غزة | يقف الثلاثينيّ الأصمّ والأبكم، سامح أبو سعد، كلّ يوم، بين عشرات السائقين في موقف السيارات وسط مخيم النّصيرات في قطاع غزة. يُشير بيديه إلى الركّاب ليملأ سيّارته، قبل أن يطوف بها أرجاء المخيم. يقتات من خلال مهنته، ويُطعم أُسرته المكوّنة من ستّة أفراد. للوهلة الأولى، ترى أبو سعد شخصاً عادياً كغيره من السائقين، لكن عندما تستقلّ سيّارته وتقرأ لافتة مُعلّقة على زجاجها مكتوباً عليها: «السائق أصمّ أبكم، نبِّهني لما توصل بهمزة»، تعرف أن معاملته ستكون مختلفة، لأنه من ذوي الإعاقة. يعمل سامح كسائق أجرة على خطّ النصيرات (مخيم 2 والسوارحة) منذ ثماني سنوات، ويحرص على الحضور يومياً مُبكراً إلى الموقف حيث يحجز دوراً لسيّارته، حتى صار معروفاً بين الركّاب والسائقين على حدّ سواء.
(نضال الوحيدي)

بلُغة الإشارة، يحدّث أبو سعد «الأخبار»، قائلاً: «عملْت بمهنة النجارة قبل السياقة، لكنّني تركت العمل فيها بسبب سوء الأوضاع، ثمّ بحثت بعدها عن عمل في مهنة أخرى تتناسب مع وضعي الصحّي، لكن الرفض هو أوّل كلمة تُقال لي لأنّني من ذوي الإعاقة». ويضيف: «لم يكن لديّ خيار إلّا أن أبيع ما أملك من ذهب زوجتي، لكي أشتري سيارة أتمكّن من خلالها من توفير متطلّبات أسرتي». ويتمتّع أبو سعد بذاكرة قوية تساعده في التغلّب على صعوبات هذه المهنة الشاقّة، فهو يحفظ الطرق التي يدخلها في مختلف مدن القطاع، كما يحفظ أشكال كثيرين ممّن يستقلّون مركبته دائماً، ولديه القدرة على التعامل مع أيّ خلل في السيارة. وعمّا إذا كان يواجه صعوبة في التعامل مع الركّاب عند إنزالهم في أماكن سكناهم، يؤكد أبو سعد أنه «في بداية الأمر، كان الناس يخافون الركوب معي، لكن بعد ما شافوني إنّي متمكّن وبعُرف أشتغل على الخطّ، الكلّ صار يحب يوقفني ويركب معي لحتى أوصله للمكان إلي بدّه ياه». ويقوم بعض الركّاب، كذلك، بالتربيت على كتفه بهدوء عندما يريدون النزول، فضلاً عن أنه يعمل في المنطقة التي يقطن فيها حالياً، الأمر الذي يسهّل عليه معرفة مقصد كلّ شخص، ما يجنّبه الوقوع في إشكالات.
(نضال الوحيدي

تلفت إسلام، زوجة السائق سامح، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «الجميع استغرب في البداية عمله في السياقة، لأن هذه المهنة تعتمد بشكل أساسي على حاسّتَي السمع والنطق، وسألوا كيف سيتعامل مع الركاب؟ وكيف سيتنقل في الشوارع؟». وتضيف أنها «لم تهتمّ لكلام الناس، وقرّرت مساعدة زوجها، ففي الأسبوع الأول جلست داخل السيارة برفقته في الكرسيّ الأمامي من أجل مُساعدته، في حال كان هناك أحد الركاب يرغب بالصعود أو النزول من السيارة، وصولاً إلى المكان الذي يرغبه». وتتابع أنه «مع مرور الأيام، كتبْت عبارة أنا أصمّ أبكم إذا بدّك تنزل اهمزني، وعلّقْتها على زجاج سيارته، وبعد ذلك ظلّ يعمل وحده، وساعدتْه اللافتة بشكل جيّد في عمله، وأصبح الأشخاص على علم مع مَن هُم».
وتُشير إسلام إلى أن «السيارة رغم أنها بسيطة وغير حديثة، وتعاني من بعض المشكلات في كثير من الأوقات، لكن زوجي يحاول معالجتها بيده، ليستطيع توفير قوت أسرته، في ظلّ الوضع المعيشي الصعب في غزة». وتؤكد أنه «مع عمله أصبح معروفاً لدى سكّان المنطقة، وعندما يشاهدون سيارته يركبون معه من دون تردّد من أجل تشجيعه على الاستمرار في عمله». وتفتخر إسلام بزوجها، لأنه «إنسان مكافح في الحياة، ويُريد أن يعيش بعيداً عن العوز والحاجة»، آملةً أن «تكون هناك فرصة لأن تتحسّن ظروف عائلتها، ويكون لزوجها مساحةٌ في هذه المهنة، مع سيّارة أفضل قادرة على كسب الرزق».
(نضال الوحيدي)

ويشيد الراكب أحمد لبد بقيادة أبو سعد، ويقول: «في المرّة الأولى التي ركبت فيها سيارة سامح، شعرْت بالدهشة عندما علمت أنه أصمّ، ولفتت انتباهي قطعة الكرتون التي علّقها داخل السيارة، وبالفعل عندما وصلْت إلى وجهتي وَضعْت يدي على كتفه حتى يشعر بأنني وصلت إلى المكان الذي أريده». ويؤكد أن سامح «يحفظ كلّ الأماكن وغالبية بيوت الركاب، فضلاً عن أنه محبوب جدّاً من قِبَل الكثير من الركاب، ويفضّل الكثيرون الركوب معه من دون أيّ خوف على حياتهم». ويتابع لبد: «لا بدّ لنا جميعاً من أن نشجّع سامح على الاستمرار بالعمل، فعندما نشاهده أنا وأصدقائي نركب معه من دون تردّد، فهو مثال للشاب المتحدّي المكافح الذي يعمل بالرغم من إعاقته، هو يريد العيش بكرامة».