مطلع حزيران عام 1999، أُعلن عن خروج جميع عناصر ميليشيا عملاء إسرائيل من مدينة جزين وقراها شرق صيدا. كان عملاء العدو تلقوا على مدى سنوات ضربات قاسية. ترافقت مع عدم وجود أي نقطة ثابتة لقوات الاحتلال الإسرائيلي. حاول العدو إجراء اختبار ميداني - سياسي من خلال الخطوة. طلب إلى قائد الميليشيا المتعاملة أنطوان لحد الإعلان في مؤتمر صحافي عن قرار الانسحاب من جزين، ثم تولت الإدارة الأميركية التواصل مع الحكومة في بيروت لأجل ضمان تسوية تهدف إلى التثبت من إمكانية فرض إجراءات تحول دون أي توسع لانتشار المقاومة في المنطقة الحدودية.

المؤشرات الميدانية لدى قيادة المقاومة كانت حاسمة في أن العدو لن يصمد لفترة طويلة. لكن الحسابات لم تكن تنحصر في كيفية التعامل الميداني، بل في السعي إلى احتواء أي مضاعفات سياسية للخطوة، من دون تعريض جدول أعمال المقاومة إلى أي تعديل خاص.
جاءت خطوة الانسحاب من جزين، لتتقاطع مع معلومات مجمعة أمنياً عن جهود العدو مع ضباط العملاء، لتضع تقديراً واضحاً لدى قيادة المقاومة، بأن العدو يخطط لانسحاب من المنطقة المحتلة، مع إبقاء عناصر الميليشيات منتشرين في كل الشريط الحدودي، ومدّهم بدعم عسكري وسياسي ومادي خاص، بما يسمح لهم تشكيل «حزام أمني»، يتيح من جهة توفير خدمات الأمن للعدو عند السياج، ويفسح في المجال أمام تحويل المواجهات بين المقاومة وبين قوات العملاء، أمراً لبنانياً داخلياً، لا بل يشكل امتداداً لمظاهر الحرب الأهلية.
كل ذلك، دفع بالمقاومة لأن تشكل هيئة قيادية تنظيمية - ميدانية تولى الشهيد عماد مغنية الإشراف عليها، مهمتها تعطيل مشروع العدو بالإبقاء على ميليشيا لحد، من خلال تحديد هدف واضح هو العمل على تفكيك تلك الميليشيا. الإستراتيجية العامة التي وُضعت للوصول إلى هذا الهدف اختُصرت بعبارة «رعب أكثر ودماء أقل»، وكانت تعني تكثيف الاستثمار النفسي والإعلامي للعمليات الميدانية التي تقرر أن تأخذ منحى تصاعدياً من دون الاضطرار إلى تدفيع العناصر اللحديين العاديين الثمن العقابي الذي يتوجب تحميله لقادتهم. إجرائياً أخذت هذه الإستراتيجية ترجمتها عبر عمليات تصفية نظيفة لكبار العملاء، وأسر عناصرهم بعد القيام بعمليات اقتحام مدوّية لأبرز مواقعه العسكرية. وتم التركيز على عمليات تدمير ضخمة للمواقع من خلال تفجيرها بواسطة شاحنات محمّلة بأطنان من المتفجرات لمنع العملاء من العودة إليها. وتقرر أن يتم تصوير العمليات لتُعرض بالتزامن مع لغة جديدة استخدمها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطبه العامة، رافعاً سقف التهديد للعملاء بمطاردتهم حتى داخل منازلهم.

