مجد عبد الحميد... المآسي بزُرقة البحر!

من المعرض
من المعرض


الفرادة التي تسم تعبير مجد عبد الحميد الفني هي توسّل الحرفة التقليدية (التطريز كفن تراثي فلسطيني حيّ) لإيصال نظرته وموقفه وإحساسه إزاء مواضيع طاغية ‏في حياتنا وأزمات منطقتنا المتتالية كالحروب والعنف والمعاناة، رامياً إلى التقاط اللحظة وتجميدها وتفكيكها بفتنة جمالية مجرّدة ذات ألوان حارّة قد يراها بعضهم إشكاليةً.

لا يذعن الفنان للسواد في رؤيته إلى المآسي، بل يوظف لها ألواناً معاكسة يفضّلها كالأزرق والأصفر والورديّ، ففي لوحاته التطريزية (الصغيرة الحجم غالباً) الساكنة والصامتة والملونة لا نرى الدمار مثلاً بل نسمعه ونحسّه.

‏الفنان مجد عبد الحميد، الفلسطيني الأصل، المولود في سوريا، الذي حصّل دروسه الفنية الأكاديمية في مالمو في السويد، يقيم حالياً بين بيروت ورام الله، ويعدّ من الأسماء الفنية المعروفة والمقدّرة على صعيد عربيّ محليّ وعالميّ. حتى الرابع من نيسان (أبريل) 2025، تحتضن صالة «مرفأ» في بيروت معرضه الفردي الأول في لبنان تحت عنوان «قصيدة إلى البحر».

استوحى الفنان أعمال المعرض من رحلاته بين مدن وجزر متوسطية مثل جزر قرقنة في تونس وجزيرة أنافي في اليونان، فضلاً عن بيروت، ويجمعها كلها الأفق الأزرق والفيروزي، والأشكال الهندسية المقسمة إلى ثلاثة مستطيلات في معظم اللوحات المطرّزة. إنّها ثمرة حوار بين التجربة الحسية وذكريات المكان والمنظر، والتفاصيل متماثلة ضوءاً وظلّاً ولوناً وانطباعاً. غير أنّ الذاكرة البصريّة تنحو في اتجاه التجريب انطلاقاً من الطبيعي والواقعيّ. ‏

مفتاح العودة أصبح حلوى
ذائبة للأطفال في إحالة إلى
ما بعد أوسلو

يرى عبد الحميد أن استخدامه التطريز هو «تدخّل» في الزمن، ويتمثّل هاجسه في كيفية تحويل الزمن بصرياً عبر إيقافه أو الإمساك به، فالزمن في لوحته المطرّزة يشبه الزمن في الصورة الفوتوغرافية حيث القبض على اللحظة من الزمن الهارب. يمضي العالم بلحظاته سريعاً، لذا يحاول الفن إبطاءه. لا يتعدّى زمن أيّ انفجار بضع ثوانٍ، في حين تحتاج اللوحة المطرّزة إلى ساعات طويلة لإتمامها.

طوّر مجد عبد الحميد تقنيته الخاصة في التعامل مع القماش والخيط واللون، حتى إنّه ابتكر نسيجاً خاصاً بالتطريز يتحلّل في الماء بحيث لا يبقى سوى الخيط الذي يشكّل الحدود. إنّه خيط الزمن الذي يستدعي ندوب النفس والجسد لاستعادة حدث يُترجم بصرياً، تجريبيّاً، معدّلاً تبعاً لحضوره القريب أو البعيد في الذاكرة. لا يخطّط لأعماله مسبقاً بل يدع تداعيات الذاكرة تملي عليه الشكل والزمان والمكان. وهذا ينطبق على معرضه البيروتي رغم اختلاف التيمة وارتباطها حصراً بالبحر الأبيض المتوسط. علماً أن لوحة عبد الحميد تضمر غالباً أكثر مما تفصح.

هذا موروث من واقع فلسطين حيث أضحت للرمز قدسيته. الرمزية بمعانيها المضمرة ودلالاتها باتت ظاهرة طاغية في فلسطين نتيجة المعاناة التي طالت. والتحدي الذي يخوضه الفنان هو عدم حصر فنه في التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني فقط (يخرج هنا مثلاً إلى تيمة البحر) أو حصر الذات الفلسطينية في صورة الضحية، بل التعبير عن الفلسطينيين كشعب يسبق وجوده الاحتلال والمآسي التي أنزلها به المحتل.

الفلسطيني إنسان قبل أن يكون ضحية. وعبر جماليات فنّه الحديث، المليء بالتجريد، والدعابة أحياناً، يضع مجد عبد الحميد المجتمع الفلسطيني أمام تساؤلات: مفتاح العودة، الرمز الأساسيّ في المخيلة الفلسطينية الجماعية، أصبح في أعماله حلوى للأطفال من مادة السكر الهشة والذائبة، غامزاً إلى معاملة الشعب الفلسطيني مثل طفل تُقدّم إليه ألهية تجرّده من فكره النقديّ.

