وليد رعد يستعيد تاريخ لبنان «الملغوم»

وليد رعد يستعيد تاريخ لبنان «الملغوم»


‎‏الدخول إلى عالم وليد رعد المفاهيمي ‏يستدعي معرفةً ‏مسبقة بمفردات ‏التعبير والتكوين ‏والتركيب لديه، ‏فهو ‏ينتمي إلى تيّارات ما ‏بعد الحداثة، وأمست له ‏مكانته العالمية ‏حيث يأخذ ‏الاهتمام بما يقدّم من أشكال مثيرة، سواء من الغاليريات أو المتاحف، ‏أو من المراجع الأكاديمية والنقدية الفنية. ‏وليد رعد فنان عالميّ ‏بكامل المعنى والمواصفات.

مساحتا العرض في «غاليري صفير زملر»، بفرعيها وسط بيروت والكرنتينا، اتسعتا لمعرض ‏وليد رعد الذي يحمل عنوانين «في لحظة تاريخيّة أخرى مشؤومة» و«مقام آخر لـ(نكران) الجميل»، ويشمل بعض إبداعاته ‏الحديثة مع بعض ‏آخر من معارض سابقة، مستذكراً فيهما ‏حكاية مبهجة ‏وأخرى ‏حزينة من زمن الحرب الأهلية في بيروت الجميلة، ثمّ المُدَمَّرة.

تجهيزات ‏إنشائية بمواد متنوعة، فيديو، وفوتوغرافيات، ومنحوتات، ولوحات، وقصاصات من الصحف، وخرائط مصورة، ونصوص جدارية، وسيارة «فولسفاغن».

يستعيد رعد مرحلة عامَي 1983 و1984، أيام قدوم السفينة الحربية الأميركية «نيوجرسي» ‏إلى المياه اللبنانية في أعقاب الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 ‏وإجلاء ‏مقاتلي «‏منظمة التحرير الفلسطينية» من بيروت، ‏وانتخاب بشير الجميل واغتياله، ‏ومذابح صبرا وشاتيلا، ‏وتفجير السفارة الأميركية ‏ومقر المارينز في بيروت على التوالي بين نيسان (أبريل) ‏وتشرين الأول (أكتوبر) 1983. ‏

على مدى ‏ثلاثين عاماً كان رعد يكوّن ‏وثائقه ‏الخاصة التي تجمع الحوادث اللبنانية في العقود الخمسة الأخيرة. ‏علاقات ملتبسة ‏بالواقع تمنح أعماله ‏أبعاداً ‏تفكيكية لصور الذاكرة. ‏بقيت الحرب الأهلية تطارده ‏حتى في هجرته الأميركية، ‏وقد تمكّن ‏من تكوين شكل فريد للصورة الفوتوغرافية يختلط فيها الشكل مع الموضوع مع الوثيقة التاريخية. ‏تفتح هذه الأعمال سجالاً ‏حول مسائل الإدراك البصري والذاكرة والعنف والوهم.

‏وليد رعد المولود في بلدة ‏الشبانية ‏اللبنانية عام 1967 ‏من أب لبناني ‏وأم فلسطينية، كان يحلم في عمر الفتوّة بأن يصبح مصوّراً صحافياً. أهداه والده ‏أول كاميرا وأنشأ له غرفة تظهير ‏معتمة في المنزل، ‏وكان الفتى المراهق يطّلع ‏على المجلات الفوتوغرافية الأوروبية متابعاً أعمال المصوّرين ‏المحترفين أمثال هنري كارتييه بروسون، ومان راي، وديان أريوس وهلموت نيوتن وآخرين.

وفي عام 1983، ‏هاجر إلى الولايات المتحدة حيث التحق ‏بكلية الطب ‏في جامعة «بوسطن» لمدة وجيزة قبل انتقاله إلى «معهد روتشستر للتكنولوجيا» في نيويورك لدراسة ﺍﻟﻔﻦ الفوتوغرافي، شغفه الأول. التحق بعد الدراسة ببرامج الدراسات البصرية والثقافية في جامعة «روتشستر» حيث نال درجتي الماجستير والدكتوراه، وبدأ في التدريس عام 1991 وهو حالياً أستاذ مشارك في كلية الفنون في «كوبريونيون» في نيويورك.

