الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية: خطوة قانونية نحو زوال الاحتلال

الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز 2024 هو رأي تاريخي يؤكد المبادئ الأساسية للقانون الدولي، خاصة في ما يتعلق بحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويشكل تحدياً قانونياً كبيراً لسياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة ويفضح الأفعال الجرمية التي ترتكبها إسرائيل والتي حرمت الشعب الفلسطيني من حقوقهم وهمشتهم لعقود من الزمن. فقد أكد الرأي الاستشاري أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (المعروفة بأراضي الـ 67) هو احتلال غير قانوني وأن ممارساته من بناء المستوطنات وزيادة عدد المستوطنين وحرمان الفلسطينيين من أساسيات الحياة واستغلال الموارد الطبيعية الفلسطينية هي ممارسات غير قانونية، وأن الاحتلال الإسرائيلي يرتكب جريمة الفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وعلى الاحتلال أن يفكك المستوطنات ويمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير. ولا يجوز للمجتمع الدولي أن يستمر في تجاهل الأحكام القانونية المتعلقة بالسياسات غير القانونية والممارسات التي تنتهجها إسرائيل ويتعين على مجلس الأمن أن يتحرك الآن ويضع حداً للإفلات من العقاب الذي تتمتع به إسرائيل منذ عقود من الزمان.
رغم أن آراء محكمة العدل الدولية الاستشارية هي غير ملزمة قانونياً، فإنها تحمل سلطة أخلاقية وقانونية كبيرة وقد تصبح في نهاية المطاف جزءاً من القانون الدولي العرفي الذي يعتبر ملزماً قانوناً للدول. إن الرأي الاستشاري سيفتح المجال أمام إجراءات قانونية وسياسية جديدة في المحافل الدولية والاستفادة منه لتعزيز الضغط الديبلوماسي والقانوني على إسرائيل لإنهاء احتلالها. هو خطوة في مسار طويل نحو تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني كغيره من الشعوب التي ناضلت لنيل حريتها.
إن النتائج القانونية للرأي الاستشاري لا يمكن تخطيها أو تجاهلها، فهو صادر عن الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، ما يحتم على أجهزة الأمم المتحدة الأخرى اتخاذ مواقف وقرارات تتماشى وتعكس ما جاء فيه. ويمكن القول إن الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية سيرتب بعض النتائج القانونية والسياسية المرتقبة:
- قوّض الرأي الاستشاري الحجج الأساسية التي تسوقها إسرائيل لاحتلالها طويل الأمد للضفة الغربية وقطاع غزة، وسيمكّن الدول ومعها الشركات والبنوك بشكل أساسي بمبرر قوي لمعاقبة إسرائيل أقله بمقاطعتها وسحب الاستثمارات المالية منها.
- إن الجمعية العامة للأمم المتحدة قادرة على عقد مناقشة حول رأي المحكمة الاستشاري وتبني قرارات بناء عليه كما فعلت في عام 2004 عندما صوتت الجمعية العامة بغالبية ساحقة لمصلحة إلزام إسرائيل بالالتزام بالرأي الاستشاري الذي أصدرته المحكمة في يوليو من عام 2004 والذي خلص إلى أن الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل ينتهك القانون الدولي ولا بد من تفكيكه.
- يمكن أن يوفر الرأي الاستشاري خارطة طريق للدول التي تسعى إلى حماية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإنهاء سنوات من الإفلات من العقاب عن انتهاكات جسيمة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال أعلنت الخارجية النرويجية أن الرأي الاستشاري بشأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية واضح تماماً وأن انتهاك «تل أبيب» للقانون الدولي وسياسات الضم لأجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة هي انتهاكات يجب أن تنتهي. الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية، جوزيف بوريل، أعلن أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية يعبّر بوضوح عن موقف الاتحاد الأوروبي بأن احتلال الأراضي الفلسطينية والضفة الغربية غير قانوني تماماً ويجب إنهاؤه. بريطانيا أعلنت أيضاً أنها تؤكد موقفها المعارض تماماً للتوسع في المستوطنات غير القانونية وعنف المستوطنين المتزايد وأنها تؤيد حل «الدولتين».
- الرأي الاستشاري الصادر في 19 يوليو الحالي هو إلى حد كبير مماثل للرأي الصادر عنها في عام 1971 والمتعلق بمسألة الآثار القانونية التي تترتب على الدول نتيجة لاستمرار وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا، وخلص رأيها آنذاك بالقول «إن استمرار وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا غير قانوني، وجنوب أفريقيا ملزمة بسحب إدارتها من ناميبيا على الفور وبذلك تضع حداً لاحتلالها للإقليم؛ وإن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بالاعتراف بعدم مشروعية وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا وبطلان أعمالها باسم ناميبيا أو في ما يتعلق بها، والامتناع عن القيام بأي أعمال، ولا سيما أي تعامل مع حكومة جنوب أفريقيا ينطوي على اعتراف بمشروعية أو تقديم الدعم أو المساعدة إلى هذا الوجود والإدارة». إن هذا الرأي قد أسهم في زيادة الضغط الدولي على جنوب أفريقيا في سبعينات القرن الماضي وأدى في نهاية المطاف إلى استقلال ناميبيا وانسحاب جنوب أفريقيا منها وإن استغرق الأمر ما يقرب العشرين سنة. وعمدت الجمعية العامة في عام 1974 إلى اتخاذ خطوة تعتبر سابقة في تاريخ الأمم المتحدة إلى تعليق مشاركة وفد حكومة جنوب أفريقيا العنصرية في اجتماعاتها بناء على قرار صدر بغالبية أعضائها. فهل تتخذ الجمعية العامة خطوة مماثلة ضد «إسرائيل» وتعلّق مشاركتها كما فعلت مع جنوب أفريقيا سابقاً؟
- إن الرأي الاستشاري أوضح أن إسرائيل هي قوة احتلال في الأراضي المحتلة وأن الضفة الغربية وغزة هما وحدة إقليمية واحدة بما فيها القدس الشرقية، وأن انسحابها من غزة لا يعفيها من التزاماتها كقوة احتلال، وأن الأراضي المحتلة (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة) تنطبق عليها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبالتالي يتمتع الشعب الفلسطيني بحماية القانون الدولي الإنساني. وهذا التأكيد يعزز أمرين لمصلحة الشعب الفلسطيني، الأول أن إسرائيل كقوة احتلال طويل الأمد فقدت حجة التمسك بحق الدفاع عن النفس والدواعي الأمنية لتبرير احتلالها للأراضي المحتلة منذ عام 1967. فهو مبرر مقبول لبداية الاحتلال ولكن لا يمكن قبوله لاستمرار الاحتلال أكثر من 50 سنة. الأمر الثاني وهي كقوة احتلال، لا يمكن لإسرائيل التذرع بحق الدفاع النفس ضد أعمال المقاومة التي اعترفت بها اتفاقيات جنيف والتي اعترفت بحركات المقاومة المنظمة ضد الاستعمار والاحتلال وتحديداً المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة واعتبارها أن أعضاء هذه الحركات يُعاملون معاملة أسرى الحرب. وهو أمر سيعزز الوضع القانوني للمعتقلين الفلسطينيين سواء أكانوا مقاتلين أم مدنيين، فهم في الحالتين يحظون بحماية القانون الدولي الإنساني.
