به، ففي مقال في «الوول ستريت جورنال» يصوّر الكاتب أن الحديث عن الفاعل في سياق النكبة نقاش مثير للجدل، أو أنه أمرٌ قابل للنقاش، أي أنه من غير الواضح إن كانت العصابات الصهيونية قد ارتكبت أيّ مجازر خلال النكبة.


8-لوم الضحية:
أسلوب يتعمّده دائماً المستعمِر الغربي وماكينة البروباغاندا التابعة له، لأنّه لا ينبع فقط من رغبة تلميع صورته أمام العالم، بل من احتقارٍ للشعوب المستعمَرة. يثبت شوباك لوم الإعلام الغربي للفلسطينيين على نكبتهم، وعلى لجوئهم، وعلى «تعثر عملية السلام»، التي ترجع إلى عدم تقديمهم تنازلات كافية عن حقوقهم. ويستدل هنا بمقال في «النيويورك تايمز» يجادل بأهمية السماح للفلسطينيين بالتعبير عما عاشوه وعن حاجتهم إلى اعتراف إسرائيل بدورها في النكبة. ويعلّق شوباك هنا بأن هذا الأسلوب يتبع مع المرضى المصابين بالتروما، حيث عليهم الحديث عنها لتخطّيها وتجاوزها، وأن الفلسطينيين هنا بالنسبة إلى كتّاب «النيويورك تايمز» ليسوا ضحايا فقط، بل هم مسؤولون عن قراراتهم. مثال آخر، وهو مقال في «الواشنطن بوست» يدّعي أن أفعال العرب هي ما يدفع إسرائيل، وحتى يستفزّها، لضم مناطق أخرى من فلسطين المحتلة مثل شرقي القدس، وهكذا يلام الفلسطينيون بدل المستعمِر.

الصوت الفلسطيني
مقابل المعطيات التي تدعم الرواية الصهيونية في التغطية الإعلامية، يستعرض شوباك بعض الكتابات الفلسطينية والصوت الفلسطيني عن النكبة، ويوضح عدم توازنها في الكمّ مع ما يكتب لمصلحة الرواية الصهيونية. فالكتابات التي لا تتبع الأساليب الثمانية في الإعلام الأميركي تكاد لا تشكّل بضعة أعشار في التغطية الإعلامية، كما أن الكتابات التي يستعرضها شوباك في دراسته هي لكل من: رجا شحادة، حنان عشراوي، نورا عريقات، ومريم البرغوثي، في الصحف الأربع، تندرج تحت مقالات «الرأي»، أي أن الصوت الفلسطيني وما يسرد من حقائق عن النكبة هو مجرد رأي، وهو المتوقع كون أن الإعلام الغربي يدّعي بأن الحقائق التي تتعلق بالنكبة هي محل نقاش أو مثيرة للجدل.
يختم شوباك بأن إنكار النكبة يقع تحت مظلة إنكار المجازر والفظائع المقبول مجتمعياً «أنغلوأميركياً». وأنه، ومع هذا الاستمرار في الانحياز ضد الفلسطينيين، لا يمكن لأي عملية سلام أن تتحقق، لأن التغطية الإعلامية التي فشلت في إعطاء القراء أي فكرة عن الوضع، لها دور رئيسي في استمرار هذا الانحياز، ما يساهم في تبرئة إسرائيل ويعطيها غطاءً لاستمرار سياساتها بحق الفلسطينيين.

