أعتذر سلفاً لقساوة الكلمات، وأشكر قلوب القرّاء الرحيمة لقدرتها على احتمال هذا القدر من الوجع الذي احتملناه ولا نزال نحتمله، رغبة منّا وشغفاً في الحياة الكريمة الخالية من أبشع أصناف الاحتلال وأقسى أشكال الظلم والتعذيب. ربما لا يسعفني هذا المقام أن أكتب عن كل ما سبّبه الاحتلال خلال عشرات السنوات من القمع والتعذيب والإعدامات والاعتقالات وتشريد الفلسطينيين، السكّان الأصليين، من أراضيهم وبيوتهم، وتشتيت العائلات، بل قتلها ومحوها من السجل السكاني، وغير ذلك من آثار الاحتلال الكثيرة والمرعبة. لكني سأحاول، إن استطعت، أن أختصر لكم في هذه العجالة أقسى الأوجاع وأشدّها إيلاماً وأكثرها غرابة ودهشة في عالمنا اليوم. مثلما يأسر الاحتلال الفلسطينيين ويزجّهم في السجون والمعتقلات في ظروف غير إنسانية، فإنه اعتاد، ودون حساب وعقاب، أسر جثامين الفلسطينيين، مقاومين ومواطنين، أطفالاً وشيوخاً، رجالاً ونساء، وزجهم في ثلاجاته، أو دفنهم في مقابره التي يسمّيها مقابر الأرقام. وهذا الأسر الغريب، الذي لم يعرف العالم والتاريخ له مثيلاً، يبدأ بإطلاق النار حتى الموت، على الفلسطيني، في أيّ وقت وأيّ زمان وأيّ ظرف ولأيّ سبب، حتى من دون أن يشكّل أي خطر على الجنود المدجّجين من الرأس حتى القدم بأقوى الأسلحة وأحدث وسائل الحماية، بحجة «الدفاع عن النفس» من طفل صغير يعبث بجيبه فأثار الشبهة، أو فتاة تاهت في مسرب لحاجز عسكري فقادها القدر إلى الموت. لا ينتهي الأمر حد الإعدام الميداني من دون محاكمة ومنع سيارات الإسعاف من الاقتراب إلى المكان وتقديم الإسعاف لإنقاذه من موت محقق، وجعله ينزف إلى أن يفارق الحياة، بل يمتدّ ويستمر باختطاف الجثمان ووضعه في كيس بلاستيكي أسود ونقله إلى ما يسمّى «معهد الطب العدلي» داخل دولة الاحتلال، من دون علم العائلة، ومن دون التيقّن والتأكّد من واقعة الإعدام، ومن دون معرفة المصير.
ينقل الجثمان، مباشرة، أو بعد وقت قصير، إلى ثلاجات المعهد العدلي، ويلقى داخل الثلاجة الممتلئة بجثامين الشهداء، بلا مراعاة لضيق الثلاجة ولجنس الشهيد وعمره. ويحبس هناك لفترة غير معلومة، قد تمتد إلى سنوات، في درجة حرارة ثلاثين تحت الصفر، وفي ثلاجات ضيّقة جدّاً وتالفة تنبعث منها الروائح الكريهة وتحيط بها الزواحف والحشرات. وتكون الجثامين مكدّسة فوق بعضها البعض بلا انتظام. ومع طول الاحتجاز، يتّخذ الجسدُ الوضعيةَ التي اتخذها حين الإلقاء به داخل الثلاجة، ويتجمّد على هذا الوضع وقد يكون منحنياً أو مرفوع الساقين أو الذراعين.
وفي حالات كثيرة، ينقل الجثمان إلى ما يسمّى «مقابر الأرقام»، وهي مقابر عشوائية في أماكن محدّدة من فلسطين، داخل كيس أسود ويوضع في حفرة سطحية ويغطى بطبقة خفيفة من التراب ثم توضع علامة على القبر تحمل رقماً. والجثامين في هذه المقابر تتعرّض للوحوش الكاسرة التي تنهشها، أو إلى الانجراف نتيجة الفيضانات والسيول، فتختلط رفات الشهداء بعضها مع بعض، فتجد قبراً فيه رفات أكثر من شهيد.