العجز باب نحو الهزيمة
في عرف قادة المقاومة العسكريين، لا يمكن الركون إلى اللحظة السياسية لتنفيذ قرار الانسحاب، لأن في ذلك ما يعيد القرار إلى ظروف سياسية خاصة بمن أصدره. في عقل القادة الجهاديين، أن أي محاولة لفهم ما جرى في أيار عام 2000، تتطلب معاينة لسياق عمره ثمانية عشر عاماً على الأقل، وهو سياق يمتد ليتصل حكماً بنتائج ما حصل بعد عام 2000، ليس في لبنان فقط، بل في داخل فلسطين نفسها. وهو ما يقدم جواباً عما جرى في عام 2006، وما جرى لاحقاً في فلسطين أيضاً، وصولاً إلى ما يعتبره قائد جهادي كبير في المقاومة «عنوان العقل العسكري الجديد الذي ترجم تفوّقه في الحرب على الإرهاب في سوريا، وهو العقل العسكري الذي يردع العدو عن القيام بحرب جديدة، وهو العقل الذي يعد العدو بتدمير كامل لجيشه في أي حرب مقبلة».
في عام 1999 تقدم الجميع نحو حسم قرب موعد الانسحاب عند قيادة العدو. بالنسبة إلى المقاومة «فإن المؤشرات لم تعد مجرد ملاحظات، لقد كان كبار القوم يقرون بعجزهم عن الاستمرار في المعركة. الاحتكاك والتماس اليوميان والمباشران اللذان عشناهما مع العدو، حسما عندنا القناعة بقرار العدو الخروج من لبنان».
يعود القائد الجهادي إلى الأيام الأولى للاحتلال ليعرض تطور استراتيجية خاصة لإدارة المعركة ضد قوات الاحتلال والعملاء. «كان الأفق مفتوحاً أمامنا في سياق حرب عصابات تقود إلى انهاك العدو وتعطيل قدرته على حماية جنوده، وبالتالي تدفعه نحو قرار الهروب بعد تعطيل جدوى بقائه هنا. كان المقاتلون يسيرون يومياً إلى الأمام. وحجم التطلّب لديهم في السنوات الأخيرة كان أكبر بكثير من المتوقّع. الوحدات المقاتلة تُشعر قيادة المقاومة بالحاجة إلى تطوير دائم لبرامج العمل».
«الأمر لا يتعلق بحرب بعصابات تقليدية». الفكرة بالنسبة إلى جيل القيادات المؤسسة للعمل العسكري في المقاومة الإسلامية تنطلق من معايير أساسها التعرّف إلى العدو: طبيعته البشرية وخصائصه العسكرية. وإذا كان العمل التقليدي يتطلب العمل على نقاط القوة والضعف، فإن الفكرة الرئيسية عند العقل العسكري للمقاومة كانت في «الابتكار». أي أن المعركة تحتاج إلى ابتكار دائم، لأن التراكم هو الذي سيحدث الفرق.
يقول القائد الجهادي: «نحن أمام مباراة ملاكمة. ليس ممكناً الفوز بالضربة القاضية. بل يجب العمل على استراتيجية إنهاك العدو. وإذا تعرّفت إلى نقاط ضعفه، يمكن تركيز الضربات المتتالية، وبلا توقف، من أجل إصابته بالوهن وإسقاطه». ويضيف: «الفكرة حول تأريخ لحظة الانسحاب يجب أن تكون مرتبطة بالسياق العملياتي الذي رافق عمل المقاومة طوال فترة الاحتلال. كنا مثل عمال يحملون معدات الهدم الثقيلة. كنا نضرب يومياً في النقاط المركزية للجدار الذي يستند عليه العدو. وفي لحظة صادف توقيتها في ربيع عام ألفين، جاءت الضربة التي أسقطت الجدار».
يعود القائد الجهادي إلى آليات العمل اليومية: «الحقيقة هي أن تراكماً لعمل مُضن لكنه مركّز وفعّال، استمر لوقت طويل، نجح في إسقاط كل موجبات استمرار الاحتلال عند قيادة العدو قبل أي أحد آخر. ما حصل فعلياً، أن برامج العمل الخاصة بنا، ركّزت على منع العدو من استيلاد أي وسيلة لحماية جنوده أو حماية العملاء. لم يبق مكان يتحرك فيه العدو إلا وضربناه، مرات ومرات، حتى عندما لجأ العدو إلى خيارات بديلة، وطوّر قدراته في المناورة والتضليل، عملنا على ضرب هذه الإجراءات مباشرة أو من خلال خلق مسارات عمل جديدة لم يكن بمقدور العدو أن يحتويها».
