تيسير البطنيجي يُفصح عن آلام فلسطين... هَمساً

على ثنائيات الحضور والغياب، الفَقْد والذاكرة، الهشاشة والزوال، يعمل التشكيليّ المفاهيمي الفلسطيني تيسير البطنيجي (مواليد غزة 1966)، مستمدّاً أفكار أعماله من سيرته الذاتية ومن التاريخ والواقع الراهن بنظرة تُراوح بين الرقة والقسوة. يتوسّل في ذلك الأدوات التعبيرية المتعددة الوسائط رسماً وتركيباً وتصويراً فوتوغرافياً وفيديو وعروض أداء، ليغدو فناناً معروفاً ومكرّساً على مستوى عالميّ، مشاركاً في أشهر التظاهرات، وأهمّها بينالي البندقية في دورات 2003 و 2009 و 2011 ، ومعارض فردية في نيويورك وتورونتو وجنيف وروتردام وبروكسل وفالنسيا وشتوتغارت، فضلاً عن باريس مركز إقامته ودراسته في «معهد بورجيه للفنون الجميلة»، حيث نال عام 2018 وسام الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية.
اليوم، تُعرض أعمال البطنيجي في غاليري «صفير زملر» في بيروت تحت عنوان «من باب الاحتياط». قُدم هذا المعرض العام الفائت في «بينالي ليون» ويعود جانب تجهيزيّ منه إلى 1997 يوم استوحى البطنيجي قصيدة «أحمد الزعتر» لمحمود درويش لصوغ تحية وجدانية لشعبه المرحّل قسراً عام 1948 وقد حمل المهجّرون معهم مفاتيح منازلهم الكبيرة الحجم، آملين بعودة لن تطول.
مفاتيح حديثة تبطّن نوعاً من السخرية وتدلّ على حلم العودة الذي أصابه الصدأ
منذ أكثر من ثلاثة عقود، يُقاوم الفنان الفلسطيني النسيان بالذاكرة، جامعاً الماضي بالحاضر في عالم محاصر بالعنف والظلم، فلا يكفّ عن طرح الأسئلة غير المنتهية حول التاريخ والراهن. تجربته الفنية دائمة التقاطع مع فلسطين بحيث يقترن الشخصي بالجماعي ضمن مشروع فني مفتوح على كل الاتجاهات والأدوات التعبيرية الحديثة التي تخدم رؤيته الفنية، من دون توهّم بأن الفن قادر على تغيير العالم، بل بيقين أن الفن ردّ فعل على الواقع، يوسّع الآفاق ويطرح الأسئلة ويخلق الوعي ويزعزع المسلّمات. ومن أقسى ما عاناه الفنان على المستوى الفرديّ والعائليّ استشهاد أخيه بطلقة قنّاص من قوات الاحتلال في الانتفاضة الأولى، فخصّه بمجموعة من ستين لوحة محفورة تحت عنوان «إلى أخي» في عام 2012.
التعبير الفني بالنسبة إلى البطنيجي فعل مواجهة وعدم استسلام، ومساحة للتفكير والتأمل والتساؤل، تحرّر من القيود المباشرة والمادية نحو فضاءات إنسانية أكثر رحابةً. تُظهر أعماله المفاهيمية تأثّره بحركات وتيّارات فنية ظهر معظمها في الستينيات من القرن الفائت، وسط تغيرات سياسية واجتماعية اجتاحت أوروبا والعالم مثل «الفن الفقير» في إيطاليا و Supports/Surfaces و «فلوكسوس» في فرنسا، فضلاً عن المدرسة المينمالية أو المتقشّفة. فالمفاهيم والأشكال التي طرحتها تلك الاتجاهات والحركات الفنية تستجيب للوعي الناشئ لدى الفنان الفلسطيني الذي تحرّر من الرواسب الأكاديمية لينخرط في التعبير المفاهيمي المعاصر.
