ثمّة حشرجة في حلقه. حاول السعال كي ينظّف مجرى تنفسه. تنحنح. يبدو أنه أفرط بالتدخين، علبة كاملة في ليلة واحدة. فكر لو أن عبير دخلت عليه في لحظته تلك، كيف يقف أمامها؟ لن يعمل معجون الأسنان مع كل هذه السجائر. لا بد ستتحاشى ذلك، وتقول، كعادتها، أنت تعتدي على جسدك... وينشب المشكل.قرّر أن يستقبل صباحه عند بحيرة هايد بارك وسط المدينة. غسل وجهه. نظر إلى نفسه في المرآة، لقد أصبح ممتلئ البطن كما لم يكن من قبل، شعره كثيف، يغزوه بعض البياض في خصلاته الأمامية. حاول أن يقنع نفسه أنه لم يتغيّر من الداخل. عاداته على حالها، لا يحب مخالطة البشر كثيراً، يفضل الماء على اليابسة، فهو ابن بحر غزة، ضوء بيته دائماً خافت شحيح، وربما هذه الأخيرة أيضاً اعتاد عليها في سنوات حصار غزة. سمع صوت محرّك الحافلة يقترب من منزله. ترك أفكاره معلقة في الهواء. أنهى مقابلته الصباحية مع المرآة ثم أسرع باتجاهه.
وقف عند البحيرة، يشرب كوباً من القهوة السوداء. داعبت مخيلته فكرة العودة إلى غزة لأيام والزواج من عبير. على الفور، أرسل طلب إجازة زواج إلى رئيس تحرير الجريدة. لم يخبر أحداً من عائلته بشيء. حدد موعد السفر بعد أسبوع. معبر رفح بوابة غزة الوحيدة إلى العالم في أحسن أحوالها هذه الأيام. لذا يستطيع أن يسافر. فكر في يوم سفره، السادس من أيار، ستة أيام فقط سيكون في مصر. سيحتاج يوماً هناك حتى يصل إلى معبر رفح ويقطعه نحو مدينته.
توجه إلى شارع أكسفورد، تنقل بين محاله التجارية الفاخرة، حاول أن يختار ألوان ثيابه بتناسق، دقق في القمصان المعروضة، جرّب أن يقرأ علامتها التجارية، لم يعرفها لكنها بدت مميزة. دخل غرفة الملابس، ارتدى ما حمله من صالة العرض. تأمل نفسه في المرآة. الكرش هو المعضلة التي لم يستطع حلّها بعد. لم يبق من الوقت الكثير. جاءه صوت أمه؛ لا يصلح الكحلي على الأسود، تقول. من أخبرها أنه سيختار هذه الألوان، ما هذه البلاهة التي تسيطر على ذوقه. أعاد ما اختاره إلى مكانه على الرفوف، شعر بالإحباط، ثم انطلق إلى محل آخر، ليجرب حظه مع الألوان. لقد أمضى أسبوعه الأخير في لندن على هذه الحال.

كوكب غزة
ها هو يعبر بوابة معبر رفح، الحد الفاصل بين كوكبين؛ كوكب الأرض وكوكب غزة المحاصرة، قطاع منسي يعيش في حضن البحر والصحراء معاً، فلا يطال خير هذا ولا ذاك. قلب أمه كاد أن ينخلع من شدة الفرح لما دخل عليها فجأة. لقد كبرت قليلاً، لكن همتها لم تخبوا وعزمها لم يخر. احتضنته كما لو كان قد غاب عنها دهراً وليس سنة واحدة. بكت وزغردت حتى تجمعت حارة الرمال كلها في بيتهم. أبوه بدا وكأنه كان يكبر في كل يوم شهراً، أحزنه أن يجده متثاقلاً في مشيته. أمّا المدينة فعلى حالها، أسواقها، ناسها، رائحة البحر التي تسكن بيوتها، سخونة صيفها، وظلام ليلها الحالك.
صباحاً، استيقظ على رائحة الخبز. ما زالت أمه تصنع خبزها بيدها، تصحو فجراً، تحضر الطحين، تضيف عليه حليباً فاتراً وقليلاً من الملح والسكر، تدعك الخلطة في بطن يديها، تنتظر العجينة حتى تتكور وتكبر، ثم تقطعها وتدورها، تمدها أمامها، وتبدأ بخبزها. يا لروعة هذا الصباح - قال وهو يأكل من خبزها الساخن.

زواج ومدافع
أخيراً، خلا بوالده في يومه الثاني من الزيارة. سأتم موضوع الزواج خلال أسبوع، قال. ابتسم أبوه ثم أجاب باقتضاب: على بركة الله. حجز في نفس اليوم غرفة في فندق المشتل، اختار جهة البحر، قال، وهو يفحص الغرفة مع عامل الفندق، لا بد أن عبير «ستجن» بهذا الخيار، الطابق الثامن، نتخلص من ضجيج المدينة، نرى البحر واضحاً أمامنا، ونسبح وحدنا في الحب.
التاسع من أيار، أمه تشتري حاجيات يوم العرس، عبير تجهز لحفلة الحنة، وهو يتابع عن كثب الأخبار الآتية من القدس المحتلة. أحزنه أن يوم زفافه سيكون في يوم مسيرة الأعلام الإسرائيلية، لكن لا وقت لديه، العجلة أفضل قبل أن تنتهي إجازته ويغادر غزة.
صبيحة العاشر من أيار كانت زفة أصدقائه على بوابة بيتهم، طبل وغناء وفرح، غزة تلتقط أنفاسها وتنظر إلى القدس، رفض والده فكرة تأجيل فرح ابنه، من حقنا أن نفرح، والأوضاع لم تكن جيدة منذ سنين، قال، لكن مع إلحاح أحمد اختصروا مراسم الفرح على زفة العريس.
السادسة بتوقيت القدس، أحمد وعبير في طريقهما إلى الفندق، الاحتلال يوغل باعتدائه على المقدسيين، والمقاومة تنفذ وعدها وتطلق رشقتها الأولى باتجاه المدينة المقدسة. حاول أن يخفي الأخبار عن عبير، لكنها كانت أكبر من أن تحتجب. والده قال إنه تصعيد عادي ينتهي بعد ساعات.
بدا لهما أن موسيقى جميلة تسري في المكان، لم يكمل كلمة أحبك، دوى صوت انفجار قوي