ما بعد أوسلو، أصبح حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وهماً ذائباً مثل السكر. ‏التكرار والأشكال الهندسية في لوحات عبد الحميد التطريزية تتناقض مع الخطاب الفلسطيني الرسميّ المضعضع والفوضوي إلى حد أنه لم يبقَ مقروءاً، بل محكوم عليه بالانهيار من الداخل.

الفنان نفسه يصف المجتمع الفلسطيني الرسمي بـ «مجتمع الاستعراض». والهوية سؤال آخر ملحّ في فنّ مجد عبد الحميد، وخصوصاً حين يتساءل عن كيفية وضع نفسه في علاقة مع الهويات الأخرى، والصدمة الدائمة.

التطريز هو النقطة الثابتة والناعمة التي تردّه إلى الهوية الأصلية وتنشّط سردية مستقلة. استعادة هذه الممارسة الفنية التراثية، أي التطريز، تُعيد إليه شعوراً بالانتماء وصلة ضرورية بالمكان الأصليّ ومنجاة من نوبات الاكتئاب. «التطريز وسيلة للرؤية والعمل والتجريد، جزء من تراث نابض بالحياة» على حد تعبير الفنان.

كانت المرة الأولى التي اختبر فيها مجد التطريز أثناء إقامته في السويد حيث تكوّن مشروع تخرّجه من «أكاديمية مالمو للفنون» بأربع لوحات مطرّزة. وفي عام 2012، تعاون مع نساء فلسطينيات لتطريز صورة «بوب آرت» لبائع العربة التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في أولى ثورات «الربيع العربي».

راح يطوّر مزاولته فن اللوحة المطرّزة كوسيلة حوار وطلب ذات مرة إلى إحدى الحرفيات إنجاز مربع أبيض له يحاكي مربع ماليڤيتش الأبيض، كما شاء أن يراه، لكنّها رفضت معتبرة ذلك «مضيعة للوقت». وهنا المفارقة، إذ كان مجد يريد تحديداً تسجيل الوقت، الوقت الضائع، عبر إشارة متكررة لملء القماش بغرزات بيضاء ذات شكل مصلّب من دون رموز أو صور، فقط لاختبار طول الوقت الذي يستلزمه هذا العمل.

انفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020 أشعر الفنان بأنه أصبح على الفور جزءاً من مجتمع لم ترتبط المأساة بقبوله أو رفضه، ولم يكن خياراً حراً له. أمسى قضية شخصيّة للفنان، والخيط المغروز، أداة تطريزه، اكتمل معناه لأن الناس الذين أصيبوا بالزجاج المحطّم أغلقت جروحهم المفتوحة بغرز الخيطان في أجسادهم.

أتى بخيط طوله ثمانمئة متر (بعد احتساب عشرة سنتيمترات لنحو ثمانية آلاف مصاب) وطرّز به مناديل وأغطية وسائد ومفارش المائدة… ولعمل آخر من وحي المأساة ويتناول المساحات الآمنة، طلب إلى الناس رسم خريطة لمنازلهم وتحديد أكثر الأماكن أماناً فيها (إن كان لديهم مثلها). والمساحات الآمنة مشروع مستمرّ بالنسبة إلى الفنان يخطط لاستكشافه.

‏ما سبق حول فنّ مجد عبد الحميد التجريبي والتجريدي والمفاهيميّ هو مدخل ضروري إلى معرضه الراهن في بيروت، لفهمه على نحو أفضل واكتناه مضامينه وخلفياته.
معرض «قصيدة إلى البحر» يحوّل ذكريات السفر إلى مجموعة من الصور المجمعة على ورق القطن، وإلى بعض مقاطع الفيديو، فتظهر السرديات عبر التركيبات البصرية والمادية وينشأ حوار بين التجارب الحسية ومحتوى الذاكرة.

تتضافر التفاصيل مثل الضوء المتبدّل ودلالات الألوان والفروق الدقيقة. وفي مقطع، يبدو قارب يعبر مياهاً مليئة بالزبد، محاكياً مكوك الإبرة التي تسحب خيوطها الزرقاء والبيضاء حول عالم ضيّق هائل، محدود لكنه دائم البدايات.

وفي فيديو آخر، نرى نسمة خفيفة تحرّك ستارة دانتيل بيضاء مختزنة شحنة قوية من الحنين، وثلاث صور بولارويد صغيرة لسرب من طيور السنونو في سماء لبنان، تدور في دائرة مكوكية من الهجرة تعيدها إلى نقطة الانطلاق. تماماً مثل الإبرة المغروزة في القماش بخيوط معقودة وغير معقودة، متراكبة، متشابكة، تشبه خيوط الحياة المعقّدة والمتشابكة.

* «قصيدة إلى البحر»: حتى نيسان (أبريل) المقبل ــ غاليري «مرفأ» (بيروت) ـ للاستعلام: +9611571636

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي