«هي معركة رفع المستوى النفسي للإنسان العربي إلى مستواه الحقيقي: أي الحضاري»(غسان كنفاني)

تحرير الزمن
يجادل المفكر المصري أنور عبد الملك أنه وفي ظل الهيمنة الحضارية للغرب، فإنه لا سبيل لتحقيق نموذج آخر له صفاته الوطنية والحضارية من دون الركون إلى ما سمّاه «حقل الخصوصيات». أي ولتتخلص الأمم من هامشيتها وتحدث ثورة اجتماعية واقتصادية فإن عليها الحفاظ على هويتها الحضارية والثقافية الخاصة. وهو هنا أبعد ما يكون عن الحض على الجمود والخصوصية الثقافية وبأن لكل أمة ثقافة واحدة صلبة ذات جوهر لا يتغير. بل وعلى العكس فهو يحض بتعبيره: على أنه وإذا أردت تحقيق ذاتك وتجنب طريق الغرب والتخلص من التهميش فإن الطريق الوحيد هو إحداث تحويل في مجتمعك الوطني، وهو ما يستدعي البحث عن بدائل مستمدة من مشروع وتصور حضاري واستراتيجية مرافقة له.
يولي عبد الملك هنا أهمية لما سمّاه «جدلية الزمن»، أي تلك العلاقة الجدلية على مدى الخط الزمني بين الشعوب وعمقها التاريخي ومع عملية بقائها واستمراريتها الاجتماعية عبر التاريخ، بالذات مسألة الهوية والحفاظ عليها وتطويرها. وذلك ضمن عواملها الخاصة الكامنة (علاقتها بالجغرافيا والسياسة والاقتصاد والأديان) والتي تقف خلف وجود هذه الهوية وعدم انقراضها. فالزمن هنا بتعبيره «نهر لا ينتهي»، فهو يحمل كل مضمون تاريخنا وتطورنا، وعليه يستلزم هذا الوجود التمايز الضروري عن بقية الحضارات حتى نستطيع أن نخاطب أنفسنا بلغتنا وأدواتها الثقافية ونطور مشاريعنا الحضارية الخاصة بالتعاون الهادف مع الشعوب والحضارات الأخرى. بيد أن النقطة هنا أنه لجدلية الزمن بُعد سلبي وهو العلاقة مع الهيمنة المطلقة للغرب على زمان كل الشعوب، ولذلك يخبرنا عبد الملك أنه علينا ممارسة لعبة الزمن، أي «تحرير الزمن».

«سيف القدس»
لا تمثل معركة «سيف القدس» لحظة فارقة بالمنظور العسكري والمقاوم لصراعنا مع العدو على أرض فلسطين فحسب، بل إن فيها ما يؤهلها مضموناً وعنواناً لتكون لحظة استعادة وجود حضاري عربي بامتياز. فنحن بكل أنفة وكبرياء من بدأها، ولأجل ماذا؟ لأجل القدس. وبعيداً من ابتذال الحساسية والهوس المنطلق من قصر وضيق نظر من الربط الديني بالقدس، فكما كل الحضارات لنا ارتباطنا الوجداني والروحي والمعنوي ببقع جغرافية من وطننا لخصوصياتها التاريخية وإرثها الديني، بل إن جزءاً أساساً من تعريفنا كحضارة وجود هكذا جغرافيا. فمن منا مهما كان إيمانه العقدي والفلسفي لا يسحره النظر لمشاهدها، أو أنه يتخيل أن ليس للحضور فيها وأزقتها طاقة مختلفة، ولذلك نرى أننا نكيّف أدواتنا الثقافية حولها، نرسمها، نعلقها على الجدران، وننسج أبياتاً شعرية حولها ونغني أنها في البال وأن لها «سيف فليشهر»، بل ونشهره على أرض المعركة.
فللسيف هنا عند العرب رمزية ثقافية حملها لنا نهر الزمن، بتعبير عبد الملك، وجدلية استعادته واستحضاره هو جزء من عنفواننا الحضاري، وعلاقتنا مع خصوصيتنا وتمايزنا ومضيّنا قدماً. حيث أن عملية «تحرير الزمن» تقدّمية بالتعريف، فهي تقتضي تحرّك التاريخ، تفاعله مع ماضيه بإيجابية. فما هو العنفوان الحضاري إن لم يكن بواقع أن للقدس سرايا، وأن نجسّر الزمن عبر شيخ قدم من سوريا في الثلاثينيات من القرن الماضي يتحول لكتائب توحد فلسطين في الجغرافيا والرد، ولنخاطب ذواتنا كعرب كأنه لا يزال بيننا بأن نقول مثلاً أن «القسام قصف تل أبيب».