أخيراً أصبحا تحت سقف واحد، صحيح أن الأمور لم تكن كما أراد لها أن تكون لكن ذلك لا يهم الآن. ها هو مع فتاته التي طالما حلم بها، وجهاً لوجه في غرفة واحدة، اقترب منها، أمسك يدها، بدت ملامح الخوف والارتباك واضحة على وجهها، وضع يده على شعرها، نظر في عينيها طويلاً، تبارك الله، قال، فرسمت ملامحها ابتسامة لطيفة، حاولت أن تتحاشى النظر المباشر إلى عينيه، بدا لهما أن موسيقى جميلة تسري في المكان، لم يكمل كلمة أحبك، دوى صوت انفجار قوي، ارتعبت، أجهشت في بكائها، التصقت به، وكان ذاك أول عناق لهما.
حاول لساعات أن يهدئ من روعها، قص عليها بعضاً من أحلامه التي بدت بعيدة رغم قربها، أخبرها عن الأمان الذي ينتظرهما في لندن، المنازل الجميلة، المساحات الخضراء، الملاعب والأطفال، الحياة خارج الحرب. ضحكت أخيراً، «نام الآن وادعوا ربك أن ننجو من الموت أولاً»، قالت.
أدرك أحمد أنه خسر رهانه أمام آلة الحرب، غط في نومه، بقيت وحدها تحاول أن تتخلص من هذا الليل ما استطاعت، أعدت لنفسها كوباً من الشاي، أغلقت الستائر، كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجراً، حاولت كثيراً أن تنام لكنها لم تستطع، كان قلبها ينخلع من مكانه مع كل انفجار يهز مدينة غزة فيما يكتفي أحمد بالتقلب في مكانه على الفراش. لم تكن تجربتها الأولى مع الحرب، لكنها بدت كذلك.
اتصلت بوالدتها، كانت مستيقظة هي الأخرى، أكملت عد الضربات، كانت تتنقل بين مجموعات «الواتساب»، تتفقد أماكن الغارات. الأخبار تفيد باستهداف متكرر لحي التفاح حيث تسكن صديقتها غادة، لو كانت ليلة غير هذه لكلمتها تطمئن على حالها، لكنه يوم مختلف، أو هكذا كان يجب أن يكون. لم تنم، ولم توقظ أحمد من نومه، فضلت أن تقضي الليلة على كرسي خشبي وضع بجانب مكتب صغير بزاوية الغرفة. الغرفة التي لم تلتفت إلى فخامة تفاصيلها. الحرب أخمدت رغباتها في الرفاهية، وأبقت على أمل وحيد لديها؛ أن تنجو من هذه الليلة حية.
الخامسة صباحاً، البوارج الإسرائيلية تستهدف ساحل قطاع غزة، أصوات قوية هزت المكان، استيقظ أحمد، عانقته، بكت، غرزت أظافرها في ظهره، توجع من دون أن يظهر لها ذلك. قالت لا أريد هذا الفندق أعدني إلى بيت أهلي.
أخبرها بأن الفندق غير مهدد بالقصف، بصوت مرتفع أجابت، إننا نشاهد الحرب من الأعلى، نحن في المنتصف، الصواريخ من هنا إلى هناك، وأشارت إلى يسار النافذة. الغارات في كل مكان. أريد أن أعود، هذا أهون عليّ من أن أرى كل ذلك، على الأقل نموت مع أهلنا يا أحمد.
أعادها إلى بيت أهلها، وعاد هو لينام مع أخيه في غرفة مشتركة. فجر اليوم الثاني وصلته رسالة على هاتفه تفيد بورود اسمه وعبير على المعبر في كشوفات المسافرين! عليه أن يكون عند معبر رفح بعد خمس ساعات فقط، حقيبة سفره جاهزة، أسرع إلى عبير «معك ساعتين ودعي أهلك لنخرج».

لندن ثانية
ليس عصر السرعة الذي فعل بهم ذلك، إنها غزة وعصرها. رحلة طويلة استمرت يومين من غزة إلى لندن، نصفها في الانتظار على المعبر وفي الطريق إلى مطار القاهرة.
عبير تجلس الآن في لندن، تشرب قهوتها الصباحية مع أحمد بهدوء، أسعدتها السناجب في حدائق لندن أكثر من العصافير، تمضي ساعات من يومها في محاولة تصويرها والاقتراب منها وإطعامها. توثق على هاتفها كل شيء، الباصات الحمراء، القطارات التي لا تخلف مواعيدها، الزهور الغريبة، الشتاء في حزيران وتموز، ووجوه أناس لم يروا حروباً في حياتهم. إلا أنها تشتاق إلى غزة، وتأمل في زيارة قريبة لأهلها، تطفئ نور بيتها كلما انقطعت الكهرباء عن أصدقائها هناك. كثيراً ما تفرح عينها، وتدمع عينها الثانية في الوقت ذاته، فهي وأحمد يعيشان حياة منقسمة بين لندن والبلاد.