بحسب العقل العسكري للمقاومة، كان يجب العمل من دون توقف على «درس إمكانات المقاومة من جهة، وإمكانات العدو في المقابل. وبالتالي التعامل مع الظروف، والقيام بما يقود إلى اللحظة التي يشعر العدو فيها بالعجز الكامل عن الانتصار في أي معركة، ومن ثم العجز عن البقاء». وبهذا المعنى يقول القائد الجهادي إنه «كان واضحاً لدينا أنه طالما نجحنا في إفقاد العدو أي قدرة على ابتكار ما يحمي قواته ودورياته، وعندما نجعله عاجزاً عن حماية مواقعه، فهذا يقود إلى اقتناع العدو بالعجز التام وليس أمامه سوى الهروب. وهذا ما حصل، وبهذا المعنى كان واضحاً لنا أن قرار الانسحاب اكتمل. لكن توقيت لحظة الخروج المعلنة، سيكون بالتأكيد رهن ظروف مختلفة، بينها ما يخصّ القيادة الاسرائيلية».

دع اليأس ينَلْ منهم
لا تبدو قيادة المقاومة أمام مفاجآت بشأن ارتباط قرار الانسحاب من لبنان باستراتيجية المقاومة الخاصة بتحرير فلسطين. هي كانت تسعى من خلال برنامج العمل العسكري والأمني إلى «تنفيذ العمليات بطريقة تتجانس مع المتطلبات المرتبطة بالاستراتيجية الكبرى الخاصة بالسير قدماً نحو إنهاء إسرائيل»، يقول القائد الجهادي، مضيفاً: «ما عملنا عليه عملياً، هو برنامج استنزاف كامل لقوات العدو في الجنوب المحتل. لكن ذلك كان يتطلّب منّا العمل على وضعه في سياق الخط الاستراتيجي المرتبط بالهدف الأبعد المتصل بتحرير فلسطين. كنا نعمل وفق آلية تجعل حالة المواجهة مع العدو حاضرة بقوة وبصورة يومية لدى كل معنيّ بتلك المواجهة، ليس في لبنان وحسب، بل في فلسطين وفي بقية العالم. كانت العمليات تستهدف إنهاك العدوّ ودحره، لكنها كانت تستهدف أيضاً إشعار الناس بأن الانتصار خيار عملاني قابل للتحقق».
بالنسبة إلى العقل العسكري في المقاومة، فإن المواجهة كما الهزيمة أصابت كل العقل العسكري والأمني لدى العدو، بعدما عمل أفضل قادته ونخبه العسكرية والأمنية في لبنان. وهنا كانت المقاومة تتعرّف يومياً إلى كل قادة العدو الحاضرين اليوم في المشهد. يقول القائد الجهادي «نحن أكثر معرفة بشخصيات مثل إيهودا باراك وبني غانتس وموشي يعلون وغابي أشكينازي وغادي آيزنكوت وآخرين من الذين يتطوعون اليوم لقيادة «الدولة».

