عن جذور ومستجدّات الصراع
كانت ملامح الاستقلال التي حظيت بها دول المنطقة، بدءاً من منتصف القرن الماضي ووصولاً إلى مطلع السبعينيات منه، تشير إلى اكتناز تلك الكيانات بعوامل الضعف والعجز التي ضمنها مشرط «سايكس بيكو». وزاد منها بروز سطح سياسي كان لا يخفي رغبته، إبّان سعيه إلى تثبيت حدود الكيانات التي يحكمها، وكذا سعيه إلى تثبيت أركان حكمه، في مد جسوره مع الأيادي التي تدير «المشرط» كسبيل كفيل بتحقيق تينك الغايتين، بالرغم من إدراكه أن الأخير ماضٍ في اجتراح أساليب جديدة للسيطرة على المنطقة بعد انتهاء صلاحية القديم منها. ذاك الذي تمثّل بصكوك «الانتداب» التي جاءت بها «عصبة الأمم» كصيغة تبيح السيطرة المباشرة على الكيانات التي استولدها «المشرط» آنف الذكر.
كان دخول إسرائيل على تركيبة المنطقة، التي تعاني أصلاً من حالة «قلق جيوسياسي» لاعتبارات عدة، ذا تداعيات أخطر من أن تُعد أو تحصى. فالكيان الذي قدّم نفسه كـ«وكيل حصري» للغرب، وهو يرتدي لبوس «المسيحية اليهودية» في مواجهة شعوب المنطقة ذات الغالبية الإسلامية، راحت أزاميله تفتك بالبنى والتراكيب السياسية التي تأسست في أتون الصراع من أجل الاستقلال. وعليه، فقد برزت على السطح تيارات عدة استولدتها بالضرورة أحاسيس من نوع الإدراك بالخطر جنباً إلى جنب ضرورات النهوض التي تأكد لديها -أي لدى تلك التيارات- أن انزراع إسرائيل كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إعاقته. والشاهد هو أن عدداً من الأحداث والمحطات التي تزامنت، وتلت، تلك العملية كانت تؤكد على وجود نظرة غربية للمنطقة تفيد بأنها تحمل في «جيناتها» ملامح جنين قطب عالمي قادر على مواجهة الغرب إذا ما توافر لها الشرطان الموضوعي والذاتي. ولا أدلّ على ذلك من نظرية «صدام الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي» التي نشرها صموئيل هنتغتون كمقال في عام 1991، أي بعد سقوط القطب السوفياتي، ثم عاد ونشرها في كتاب صدر عام 1996. والنظرية، باختصار، كانت تريد القول إنّ الخطر المقبل على الحضارة الغربية سيكون، حتماً، من الشرق الإسلامي.
كانت وظيفية الكيان قد ظهرت، أكثر ما ظهرت، عبر حرب حزيران 1967 التي أضعفت الناصرية، من حيث أنها عجزت في الدفاع عن ترابها الوطني، الأمر الذي كانت له تأثيرات مباشرة على فكرة القومية العربية التي كانت تشكّل في حينها «لاصقاً» لشعوب المنطقة، وهوية تعرّف بها هذي الأخيرة. وعليه، فقد اكتشف الغرب أن «المشروع» هو من النوع القابل للاستثمار فيه، بل والتوسّع أيضاً في ذلك الاستثمار، لأنه ظهر وكأنه قادر على الإمساك بخيوط المنطقة المضطربة، وبدا وكأنه من الممكن له قولبتها في صناديق جاهزة لمن يريد الاستثمار أكثر. ولعل الدعم والإسناد الغربيّين، اللذين راح يلقاهما ذلك الكيان، هما وحدهما الكفيلان بتفسير ميلان هذا الأخير نحو أقصى اليمين وصولاً إلى محاولة استنساخ نظام «الأبارتهايد» البائد في جنوب أفريقيا، وإلا كيف لنا أن نفهم سيطرة بنيامين نتنياهو على دفة القيادة لمدة قاربت الثلاثين عاماً؟ بل كيف يمكن لنا أن نفهم كيف استطاع هذا الأخير حماية إسرائيل من أي ردع أممي، جاعلاً من كيانه كياناً يرقى فوق العقوبات والمحاسبة رغم كل ما ارتكبه من جرائم لا تشبهها سوى جرائم هتلر التي لا تزال حاضرة في الذات الجمعية العالمية؟
مع انكفاءة مصر عن الصراع عام 1977، مضت بقية الأنظمة العربية نحو تلوين خطابها تجاه هذا الأخير، وأضحى الجديد يقول إن «أس الصراع» في المنطقة هو حرمان الشعب الفلسطيني من قيام دولته. وهذه الطروحات تعزّزت أكتر بـ«موات» عصر الأيديولوجيات الذي ساد بُعيد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، وفيه شعر العرب بـ«اليتم» جراء فقد حليف ناصر لقضاياهم، والأهم هو أنهم افتقدوا التوازن الدولي الذي ساد ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى هذا التاريخ الأخير. والفعل، من حيث النتيجة، كان قد وضع الكيانات العربية في موضع لا يختلف كثيراً عن الوضعية التي كانت عليها البرازيل أو نيكاراغوا، مثلاً، اللتان كانتا تدعمان قضية الشعب الفلسطيني انطلاقاً من البُعد الإنساني لها. والمسار إيّاه كان قد قاد نحو «أوسلو» 1993 و«وادي عربة» و«اتفاقات أبراهام» 2020 التي كانت الأخطر مما سبقها وبما لا يقاس.
كان كل ذلك يشير إلى تسليم كامل بالواقع وإلى وجود قرار بالتطبيع حتى ولو كان ذلك مجانياً. وهذا في النهاية لم يفتح بوابات السلام لتلك الأنظمة، ولا فتح أبواب الرساميل التي قيل إنها آتية في أعقاب وضع «بصمة» الإبهام على الصكوك. وما جرى هو أن كل تلك الأنظمة أضحت «طرائد» منزوعة السيادة والقرار. والغريب في الأمر أن هؤلاء كلهم «أدانوا» ما سمّوه بـ«تنامي النفوذ الإقليمي» لطهران في المنطقة، بل واستغربوه، على الرغم من أن أسبابه بسيطة لدرجة أن ذكرها قد لا يحتاج إلى أكثر من القول إن ذلك التنامي كان نتيجة لانحسار الدور العربي، وإن حمل إيران لـ«راية» فلسطين كان بسبب سقوطها من كل الأذرع العربية، الأمر الذي فتك تماماً بنظام الأمن الإقليمي العربي وجعله أشلاء. ومن نافلة القول إن قضايا الأمن والحرب والسلام هي كلٌّ لا يمكن تجزئته، كما لا يمكن لأي دولة أن تبتّ، لوحدها، في تلك المسائل، لأنها ببساطة لا تعيش في «فراغ». والحقيقة الصارخة التي يؤكدها تاريخ 25 قرناً من عمر المنطقة هي أن مصائر شعوبها مرتهنة لبعضها البعض.
ما تفعله إسرائيل منذ 7 أكتوبر من العام الماضي هو تثبيت «استثنائيتها» تمكيناً لوظيفيّتها التي أنشئت لأجلها. والمؤكد هو أنها، وكذا الغرب، لا يمكن أن يؤمنا بإسرائيل «عادية»، أو «مسالمة» لها حدود وتخضع لقوانين. وتسليم المنطقة بهكذا وضعية لا يقوّض النظام الإقليمي في المنطقة فقط، بل يقوّض شرعية الكيانات القائمة برمتها، ولا يترك لها فرصة للإمساك باللحظة ثم رسم ملامح المستقبل.
لا يمكن بحال من الأحوال الهروب من القضية الفلسطينية، كما لا يمكن الهروب من مواجهة إسرائيل، حيث الفعل يخلق واقعاً أكثر خطورة منه. وما يجب علينا إدراكه هو أن إسرائيل إذا ما فازت بهذه الحرب فإنّ رحم اليمين الحاكم فيها منذ ثلاثة عقود سوف يستولد «هتلر» آخر يرى أن مقتضيات الأمن تقول بوجوب اكتساح هذا المشرق من أقصاه إلى أقصاه. ومن نافلة القول، وفقاً للمعطيات السابقة، إنّ المواجهة مع إسرائيل تخلق واقعاً هو أفضل بما لا يقاس من واقع الهروب منها، حتى بأسوأ موازين الربح والخسارة السائدة كثيراً بين دويلات المنطقة.
* كاتب سوري
كان دخول إسرائيل على تركيبة المنطقة، التي تعاني أصلاً من حالة «قلق جيوسياسي» لاعتبارات عدة، ذا تداعيات أخطر من أن تُعد أو تحصى. فالكيان الذي قدّم نفسه كـ«وكيل حصري» للغرب، وهو يرتدي لبوس «المسيحية اليهودية» في مواجهة شعوب المنطقة ذات الغالبية الإسلامية، راحت أزاميله تفتك بالبنى والتراكيب السياسية التي تأسست في أتون الصراع من أجل الاستقلال. وعليه، فقد برزت على السطح تيارات عدة استولدتها بالضرورة أحاسيس من نوع الإدراك بالخطر جنباً إلى جنب ضرورات النهوض التي تأكد لديها -أي لدى تلك التيارات- أن انزراع إسرائيل كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إعاقته. والشاهد هو أن عدداً من الأحداث والمحطات التي تزامنت، وتلت، تلك العملية كانت تؤكد على وجود نظرة غربية للمنطقة تفيد بأنها تحمل في «جيناتها» ملامح جنين قطب عالمي قادر على مواجهة الغرب إذا ما توافر لها الشرطان الموضوعي والذاتي. ولا أدلّ على ذلك من نظرية «صدام الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي» التي نشرها صموئيل هنتغتون كمقال في عام 1991، أي بعد سقوط القطب السوفياتي، ثم عاد ونشرها في كتاب صدر عام 1996. والنظرية، باختصار، كانت تريد القول إنّ الخطر المقبل على الحضارة الغربية سيكون، حتماً، من الشرق الإسلامي.
كانت وظيفية الكيان قد ظهرت، أكثر ما ظهرت، عبر حرب حزيران 1967 التي أضعفت الناصرية، من حيث أنها عجزت في الدفاع عن ترابها الوطني، الأمر الذي كانت له تأثيرات مباشرة على فكرة القومية العربية التي كانت تشكّل في حينها «لاصقاً» لشعوب المنطقة، وهوية تعرّف بها هذي الأخيرة. وعليه، فقد اكتشف الغرب أن «المشروع» هو من النوع القابل للاستثمار فيه، بل والتوسّع أيضاً في ذلك الاستثمار، لأنه ظهر وكأنه قادر على الإمساك بخيوط المنطقة المضطربة، وبدا وكأنه من الممكن له قولبتها في صناديق جاهزة لمن يريد الاستثمار أكثر. ولعل الدعم والإسناد الغربيّين، اللذين راح يلقاهما ذلك الكيان، هما وحدهما الكفيلان بتفسير ميلان هذا الأخير نحو أقصى اليمين وصولاً إلى محاولة استنساخ نظام «الأبارتهايد» البائد في جنوب أفريقيا، وإلا كيف لنا أن نفهم سيطرة بنيامين نتنياهو على دفة القيادة لمدة قاربت الثلاثين عاماً؟ بل كيف يمكن لنا أن نفهم كيف استطاع هذا الأخير حماية إسرائيل من أي ردع أممي، جاعلاً من كيانه كياناً يرقى فوق العقوبات والمحاسبة رغم كل ما ارتكبه من جرائم لا تشبهها سوى جرائم هتلر التي لا تزال حاضرة في الذات الجمعية العالمية؟
مع انكفاءة مصر عن الصراع عام 1977، مضت بقية الأنظمة العربية نحو تلوين خطابها تجاه هذا الأخير، وأضحى الجديد يقول إن «أس الصراع» في المنطقة هو حرمان الشعب الفلسطيني من قيام دولته. وهذه الطروحات تعزّزت أكتر بـ«موات» عصر الأيديولوجيات الذي ساد بُعيد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، وفيه شعر العرب بـ«اليتم» جراء فقد حليف ناصر لقضاياهم، والأهم هو أنهم افتقدوا التوازن الدولي الذي ساد ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى هذا التاريخ الأخير. والفعل، من حيث النتيجة، كان قد وضع الكيانات العربية في موضع لا يختلف كثيراً عن الوضعية التي كانت عليها البرازيل أو نيكاراغوا، مثلاً، اللتان كانتا تدعمان قضية الشعب الفلسطيني انطلاقاً من البُعد الإنساني لها. والمسار إيّاه كان قد قاد نحو «أوسلو» 1993 و«وادي عربة» و«اتفاقات أبراهام» 2020 التي كانت الأخطر مما سبقها وبما لا يقاس.
كان كل ذلك يشير إلى تسليم كامل بالواقع وإلى وجود قرار بالتطبيع حتى ولو كان ذلك مجانياً. وهذا في النهاية لم يفتح بوابات السلام لتلك الأنظمة، ولا فتح أبواب الرساميل التي قيل إنها آتية في أعقاب وضع «بصمة» الإبهام على الصكوك. وما جرى هو أن كل تلك الأنظمة أضحت «طرائد» منزوعة السيادة والقرار. والغريب في الأمر أن هؤلاء كلهم «أدانوا» ما سمّوه بـ«تنامي النفوذ الإقليمي» لطهران في المنطقة، بل واستغربوه، على الرغم من أن أسبابه بسيطة لدرجة أن ذكرها قد لا يحتاج إلى أكثر من القول إن ذلك التنامي كان نتيجة لانحسار الدور العربي، وإن حمل إيران لـ«راية» فلسطين كان بسبب سقوطها من كل الأذرع العربية، الأمر الذي فتك تماماً بنظام الأمن الإقليمي العربي وجعله أشلاء. ومن نافلة القول إن قضايا الأمن والحرب والسلام هي كلٌّ لا يمكن تجزئته، كما لا يمكن لأي دولة أن تبتّ، لوحدها، في تلك المسائل، لأنها ببساطة لا تعيش في «فراغ». والحقيقة الصارخة التي يؤكدها تاريخ 25 قرناً من عمر المنطقة هي أن مصائر شعوبها مرتهنة لبعضها البعض.
ما تفعله إسرائيل منذ 7 أكتوبر من العام الماضي هو تثبيت «استثنائيتها» تمكيناً لوظيفيّتها التي أنشئت لأجلها. والمؤكد هو أنها، وكذا الغرب، لا يمكن أن يؤمنا بإسرائيل «عادية»، أو «مسالمة» لها حدود وتخضع لقوانين. وتسليم المنطقة بهكذا وضعية لا يقوّض النظام الإقليمي في المنطقة فقط، بل يقوّض شرعية الكيانات القائمة برمتها، ولا يترك لها فرصة للإمساك باللحظة ثم رسم ملامح المستقبل.
لا يمكن بحال من الأحوال الهروب من القضية الفلسطينية، كما لا يمكن الهروب من مواجهة إسرائيل، حيث الفعل يخلق واقعاً أكثر خطورة منه. وما يجب علينا إدراكه هو أن إسرائيل إذا ما فازت بهذه الحرب فإنّ رحم اليمين الحاكم فيها منذ ثلاثة عقود سوف يستولد «هتلر» آخر يرى أن مقتضيات الأمن تقول بوجوب اكتساح هذا المشرق من أقصاه إلى أقصاه. ومن نافلة القول، وفقاً للمعطيات السابقة، إنّ المواجهة مع إسرائيل تخلق واقعاً هو أفضل بما لا يقاس من واقع الهروب منها، حتى بأسوأ موازين الربح والخسارة السائدة كثيراً بين دويلات المنطقة.
* كاتب سوري