«ما فعله هذا البيان يوم الأربعاء هو إظهار التوافق الدولي الحقيقي حول هذا الموضوع (القدس)، و(إظهار مدى) المعارضة والنقد (للولايات المتحدة)».من لقاء للسفير الفلسطيني في واشنطن مع برنامج «أب فرونت» على «الجزيرة الإنكليزية»
(٨ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧).

لننسَ للحظة كيف حاول السفير الفلسطيني في واشنطن الإيحاء بأن قرار ترامب (اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني) هو في الحقيقة «انتصار» للفلسطينيين، قبل أن يدفعه المحاور إلى الخجل والتراجع، ونسأل: هل تابعت مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي الطارئ الخاص بالقدس؟ هل انطلى عليك الأداء المسرحي لعباس وإردوغان تحديداً؟ هل صَدَّقتهم، ولو قليلاً؟ حسناً، لدى اختصاصيي علم النفس الاجتماعي تشخيص دقيق لحالتك. للأسف: لقد جرى استحمارك.
و«الاستحمار»، كما الاستعمار (وهو من الاستعمار أيضاً)، يقول علي شريعتي صاحب المفهوم، نوعان أيضاً، قديم وجديد/ حديث. والاستحمار الجديد/ الحديث، بعكس القديم، أصبح «معززاً بالعلم، بالإذاعة والتلفزيون، بالتربية والتعليم وبجميع أشكال وسائل الإعلام، بالمَعارض وبعلم النفس الحديث، بعلم الاجتماع، وبعلم النفس التربوي! صار فنّاً دقيقاً مجهزاً بالعلم، ومن هنا تصعب معرفته لصعوبته ودقته» (النباهة والاستحمار، ص: ٤٤). أي إن الاستحمار، كمفهوم، ينتمي إلى نفس فئة مفاهيم «الهيمنة»، و«الوعي الزائف»، و«الأيديولوجيا»، والدعاية، وبالتالي هو غير منفصل عن السياق السياسي والاجتماعي (الطبقي) وحتى التاريخي للصراع الدائر، ويحدث بين الطبقات وعبر الطبقات، كما بين المستعمِر والمستعمَر.
والاستحمار، كما هو عند شريعتي، نقيض النباهة الفردية (إدراك الذات) والنباهة الاجتماعية (الوعي السياسي وشعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي). والعدو، بكل أشكاله يعمل، كما يقول شريعتي، على سلبنا الوعي الأول والوعي الثاني «ولا يعوضنا عنهما إلا جهلاً وفقراً وذلاً». لذلك، فأي «دعوة»، يقول شريعتي، أو «كلام أو تقدم، أي حضارة أو ثقافة وأي قدرة تكون خارجة عن إطار هاتين الدرايتين، ليست إلا تخديراً للأفكار» (ص: ٤٣). وهكذا يجري تسخير الانسان كما يسخّر الحمار.
لهذا، فحين قال عباس، مثلاً، في دعوته التطبيعية للمسلمين لزيارة القدس تحت الاحتلال، إن «زيارة السجين ليست كزيارة السجان» كان حقاً يمارس علينا تمريناً وقحاً في الاستحمار. وحين طالب «دول العالم بمراجعة اعترافها بدولة إسرائيل ما دامت تصرّ على مخالفة قواعد القانون الدولي، وخرق جميع القرارات الدولية منذ إنشائها عام ١٩٤٨» فيما هو لم يهدد حتى بسحب اعتراف «منظمة التحرير» بالكيان الصهيوني، كان هذا، أيضاً، محاولة اخرى في الاستحمار. وكذلك الأمر حين قال: «نقول للإسرائيليين إنه في حال استمرار الانتهاكات، فإننا غير ملتزمين أي اتفاق بيننا وبينهم»، أو حين طالب بـ«دعم مساعي دولة فلسطين في الانضمام إلى جميع المنظمات والمعاهدات الدولية باعتبارها حقاً طبيعياً لها، وبهدف تثبيت وجود دولة فلسطين في النظام الدولي»، فهو كان يتبع أساسيات و«ألف باء» من «دليل الاستحمار».