خطة «رعب أكثر ودماء أقل» فكّكت جيش العملاء وأبطلت لغم الانسحاب بأثمان

نحن نعرف هؤلاء أكثر من الإسرائيليين أنفسهم. نحن كنا على تماس معهم في أصعب معارك إسرائيل. وبالتالي نحن نعرفهم مباشرة. وهذه المعرفة الدقيقة بقادة العدو ساعدتنا على تطوير قدراتنا، سواء في مرحلة مواجهة الاحتلال في الجنوب، أو في مواجهته اليوم. نحن نعرف أن الانسحاب الفعلي من لبنان بدأ عملياً لحظة إقرار العدو بالعجز عن حماية مواقعه وجنوده. ربما لا يعلم كثيرون أن العدو عمد مرات كثيرة قبل عام 2000 الى إخلاء مواقع له. وعمد الى تجربة خيارات كثيرة، كان البارز فيها تحوله نحو العمل الهجومي عندما أرسل عميرام ليفين الى الجنوب. كانت تلك تجربة خاصة، تكشف عن خصوصية عقل المقاومة العسكري».
يروي القائد الجهادي: «يوم جاء عميرام ليفين ليقود معركة هجومية خاصة، كانت اللحظة تمثل لنا الفرصة لتوجيه الضربات التي تحسم في عقل العدو أنه لا مجال للقيام بأي عمل يحفظ له مواقعه وجنوده. كان هذا الاختبار أحد العناصر الحاسمة في قرار العدو النهائي بالانسحاب. يومها، كنا قد اختبرنا كل قادة العدو، وكانت استراتيجية المقاومة قد أنهكت عقول كبار ضباطه. من إسحق رابين وموشي أرينز وإيهود باراك... هؤلاء كانوا يمثلون النخبة لدى العدو. هم ضباط مؤسسون للجيش الإسرائيلي الحديث والقوي. كانت صدورهم مزينة بأوسمة كثيرة على عمليات ناجحة قاموا بها ضد المقاومة الفلسطينية. كان باراك يزهو بأنه جاء الى بيروت. لكن الذي فعلناه، هو أن هؤلاء القادة التاريخيين، ومعهم الضباط العملانيون، الذين صاروا اليوم في مواقع متقدمة أجبرتهم المقاومة على اتخاذ قرار الانسحاب، وبالتالي فإن القرار جاء من قبل المستوي العسكري الذي لبس البدلة السياسية لاحقاً».
كان عدد قتلى العدو في المواجهات قابلاً للتحمل لو أن العدو كان يملك أملاً بالنجاح. لكن ما حصل هو أن الفعل النوعي لاستراتيجية المقاومة «زرع اليأس في عقول هؤلاء القادة وقلوبهم قبل الجنود وقبل الجمهور، وهو ما حوّل وجودهم العسكري في لبنان إلى جهد أمني عبثي، وما فعله المستوى السياسي هو ترجمة لهذه الخلاصة الواضحة بأنه لا يمكن هزم هذه المقاومة».

استراتيجية إصابة ضباط وجنود العدو «أينما تحركوا» حسمت قرار العسكريين والأمنيين بالهروب


أدرك القادة العسكريون والأمنيون في جيش العدو أنهم عاجزون فعلياً عن استمرار المواجهة. يروي القائد الجهادي: «عثرنا بعد الانسحاب على وثائق من مخلّفات العدو ثبتت لنا هذه القناعة. لقد قرأنا في ملفاتهم كيف أنهم قاموا بكل ما هو مطلوب، تدربوا جيداً وتجهزوا، وكانت معهم كل الوسائل القتالية المطلوبة، والكثافة النارية التي يحتاجون إليها، ولكن من دون جدوى. قال ضباط من العدو: ببساطة، لقد هزمنا».
ركز العقل العسكري للمقاومة على رسم دائرة من النار تحيط بكل حركة يقوم بها العدو. القرار بأنه لا يمكن تركه من دون ملاحقة أينما وُجِد. يجب ضربه في المواقع وفي الدوريات وفي الدبابات أو السيارات وفي دشمه المحصّنة. يجب أن نزرع في عقلهم أنه يستحيل حماية أنفسهم بأي طريقة. حتى عندما لجأ العدو الى تغيير استراتيجي في حركة قواته، إنما كان يفعل ذلك مضطراً. لكن قادة جيش الاحتلال كانوا يدركون معنى ذلك. معناه أن المقاومة هي التي تفرض عليهم المسارات. وصلت الأمور إلى حد العجز التام عن حماية أكثر المواقع تحصيناً.