عاد عام 1998 ‏إلى بيروت ليحاضر ‏في مؤتمر أكاديمي أقامته ‏مؤسسة خيالية أنشأها تحت اسم «مجموعة أطلس» ‏وتهدف إلى حفظ التراث التاريخي وطرح التساؤلات حول سلطة التجربة الموثقة ودور الذاكرة في هذا التوثيق. ‏قد بنى الفنان سرديات ‏بديلة للتاريخ ‏اللبناني وقدمها في شكل أرشيف، ‏وأصبحت «مجموعة أطلس» ‏مشروعاً فنياً واسعاً يضمّ مواد أعماله.

ينطلق وليد رعد غالباً ‏من حوادث تاريخية، ليصل إلى ‏مواقف ووثائق ‏تبدو سخيفة ‏وغريبة ومدهشة، ‏فكيف نبدأ في فهم الغموض الهائل في أعماله بما فيها محتويات معرضه ‏القائم اليوم في بيروت؟ ‏يلجأ هذا الفنان المفاهيميّ ‏إلى استخدام أبعاد خيالية لطرح الأسئلة وانتقاد كيفية بناء التاريخ والذاكرة، ‏حتى تبدو مروياته ‏البصرية والوثائق التي ينشئها، ‏الشديدة الغرابة، كأنّها تشكك في السرديات القائمة وتواجهها.

كوّن ‏وثائقه ‏الخاصة التي تجمع الحوادث اللبنانية في العقود الخمسة الأخيرة

‏في نهاية الثمانينيات، صوّر ‏بيروت التي ‏كانت تشهد تحوّلات ‏اقتصادية واجتماعية وسياسية جذريّة ‏في المراحل الأخيرة من الحرب. ‏ومع مطلع ‏التسعينيات، بدأ مطوّرو ‏العقارات مشروع إعادة بناء وسط بيروت المدمّر، وكان رجال السياسة ‏والمال يبيعون اللبنانيين كلاماً معسولاً وأحلاماً وردية عن مستقبل زاهر وحداثة خيالية، فبدت أنقاض المباني والأحياء ‏المعاد بناؤها ‏كأنها ‏عالقة في متاهة من الزمن. نشاهد في المعرض فيديو عملاقاً لبيروت التي تُهدم في صورتين انعكاسيتين، عليا وسفلى، تلتقيان عند خطّ الامحاء والزوال.

بالنسبة إلى ‏وليد رعد، ‏تاريخ الحروب الأهلية اللبنانية هو تجريد مكوّن ‏من أفراد ومجموعات وخطب ‏وحوادث ومواقف. من هنا بات صعباً التحدث ‏عن حرب أهلية لبنانية، ‏بل عن حروب ‏في لبنان. ثمة يأس من الوصول إلى ‏لحظة تاريخية حقيقية.

ومن الأمثلة ‏على ذلك فيديو سجّله رعد لغروب الشمس من ‏شاطئ بيروت تحت عنوان «حروب لبنان المفقودة» (1996 ــــ ثلاثة أجزاء)، ‏وسلسلة صور فوتوغرافية بعنوان «أسرار في البحر المفتوح» (1996) تبدو ‏تجريدات ‏زرقاء نقية جميلة، ‏مع صورة مصغّرة ‏بالأبيض والأسود في الزاوية اليمنى السفلية في حدودها البيضاء. ‏السرد الخيالي المرافق للصور الزرقاء عثر عليه عام 1992 ‏تحت أنقاض المباني المهدمة ‏في أسواق بيروت، واستُخرجت منه صور «حبيبيّة» ‏بالأبيض والأسود مدمجة بالحقول ‏الزرقاء، ‏والصور هي لمجموعات مصغرة ‏من النساء والرجال الذين عُثر عليهم أمواتاً في البحر.

يتعامل رعد مع الوثائق على أنّها «حقائق في الخيال» أو «أعراضاً ‏تاريخية هستيرية»، بحسب وصفه، واضعاً الحقيقة مقابل الخيال، ‏والتاريخ مقابل الجماليات، ‏والصحافة مقابل الفن، ‏والحق مقابل الباطل، ‏والواقعي مقابل الخيالي، والرصين مقابل الثمل، ‏والواضح مقابل الغامض.