ترافق هذا الوعي مع رغبته الملحّة في خلق حالة من الانصهار والاندماج بين تجربته الفنية وذاكرته كإنسان فلسطيني. أضحى للبطنيجي أسلوبه والخيط المرئي الذي يربط تجاربه الفنية عبر المراحل المختلفة. التجريد خيار للنأي عن المباشر، تدعمه الوسائط المتعددة التي تساعد في تحرير اللغة البصرية من طغيان الشعارات التقليدية والرموز المكرّرة. تعبير يبني مشروعيته الفنية على مفهوم الهوية والانتماء ويجيب عن سؤال الفن وينخرط في القضايا التي تشغل الفن والفنانين في العالم اليوم لناحيتي الشكل والمضمون. الهمّ الأساسيّ لدى الفنان هو خلق لغة معاصرة تتخطى الحدود والجغرافيا الضيقة إلى الفضاء الإنساني الأوسع. ويبقى السؤال معلقاً: أن تكون عالمياً لمن؟ ولماذا ومن أي زاوية؟ ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة انتشار الخبر، لم يبقَ ثمة محلي وعالمي. العالمية بالنسبة إلى الفنان هي أن تستشعر نبض العالم من حولك ومشكلاته وقضاياه، وأن تتحلّى بأكبر قدر من اليقظة والانتباه، لتقترح عبر العمل الفني قراءةً لهذا العالم تكون في متناول الجميع.
لا تختلف مفردات معرض البطنيجي الحالي في بيروت عن معارضه السابقة، فوحدة الأسلوب ماثلة في التيمات والأدوات والوسائط، وحتى في المواضيع. مفتاح البيت الفلسطيني حاضر دوماً في سلسلة كبيرة متجاورة من الفوتوغرافيات، لكنّه خرج على المفتاح التقليديّ، الكبير والقديم، ليصير مجموعة من المفاتيح الحديثة لأقفال صغيرة وبوابات وسيارات هي لأهل غزة راهناً، ما يبطّن نوعاً من السخرية المرّة ممّا آلت إليه أحوال المأساة الفلسطينية المستمرّة والتبدّل المأساويّ في رموزها البليغة أو تلك المفاتيح القديمة الصدئة المعلّمة على لفائف (محارم) قماشية صغيرة، لتدلّ على حلم العودة الذي طال حتى أصابه الصدأ... أو كتلتا الرمل في دفّتي حقيبة السفر، رمزاً للفلسطيني الحامل في حلّه وترحاله قبضةً من تراب وطنه في حقيبته... أو سلسلة اللوحات المؤطرة والمتحاذية أيضاً لفوتوغرافيات شديدة الغموض والمعاني المنغلقة وتُراوح بين السواد الكامل والمشحات الضوئية التي تشبه الصور الطبية الشعاعية. وهناك تلك اللوحات الملوّنة والمتحاذية أيضاً في مجموعتين من أربع (مونوكرومات تذكر بأسلوب الفنان السوفياتي ألكسندر رودشنكو) بعضها مكتمل على نحو نصفيّ أو أكثر، وقد مشحها الفنان بأقلام زاهية الألوان تنتهي اللوحة بفراغ ألوانها، فيضع الأقلام الفارغة ضمن التركيب، وهناك قصيدة «أحمد الزعتر» (1977) لمحمود درويش، إنّما بالإنكليزية، معلّقةً ورقة بلا إطار على الجدار.
في الإبادة الإسرائيلية الأخيرة التي شهدتها غزة طوال أكثر من عام، فقد البطنيجي شقيقته وعائلتها وخمسين فرداً من أقاربه. آلام غزة تجري في روحه، ومهما بلغ التعبير الفني فإنّه لا يرقى إلى فداحة الواقع. أوحت له المأساة أكثر من عمل عرض أحدها في «بينالي ليون»، وآخر في معرض جماعي في لوكسمبورغ. تحوّلت ممارسته الفنية، ضمن الأسلوب المتقارب، مع كل تطوّر مفجع يعيشه الشعب الفلسطيني. أتاح له الفن المفاهيمي إمكان إعمال الفكر والبحث والتحليل والتجريب وتنويع الوسائط وحرية التعبير. يبقى الهاجس الفنّي المسيطر لدى البطنيجي ترك أثر أو علامة بوحي من قول الشاعر الفرنسي جورج بيريك «ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغّل»، وقد منحه عنواناً لأحد معارضه الاستعادية في عام 2022. أعمال البطنيجي تفصح عن آلام روحه همساً.
* معرض «من باب الاحتياط»: حتّى 29 آذار (مارس) - غاليري «صفير زملر» (وسط بيروت). للاستعلام: 01/444288