يروي القائد الجهادي تجربة العدو قي قلعة الشقيف: «تَدرّب جنود الاحتلال بكثافة على كيفية احتلالها قبل اجتياح عام 1982. كانوا يعرفون أن الوصول الى هذه القلعة يعني الكثير. لكن برنامج عمل المقاومة كان يهدف الى تعطيل قدرة العدو على البقاء في هذه القلعة. وتم ذلك من خلال برنامج تطور من مستوى القصف المستمر الى الضرب المباشر والدقيق للدشم، وصولاً الى زرع العبوات على مداخل القلعة، وضرب الدوريات المتحركة على الطرق المؤدية إليها. مع الوقت، شعر العدو بأنه غير قادر على نقل قواته براً الى القلعة. ومع ذلك، فإن اللجوء الى وسائل أخرى لتأمين النقل والتغطية النارية، لم يكن لينفع في مواجهة قرار المقاومة الوصول الى دشم القلعة وضربها. وهذا ما حصل في الشقيف، كما حصل في موقع الدبشة وعملية زرع العلم الشهيرة».

مرحلة اللاخيار
في المرحلة ما قبل الأخيرة من عمر الاحتلال، انتقل العدو الى محاولة استعادة زمام المبادرة. يومها قرر أن العمل الهجومي هو الأفضل. وتم إرسال وحدات النخبة للقيام بنصب الكمائن عند مشارف القرى، والتسلل الى داخل المناطق المحررة، وزرع العبوات، ونشر قوات بطريقة تقفل كل منافذ الشريط المحتل، مع مستوى استثنائي من عمليات التضليل والمناورة، واللجوء الى وسائل تقنية عالية.
تصرف بعض قادة العدو على أساس أنهم نجحوا في دفع المقاومة الى موقع دفاعي. لكن الواقع كان معاكساً. يقول القائد الجهادي: «هم لم يتعرّفوا إلى عقلنا. لم ينتبه هؤلاء إلا متأخرين الى أننا كنا نطاردهم في كل الأماكن، وصار صعباً علينا العثور عليهم. فجأة، قرروا هم القدوم إلينا. كانت خطتهم مثل هدية لنا. وخلال وقت قصير، حوّلنا كل الإجراءات العملانية الهجومية للعدو، وخصوصاً الكمائن، الى أهداف بحد ذاتها. لم يصمد العدو طويلاً، وصار يتراجع تدريجياً الى الخلف. وكنا نحن نتقدم خطوة بخطوة. ثم أعلن العدو فشل الخطة الهجومية، وعاد للاختفاء بعيداً. بينما تقدمت المقاومة نحو العمق. وانطلقت نحو مرحلة جديدة. قررنا ونفذنا فكرة إقامة نقاط حضور لنا داخل المناطق المحتلة. لم نعد مضطرين إلى أن نرسل المجموعات من الخارج الى الداخل. صارت المجموعات تنتقل من الداخل الى الداخل. تعطلت قدرة العدو على إقفال المنافذ. بينما صار بإمكاننا زرع عشرات العبوات وانتظار الأهداف لتأتي من تلقاء نفسها. وكان على العدو في هذه اللحظات الاختفاء وحسب. مرت أسابيع وشهور، كنا فقط في موقع انتظار مرور هدف. في مرات كثيرة، عمد المقاومون الى إعادة تجهيز العبوات ببطاريات جديدة لتوقف القديمة عن العمل بفعل مرور الوقت. صار لدينا فرق خاصة داخل الشريط المحتل. في الخيام وبنت جبيل، كانت لدينا مجموعات، بعضها استشهادي، تنتظر أهدافها للقيام بالعمليات النوعية، لكن العدو كان قد اختفى».