العلاقة بالخطاب الصهيوني
رغم أن شوباك قام بمسح طويل للتغطية الإعلامية الأميركية بخصوص النكبة، مفصلاً أساليب إنكارها، إلا أن ما تغفل عنه الدراسة هو تحليل العلاقة بين الإعلام الغربي والخطاب الصهيوني، إذ لا يمكن أن ننسى كون «دولة إسرائيل» أوضح وجه للاستعمار المعاصر وروابط ذلك مع الغرب. لذلك، ليس الحال أن الإعلام الغربي «يفشل» في تغطية صراعنا أو إيصال صوتنا، كما يرى شوباك، بل هو جزء من المنظومة الغربية الإمبريالية. بكلمات أخرى، هو شريك في الجريمة، وبناءً على هذا، لم تكن يوماً معركتنا الإعلامية هي إقناع قنوات وصحف بورجوازية أميركية أو كتّابها بمساندة قضيتنا ودعمها. فما قد يراه شوباك «تقصير الإعلام الغربي»، هو معركة إعلامية ضدنا، يستطيع الغرب تمريرها مدّعياً ديموقراطية مزيفة عن طريق إشراك البعض في الحوار. وهو ما يذكره غسان كنفاني في دراسة حول قضايا التعامل الإعلامي والثقافي مع العدو، حيث يقول:
«إننا بصورة إجمالية، وعلى الرغم من كل تجاربنا، لم نستوعب بعد مدى انحياز وسائل الإعلام البورجوازية إلى الحركة الصهيونية التي تراها كجزء حيوي من منطقها وتطلّعاتها. وحسنُ ظنِّ كثيرٍ منّا بكمّية مظاهر الديموقراطية الحرة وجدواها في وسائل الإعلام هذه، وطابع "البرلمانية" و"الحوار" الذي تمنحه لنفسها، هما في الواقع نتيجة مدى تغلغل سطوة هذه الوسائل الإعلامية في عقول بعضنا».
ما ندركه كفلسطينيين، وما يذكره كنفاني أيضاً، هو أن معركتنا الإعلامية ليست مجرد مبارزة كلامية على شاشات التلفاز أو حرب الرواية في الصحف، وأبسط دليل على ذلك أن كل مساعينا في تصويب الرواية باءت بالفشل، لأن الغربي يتناساك حين تُقتل وتُهجّر وتُسجن، ويُجبر على ذكرك حين تقاوم وتصوّب الرواية بنفسك. وهو ما حدث في أيار 2021 حين أُجبر الإعلام الأميركي على استضافة متحدّث كمحمد الكرد الذي لم يحاول تجميل حقيقة الاحتلال، وتعرّض للملاحقة والحصار ومحاولة تكميم فاه بعدها حين خفّت وطأة الأحداث.
بكل بساطة، من يدّعي مناصرة حقوق الإنسان في الغرب لن يلتفت إليك حين تُقتل، لكنه سيهبّ للدفاع عن حقوق الإنسان حين تقاوم أنت مستعمريك، وحينها سيجبر على أن يسمع صوتك، ومن هنا ندرك أن ما سيحقق السلام للفلسطيني هو هزيمة الاستعمار، لا تصويب رواية من ينحاز ضده، لأن جدوى مقاومته هي ما تنتشله دوماً من هامش التاريخ لتصوّب الرواية وتكتب تاريخه الثائر.
في دراسة أخرى لكنفاني، يقول إن المعارك الإعلامية في الغرب تأخذ شكل المواجهة بين اليمين واليسار في البلد المعني، وأن ما يمكن أن نفعله هو أن نستغل تلك التناقضات لدفع اليسار نحو مقاومة الرجعية. إلا أنّ ما يختلف في هذه المعركة، بالنسبة إلينا، هو تغيّر شكل اليسار الغربي في وقتنا الحالي، فتحوَّل من قدرته على الانخراط في صراعات الجنوب العالمي، والانخراط في صفوف المقاومة، إلى الانخراط في نشاطات الحفاظ على البيئة وتنظيم حملات هدر الحليب في المحالّ التجارية. وفي فلسطين على وجه الخصوص، نرى صورة الناشط الغربي الأكثر تقدّمية، الذي يأتي مع منظمات حقوقية مبنية من شبكة نهب ثرواتنا، ليسكن في بيت لا يمتلك الفلسطينيون أنفسهم ثمن استئجاره، ثم ينظّم وقفة دبلوماسية غاضبة أمام منزلٍ لفلسطيني يُهدم أمام عينيه. وعلى الصعيد الإعلامي، برز دور اليسار الليبرالي في تمويل منصات إعلامية مستقلة تكتب باللغة العربية، بلسان عربي، ما يثبت حجم تغلغل الغرب من أقصى يمينه إلى يساره الجديد في الإعلام العالمي، وحتى نجاحه في تجنيد ألسنة عربية تخدم روايته وهيمنته.
ختاماً، عند تحليل خطابات الإعلام الغربي وأساليبه في تغييبنا عن المشهد، علينا إدراك موقع من يكتبها، إذ يسخّرها في خدمة مصالحه السياسية والطبقية. فالإعلام الغربي، بشكل عام، وبالرغم من تغيّر صراعات مجتمعاته الداخلية، دائماً ما يجد طريقة لمحاولة محونا من التاريخ إلى حين أن نستنهض قوانا لمحاربة معاركه ضدنا على الأرض وفي الإعلام.