«المسيرة الكبرى» والخصوصية الفلسطينية
تقاطع كل من كنفاني وعبد الملك بالاستدلال بـ«المسيرة الكبرى» خلال الثورة الصينية. ففي معرض تعليقه على تبعات معركة الكرامة، يشير الشهيد إلى أنه وبمنظور عام، تعيش كل الثورات لحظات ترتفع فيها الحماسة والعنفوان، بيد أن المسألة المحورية أنه وبعد كل حماسة يمسي هنالك ميول خطير للخمول وأسطرة الثورة. وعليه، قام باستعادة نموذج المسيرة الكبرى لماو، محرضاً على استمرار العمل والزخم الثوري رغم كل الصعوبات، وهو ما يجب الحرص عليه اليوم بعد «سيف القدس»، وهو ما قام به الشعب الفلسطيني خلال العام المنصرم بكل جدارة.
من جهته، يستعيد عبد الملك «المسيرة» كنموذج لحدث تاريخي ثوري استراتيجي، أسهم في تركيز ثورية الهوية الوطنية بما يشمل أوسع إجماع ممكن من المواطنين. حيث يجادل المفكر المصري أن اعتبار عملية توحيد القوى السياسية الوطنية كمعضلة، هو اعتبار إشكالي. لأنه وفي حالة التحولات الكبرى في المجتمعات واسعة النطاق كوطننا العربي (أو الشعب الصيني) فإنه لا سبيل سوى حشد أوسع إجماع شعبي، أي أولئك المؤمنين بمشروع التحرير والمقاومة. وهو هنا يرسم علاقة بين الهوية الوطنية والعمليات الثورية، حيث أنه عبر عملية تكثيف خطاب وطني متأصل بالسياقات التاريخية وخصوصيتها -كرمزية مسمى أبو عبيدة- سوف يكون ثقة ورابطة شعبية أكبر بين الهوية والمقاومة، ليشكل ذلك ما أطلق عليه «الجبهة الوطنية المتحدة» أو ما نطلق عليه اليوم «محور القدس».
يبرز عبد الملك هنا دوراً مخصوصاً للفلسطينيين، متحدثاً عن دور منوط بالشعب الذي يتعرض للهيمنة والعدوان المباشر، بأن عليه أن يشكل ما أطلق عليه بتعبيره: «حلقة الوصل» الخلاقة لتجميع شتات جميع المجتمعات المتفرقة من كتل إقليمية وجيوثقافية ضمن القالب الحضاري الأوسع عربياً وإسلامياً. أي أن يحرص الفلسطينيون، قادة وشعباً، على لعب دور ترصيص صفوف الشعب العربي بعد عقود من الانقسامات الأهلية وحروب التدمير الذاتي داخلياً وذلك عبر لملمة الجراح.
بدوره يبرز هنا دورنا نحن كعرب، ومسؤوليتنا العروبية في صون الهوية الفلسطينية وكل ما يمسها، وذلك ليس ضمن إطار التقسيم بل من منطلق فهم هذه الخصوصية، وبأنها تلعب دور المخلب في وجه المشروع الصهيوني، ومن منطلق استعادة وفهم ما قاله أبو عبيدة عن شعبه الفلسطيني في مثل هذا اليوم قبل عام: «خضنا في المقاومة معركة سيف القدس دفاعاً عن القدس بكل شرف وإرادة واقتدار، نيابة عن أمة بأكملها، خضنا معركة نيابة عن أمة تشاهد القدس تذل من شذاذ الآفاق وحثالة البشرية».