المواجهة اللصيقة بالعدو حدّدت نقاط ضعفه و«الابتكار» لازم التخطيط وتطوير برامج المقاومة


يشير القيادي إلى واقعة تعكس نمط الاختلاف في موازين القوى بين المقاومة وجيش الاحتلال، ويروي: «في لحظة ما، قرّرنا إرسال دورية لزرع عبوة في نقطة حدودية. كان على الشباب الانتقال على مراحل صوب الهدف. وكان يفترض بهم الاستراحة لبعض الوقت في إحدى النقاط في القطاع الأوسط. في المقابل، نفّذ العدو إجراءات تضليلية فائقة الدقة، ونجح في زرع كمائن كثيرة على الطريق المفترض للمقاومين، وحقيقة أنه لم يكن لدينا أي معلومات عن هذه الكمائن. لم نكن نعرف أنهم ينتشرون في كل الأودية والمسارات. ومع ذلك تقدم الشباب. ما لم يكن يعرفه العدو، هو أننا كنا قد طوّرنا إجراءات تقنية وعسكرية تفادي الكمائن، وهو ما سمح للمجموعة بتجاوزها والوصول إلى نقطة الاستراحة المحدّدة، صحيح أن العدو اكتشف وجود الشباب، لكن الشباب اكتشفوا أيضاً وجود قوات الاحتلال في النقطة نفسها. حصلت مواجهة نادرة. وخلال ساعات امتدّت من الفجر حتى ظهر اليوم التالي، كان ثلاثة مقاومين فقط، يواجهون كتيبة كاملة من جيش الاحتلال، مدعومة بغطاء ناري استثنائي توفره المدفعية والطائرات على أنواعها. واضطر العدو الذي سقط له قتلى في المواجهات أن يدفن قتلاه في الأرض وينسحب قبل أن يعود في اليوم التالي لنبش القبور وسحب الجثث. يومها فقد العدو القدرة على السيطرة. كانت هذه العملية ضربة كبيرة جعلت العدو يحسم أنه عاجز».
«في تلك اللحظات، كان العدو يعرف تماماً أنه مع كل فجر، ستنفذ المقاومة عملية في مكان ما. كانت خططه تركز على سبل تحديد نقطة الاشتباك وتقليص الفارق الزمني بين لحظة الاشتباك الأولى وبين وصول الدعم. كان العدو يعرف ونحن نعرف، أنه يحتاج إلى عشر دقائق لتحديد موقع المواجهة حتى يباشر بالقصف المدفعي، ويحتاج إلى عشرين دقيقة لإرسال قوات النجدة والدعم، وإلى نصف ساعة لإرسال الطائرات إلى المكان. ولذلك، قرّر العدو أن يختصر هذه العملية، وعمد إلى وضع استراتيجية لمباشرة سريعة لعمليات الدعم والإسناد. كان يعتقد أن هذه التجربة ستحاصر خيارات المقاومة. لكن «الابتكار» الذي ظل نشطاً بلا توقف، جعل المقاومة تفتح النار في لحظة واحدة على كل المواقع من البحر غرباً إلى آخر المواقع الشرقية. لم يكن العدو يقدر على تحديد الهدف الفعلي. ذات مرة كان العدو يتصرف أننا نهاجم موقع طيرحرفا. لكن المقاومين كانوا يسحبون دبابة من موقع آخر في المنطقة الغربية. في تلك المرحلة من العمليات الواسعة، حسم العدو بأنه فشل في كل خياراته التكتيكية في مواجهة المقاومة».
يصل القائد الجهادي الكبير في المقاومة إلى ما يراه الخلاصة: «دخل العدو مرحلة اللاخيار في مواجهتنا. عندما خرج في أيار 2000، أصبحنا نحن على السياج. وارتكب العدو أكبر خطأ في تاريخه: الانكشاف، استراتيجياً، بسبب عجز تكتيكي».