لذا فإن الذهاب إلى معرض لوليد رعد يشبه دوماً المغامرة ‏في أرض مجهولة، حيث نسير على خيط رفيع بين الواقع والخيال ونتساءل باستمرار عمّا ‏ينبغي أن نصدقه ‏أو ‏أن نأخذه على محمل الجدّ. ‏في منعطفات ‏أعماله ‏غموض وشكّ ‏وانفتاحات على‏ التأويل المتعدّد. نتأمل ‏مثلاً مشروعه «مجموعة أطلس» (1989- 2004) ‏الذي يهدف إلى البحث في التاريخ اللبناني المعاصر وتوثيقه.

‏يكاد يكون مستحيلاً ‏التمييز في ‏هذا المشروع بين الحقيقي والزائف، ‏ما يعيدنا إلى حقيقة مفادها أنّ الفهم ومحاولة الشرح ‏أو حتى ربط ‏معارض وليد رعد التي يشكّل كلٌّ ‏منها متعةً للعقل والعين، تتسبّب ‏للناظر بغير معرفة أو دراية إلى أعمال الفنان في صداع ودوار.

والأدلّاء اللطفاء الذين يصحبوننا في المعرض يحذروننا بأدب من أنّ ‏الفنان أعطى ‏هذه المرة تعليمات صارمة بعدم شرح الأعمال المعروضة. ‏وتبدأ الجولة بمعرض: «‏الرفيق القائد، ‏الرفيق القائد، كم يُسعدنا لقاؤك» وفيه فيديو لأربعة شلالات من أصل 117 شلالاً لبنانياً غُيّرت أسماؤها، ‏مرة واحدة على الأقل، ‏إلى اسم زعيم ‏عربي أو غربي أو سوفياتي. ‏مع هذه الشلالات، تتحوّل ‏مساحة العرض إلى ‏فيضان حقيقي، ‏مع تماثيل لتاتشر والقذافي وعرفات يقفون عند سفح ‏الشلالات. ‏وفي غرف ‏أخرى واسعة من المعرض، علّقت ‏رسوم وأشكال على الجدران، ‏وفي العمق منحوتة لطير ضخم، وعلى ‏جدران مقابلة سلسلة طيور (مطبوعات حبريّة) ربّتها ‏أحد الفصائل اليسارية عام 1981 ‏لكي ترسلها إلى «‏أراضي العدو» لتدمير بيئته.

‏أمّا الفرادة والسخرية، فتصل أقصاها في سلسلة قوالب حلوى ‏خاصة بأعياد ميلاد أمراء الحرب، ‏بحسب المدوّنة ‏الجانبية التي نقرأ فيها «أدركتُ ‏أنّ محل ‏الحلويات هذا كان ‏المفضّل لدى أمراء الحرب والسياسيين اللبنانيين. توصلتُ ‏إلى هذا الاستنتاج حين نظمت تواريخ الطلب والأسماء الأولى على القوالب، ووجدتُ أنها ‏تتزامن مع أعياد ميلاد ‏أمراء الحرب: 25 ‏تشرين الأول (أكتوبر) لسمير جعجع، 22 حزيران (يونيو) لأمين الجميل، 7 آب (أغسطس) لوليد جنبلاط، 7 أيلول (سبتمبر) لعمر كرامي، إلخ...».

من خلال العمل عبر مجموعة ‏من الوسائط، يُعيد وليد رعد وصل الروابط بين الواقع والتاريخ والخيال السردي ‏والمؤشرات ‏الفوتوغرافية. ‏يعتمد على الخيال لسرد الحقائق، ‏يمزج التجريد البصري بالواقعية ‏الفوتوغرافية لكي يمضي ‏أبعد من الواقع الذي لا تستطيع الصورة ‏الوثائقية استيعابه. ‏يعمل وفقاً ل‏معيار منقّح للواقعية. ‏أرشيفه الخياليّ ‏ينطوي على نقد للتاريخ. ‏يستعين بنظرية الصدمة لبناء لغة سردية ‏جديدة يتردّد فيها صدى التجريد المفاهيمي.

* معرض «مقام آخر لـ(نكران) الجميل»: حتّى 28 آذار (مارس) – غاليري «صفير زملر» (الكرنتينا، بيروت). للاستعلام: 01/566550

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي