معارك تثبيت المصطلحات
مَن يقرأ محاضر المفاوضات التي كانت تجري بين رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن والرئيس المصري أنور السادات ما بين عامي 1977 و1978 في إطار «كامب ديفيد»، يلحظ، وبشكل صارخ، تركيز بيغن على مسألة «تثبيت المصطلحات» الخاصة بكيانه، ومن ثم محاولة تغليبها على نظيرتها عند الطرف المصري، الفعل الذي كانت تل أبيب تعيره، ولا تزال، أهمية قصوى في عملية التفاوض باعتباره عاملاً إسنادياً في هذه الأخيرة. وهو لا يقل أهمية عن الدور الذي تؤديه موازين القوى القائمة على الأرض، وكذا توازنات القوى على ضفتي الصراع.
هذا المنحى، ونتيجة للنجاح الذي حقّقه في «كامب ديفيد»، أضحى في ما بعد ركيزة لا بديل عن استخدامها في المفاوضات، وكذا في الحروب، التي تلت توقيع «كامب ديفيد»، حيث من الملاحظ أن تل أبيب كانت كثيراً ما تقوم بتسويق رزمة من المصطلحات. وهي غالباً ما تصدر عن عتاة المنظّرين ومؤسسات الدراسة والأبحاث، قبيل، أو بالتزامن، مع كل تفاوض أو حرب. والفعل يصبح من الأهمية لدرجة يصبح فيها «سمتاً» للتوجّه السياسي، ويكاد يختصر الكثير من المرامي البعيدة من هذا الصراع الدائر بالتزامن مع دوران عجلة أي من ذينك الفعلين.
تزامن تسويق مصطلح «اليوم التالي» مع انطلاق العملية البرية في غزة يوم 27 تشرين الأول 2023. والمصطلح، الذي يقصد به «إنهاء حكم حماس ونظامها السياسي»، كان ذا مرميين هذه المرة:
أحدهما داخلي، يرمي إلى التعمية عمّا يمكن أن يكون عليه «اليوم التالي» الإسرائيلي بنتيجة التضاعيف التي سوف ترتد على دواخل البنيان بعد حرب كان من المؤكد أنها ستكون الأطول من بين تلك التي خاضها الكيان منذ ولادته، الأمر الذي تثبته التصريحات الأولى، وتلك التي تبعتها، بعيد إعلان محمد الضيف عن إطلاق عملية «طوفان الأقصى».
والآخر خارجي، كان يهدف إلى الزجّ بالولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع عبر الإشارة إلى «الخطر الوجودي» الذي وجد الكيان نفسه فيه بعيد هذه الأخيرة.
وإذا ما كان في الأمر الكثير ممّا يدعو إليه، فإنّ ثمة مرمى آخر في هذا السياق، وهو يتعلّق بتذكير الولايات المتحدة بوضعية القوّة الأحادية في هذا العالم، والقول بأن ما يجري يتهدّد نفوذها في منطقة لا تزال من بين الأشد حساسية في هذا الأخير على الرغم من الانزياحات التي شهدها مركز الثقل العالمي، قبل نحو أكثر من عقد، صوب المحيط الهادي كنتيجة لصعود القوة الصينية التي باتت على وشك منافسة واشنطن على زعامتها العالمية، أقلّه اقتصادياً، وللأمر تبعات لا بديل أن يشهدها في نواحٍ أخرى كالعسكرية والسياسية.
ترامب يضع الفلسطينيين والعرب الآن أمام اختبار مصيري، من المستحيل عليهم تجاهله،
أو التماشي معه
مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة السلطة في واشنطن كانت التنبؤات تشير إلى أن المنطقة برمّتها سوف تكون على صفيح ساخن، والأخير لم «يخذل» أولئك القائلين بتلك التنبؤات، ففي مؤتمر صحافي عقده يوم 4 شباط رفقة بنيامين نتنياهو قال «إنه ملتزم بشراء وتملك قطاع غزة»، وهو سيحيله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، قبيل أن يضيف إن «دولاً في الشرق الأوسط ستستقبل الفلسطينيين».
واللافت هنا هو أن ترامب استخدم، في سياق طرحه لمشروعه الآنف الذكر، أسلوب «تثبيت المصطلحات» الذي من شأنه رسم الملامح الأهم، وكذا السقوف، التي يجب أن تجري تحتها النقاشات والمقايضات.
ولا نقول هنا المفاوضات، لأن هذه الأخيرة باتت مصطلحاً «غير واقعي» في ظل التشظي الحاصل في المنطقة والذي بلغ ذروته مع حلول خريف العام الماضي وصولاً إلى شتائه الراهن الذي شهد «التسونامي» السوري، حيث من الممكن القول إن هذا الفعل الأخير كان أهم حدث جيوسياسي تشهده المنطقة في هذه الألفية لاعتبارات تتعلّق بالجغرافيا السورية أولاً، ثم تتعلّق بانغراس الأخيرة في قلب الصراع الدائر فيها منذ ما يقرب من ثمانية عقود.
ما تؤكده طروحات ترامب الأخيرة هو أنه ينطلق من رؤية مفادها أن المنطقة برمّتها باتت ذات «قوام عجيني» ومن السهل وضعها في قوالب جاهزة جرى تصنيعها وفقاً للمصالح الأميركية بالدرجة الأولى.
فمن يرقب الحروب التي دارت في المنطقة، بدءاً من حرب 1991 على العراق، فيدخل في موجباتها وأدواتها ونتائجها، سوف يصل إلى نتيجة مؤكدة مفادها أن كل تلك الحروب، بما فيها حرب الـ33 يوماً في تموز 2006 وحرب الـ471 في غزة وجنوب لبنان، كانت أميركية صرفة، والدور الإسرائيلي فيها كان محض «وكالة» تفترض الشروط الواردة في العقد الناظم لها، مع الأول - الموكل. تدخل هذا الأخير مباشرة لإنقاذه، ولذا فإنه سيكون من السذاجة الاستخفاف بتلك الطروحات أو عدم أخذها على محمل الجد، أو التعاطي معها بمسطرة «اليوتوبيا»، فـ«المحفّزات» عديدة، بل وأكثر من أن تُحصى (ولعل اللافت هنا هو أن الطرح، لربما، يستند، أو هو يستحضر، إرثاً «عرفاتياً»، إذ لطالما كان ياسر عرفات هو أول من عبّر عن «طموحه» في أن يرى غزة «سنغافورة الشرق الأوسط» بعيد نحو أقل من عام على توقيعه لاتفاق «أوسلو»).
ولذا، فإنّ التقدير المنطقي والعقلاني لها يقول إن ترامب يضع الفلسطينيين والعرب الآن أمام اختبار مصيري من المستحيل عليهم تجاهله، أو التماشي معه، لأن من شأن كلا الفعلين أن يفضيا إلى تحولات كبرى في المنطقة سوف تفضي، بمرور الوقت، إلى تحوّل العرب إلى طرف «منفعل»، فحسب، بما يجري في محيطيهم القريب فالأبعد.
«حماس» أدلت بدلوها، ففي أثناء الجولة الخامسة من عملية تبادل الأسرى، اختارت الحركة منطقة دير البلح ساحة لها، وفي «الحفل» خرج أحد عناصر «القسام» ليلقي خطاباً من على منصة واسعة توسّطتها عبارة ضخمة، وهي مكتوبة بلغات ثلاث، عربية وعبرية وإنكليزية، والعبارة تقول: «نحن الطوفان... نحن اليوم التالي».
* كاتب سوري