بكلمات أخرى، إذا كان هناك الآن منشور على صفحتك في «فيسبوك»، مثلاً، بعنوان «خطاب الرئيس عباس التاريخي في قمة منظمة التعاون الإسلامي» مع وصلة لهذا الخطاب، فأنت ببساطة مصاب بحالة استحمار مستعصية مع سبق الإصرار والترصد، و«عظم الله أجر أهلك وشعبك فيك، وعوّضهم عنك خير منك». لكن هناك، للحقيقة، أيضاً، عبارات لافتة في كلمة عباس يصعب جداً تصنيفها ضمن فئة «الاستحمار»، أو حتى ضمن فئة «قمة الاستحمار». فحين قال عباس: «ولا يفوتني الإشادة بمواقف المملكة العربية السعودية الثابتة إلى جانب شعبنا وقضيتنا، وهذا ما أكد عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده في زيارتي الأخيرة للسعودية»، فيما وسائل الإعلام تنقل في ذات الوقت هتافات المتظاهرين في الضفة الغربية وهم يشتمون ابن سلمان ويصفونه بالخائن، فهو لم يكن يستحمر. هنا دخلنا مجالاً آخر ينتمي إلى المسخرة والهزل والاستهبال، أكثر منه للاستحمار (وهذا غير مشمول في دليل كشف الاستحمار)، إلا إذا كان عباس، طبعاً، يختبر منهج الاستحمار على سلمان وابن سلمان، هذه المرة. لكننا لن نعرف مدى فعالية هذا الاختبار العباسي، طبعاً، حتى يفك الله كرب الزعطوط وتسمح له أميركا بالتغريد مجدداً بجواهره، فنتعرف إلى خبايا نظام بادية الظلمات.
لكن، وللإنصاف، لم يكن محمود عباس الوحيد الذي لجأ إلى استراتيجية الاستحمار هذا الأسبوع. فإذا استمعت إلى أي مسؤول فلسطيني أو عربي، أو إلى محلل أو معلق سياسي، أو حتى إلى معلق غربي يرفض قرار ترامب لأنه «انتهاك صارخ للقانون الدولي» فلقد كان يمارس عليك الاستحمار بالتأكيد. وليس هذا فقط لأن انتهاك القانون الدولي هو الرياضة الأميركية (والصهيونية) المفضلة، بل لأن في هذا التوصيف محاولة لتغطية وتزوير معنى القرار الحقيقي الذي حسم ما يسمى «قضايا الحل النهائي» بلا تفاوض، وأفرغ، بالتالي، كل عملية التفاوض من معناها. وإذا استمعت إلى تصريحات رياض المالكي، أو حنان عشراوي، أو صائب عريقات، وغيرهم، وشاهدتهم يتحدثون بغضب عن انتهاك الشرعية الدولية، وتحديداً إذا سمعتهم يهددون ويتوعدون الكيان الصهيوني وأميركا الإمبريالية بـ«الانضمام إلى المنظمات الدولية كطريق بديلة للدولة»، أو بتقديم «شكوى لمجلس الأمن ضد الولايات المتحدة»، فلقد كانوا يمارسون رياضة الاستحمار هم أيضاً. وإذا استمعت إلى مسؤول فلسطيني من تنظيمات غير حزب السلطة (غير «فتح») يتهرب من إعطاء موقف واضح وصريح حول ما قاله عباس قبل وأثناء قمة إسطنبول فهذا استحمار. وإذا شاهدت أو استمعت إلى مسؤول فتحاوي يتبرأ من مواقف السلطة بتمييزها عن مواقف حركة فتح، فعليك أن تعرف أن هذا العبقري يستحمرك عينك عينك.
لكن ملك الاستحمار بلا منازع هذا الأسبوع (وفي أغلب الأسابيع، في الحقيقة، منذ سبع سنين) كان «المتعنتر» دائماً وأبداً، خليفة «الإخوان المسلمين» وأمير الجنود الإنكشاريين، رجب طيب إردوغان. وإذا كنت ممن انطلت، وما زالت تنطلي عليهم، بهلوانيات إردوغان هذا، فأنت ضحية لنوع خاص من الاستحمار شارك فيه وبفعالية بعض الإعلام العربي، ولعبت الخطابة وفن الاستعراض وعلم النفس وعلم الاجتماع أدواراً مهمة في خداعك. ولقياس درجة استحمارك الفعلي كمّياً، افحص كل حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي واحسب كم صورة ووصلة وتعليقاً لك عن «أمير المؤمنين». أما لقياس درجة استحمارك نوعياً، فابحث في بيتك، وانظر إن كنت تعلّق له (إردوغان) صورة على أحد الجدران. أما إن ثبت استحمارك كمياً ونوعياً، فلا رجاء منك ولا أمل فيك. عظم الله أجركم.
* كاتب فلسطيني