104 جثامين شهداء منذ تشرين الأوّل 2015 ولغاية لحظة كتابة هذه السطور (العدد مرشح للارتفاع كل يوم)، و253 رفات شهيد في مقابر الأرقام منذ عشرات السنين


من المؤلم أن نواصل الحديث عمّا تفعله مقابر الأرقام والثلاجات من تمثيل وتغيير في ملامح الشهيد وضياع رفاته. ولكن أجد من المناسب التطرّق، ولو قليلاً، إلى ما يسبّبه هذا الاحتجاز من عذاب ووجع لعائلات الشهداء، آباء وأمّهات وأطفالاً وزوجات، هذا العذاب الذي يبدأ من اللحظات الأولى لواقعة الإعدام واختطاف الجثمان. فالعائلة لا تتلقّى الخبر اليقين ولا تعاين جثمان ابنها لتتأكد من أنه انتقل إلى رحمة الله، فتقيم خيمة عزاء بلا جثمان، وتعلن وفاة ابنها من دون التأكد من الوفاة. وبدل أن تنشغل في الحزن والتعبير عن الفقد وامتصاص الصدمة، تخوض معركة تضطرّ إليها فجأة ومن دون سابق إنذار. وهذه المعركة متعدّدة الجبهات؛ قانونية وشعبية وإعلامية وسياسية ودولية. وهنا تنقلب حياة العائلة ويتغيّر نظامها رأساً على عقب؛ يتحوّل البيت إلى خيمة عزاء دائمة بانتظار الجثمان المأسور في الثلاجة، ويمضي الأب يومه في الهرولة بين المؤسسات مطالباً بجثمان ابنه، وتقضي الأم جلّ وقتها في الميدان تحتضن صورة ابنها أمام وسائل الإعلام مطالبة بوداع ابنها ودفنه. أشهر كثيرة والعائلة في حالة اضطراب، لا توجعها اقتحامات الجيش لبيتها، ولا اعتقال أفراد العائلة، ولا حتى هدم البيت كعقوبة جماعية، بل يوجعها انتظار اليوم والساعة التي تحتضن فيه ابنها الشهيد لتدفنه في المكان الذي تريد. يوجعها اللايقين بمصير ابنها، هل هو ميّت أم حيّ؟ هل هو في الثلاجة أم في مقابر الأرقام؟ هل تعرّض جثمانه لتشريح وتشويه وسرقة الأعضاء؟ أسئلة كثيرة لا تجد العائلة إجابات لها وتبقى تقلقها لأيّام وأشهر وسنوات طويلة. لقد اعتدنا في حياتنا اليومية أن نفتح ثلاجة المنزل لنخرج منها اللحم المجمد أو الدجاج، ولكن حتى هذا السلوك اليومي يوجع أمّ الشهيد المحتجز التي تتذكّر جثمان ابنها في الصقيع كلّما فتحت باب ثلاجة المنزل.
104 جثامين شهداء منذ تشرين الأوّل 2015 ولغاية لحظة كتابة هذه السطور (العدد مرشح للارتفاع كل يوم)، و253 رفات شهيد في مقابر الأرقام منذ عشرات السنين، لا تزال عائلاتهم تنتظر دفنهم دفناً كريماً في مقابر فتحت ولا تزال تنتظر الامتلاء. ولا يزال الاحتلال يضرب عُرض الحائط بكل القرارات والقواعد والأعراف الدولية والدينية والأخلاقية، ويمعن في ممارسة هذه الجريمة التي تصل إلى حدّ جرائم الحرب. وقد شرعن الاحتلال جريمته بقرارات ممّا يسمّى محكمة العدل العليا التي، وعلى نحو مخالف لكل قواعد القانون الدولي والإنساني، أجازت لحكومة الاحتلال احتجاز الجثامين.
وبهذه القرارات، تكون عائلات الشهداء قد استنفدت وسائل الإنصاف المحلية وأغلقت في وجوههم النافذة الضيقة التي تسمّى بالقضاء المحلي، ولم يبق أمامهم إلا التوجه إلى القضاء الدولي ومحاولة خلق رأي عام دولي ضاغط على حكومة الاحتلال لوقف هذه الجريمة الإنسانية. في هذه الأثناء، تمتلك العائلات ما يكفيها من القوة والإرادة والعزيمة لمواصلة هذه المعركة لانتزاع حقها في دفن أبنائها دفناً كريماً. وهذا الحق لا ينتهي بالتقادم، وغير قابل للمصادرة بقوة قرارات محاكم الاحتلال. إنه حق أصيل، نشأ منذ نشأة الخليقة عندما سخّر الله الغراب لقابيل ليدفن أخاه هابيل تحت التراب.
توديع أبنائنا، تقبيل جباههم، دفنهم في المقابر المفتوحة التي أنهكها الانتظار، أن نزرع وردة على حافة القبر، نرويها بدمعة وقطرة ماء، أن نزور القبر متى شئنا، نناجي أبناءنا الشهداء، وربما نشكو إليهم قسوة الحياة في ظل الاحتلال، هذا ما نريده، هذه رسالة معركتنا التي نخوضها في إطار الحملة الشعبية لاستعادة جثامين الشهداء تحت شعار «بدنا ولادنا». فهل هذا كثير؟

* محامٍ - القدس المحتلة