- حق تقرير المصير أكدته المحكمة في رأيها الاستشاري، وهذا مكسب آخر للشعب الفلسطيني. فقد تطرقت المحكمة إلى آثار سياسات إسرائيل وممارساتها على الشعب الفلسطيني وممارسته لحقه في تقرير المصير. و أكدت المحكمة أنه وفي حالات الاحتلال الأجنبي، يشكل الحق في تقرير المصير قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي ما يعني التزام إسرائيل، بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، بعدم إعاقة الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقه في تقرير المصير وأن سياسة إسرائيل الاستيطانية وضمها لأجزاء كبيرة من الأرض الفلسطينية المحتلة يعيق حق الشعب الفلسطيني في تقرير وضعه السياسي بحرية والسعي إلى تحقيق تنميته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. المحكمة هنا أعادت إحياء قرار الجمعية العامة رقم 2787 الصادر في 6/12/1971 والذي جاء في بنده الأول أن الجمعية العامة «... تؤكد شرعية نضال الشعوب في سبيل تقرير المصير والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاستعمار وبشكل خاص شعوب زيمبابوي وناميبيا وكذلك الشعب الفلسطيني بكل ما في متناولها من وسائل متفقة مع ميثاق الأمم المتحدة».


- اتفاق أوسلو وتوابعه لا يُسقط حقوق الشعب الفلسطيني: تلاحظ المحكمة أنه من الضروري، عند تفسير اتفاقات أوسلو، مراعاة المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أنه «لا يجوز حرمان» السكان المحميين من مزايا الاتفاقية «بموجب أي اتفاق يبرم بين سلطات الأراضي المحتلة ودولة الاحتلال». ولكل هذه الأسباب، ترى المحكمة أنه لا يمكن فهم اتفاقات أوسلو على أنها تنتقص من التزامات إسرائيل بموجب قواعد القانون الدولي ذات الصلة المنطبقة في الأرض الفلسطينية المحتلة. أو من «الحقوق المشروعة» للشعب الفلسطيني المعترف بها في اتفاقات أوسلو والتي تشمل الحق في تقرير المصير. وهذا التأكيد من جانب المحكمة سيعزز حتماً موقف المحكمة الجنائية الدولية لناحية المسألة المعروضة أمامها والمتعلقة بالاحتجاج الذي تقدمت به المملكة المتحدة أمام الدائرة التمهيدية وتدعي فيه أنه لا صلاحية للمحكمة الجنائية إصدار أوامر اعتقال إسرائيليين، لأن السلطة الفلسطينية كانت قد تنازلت عن حق مقاضاتهم لإسرائيل وفقاً لأوسلو 2 وبالتالي لا تستطيع المحكمة اعتقال أفراد لا تستطيع السلطة الفلسطينية مقاضاتهم. والرأي الذي اعتمدته المحكمة الجنائية الدولية هو أن اتفاقيات أوسلو لا تقوض من صلاحياتها في نطاق الأراضي الفلسطينية المحتلة (راجع القوس أوسلو 2 تمنع اعتقال نتنياهو؟ 6/7/2024)
- باعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو غير قانوني سواء أتعلق بوجوده أم بممارساته، هذا يستتبع بالتأكيد مسؤولية قانونية سواء على مستوى «إسرائيل كدولة»، وتتمثل بالتعويض واستعادة الأوضاع التي كانت قائمة قبل ارتكاب الفعل غير المشروع، وكذلك تترتب مسؤولية الجناية الفردية على مرتكبي الفعل غير المشروع.
•بموجب الرأي الاستشاري، فإن جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الحالة الناشئة عن الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة. كما أنها ملزمة بعدم تقديم العون أو المساعدة في الإبقاء على الوضع الناشئ عن الوجود الإسرائيلي غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة. وعلى جميع الدول، مع احترامها لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، أن تكفل وضع حد لأي عائق ينجم عن الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة أمام ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير. وبالإضافة إلى ذلك، يقع على عاتق جميع الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة، مع احترامها لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، التزام بضمان امتثال إسرائيل للقانون الإنساني الدولي على النحو الوارد في تلك الاتفاقية. وبناء على ذلك، فإن خبراء القانون الدولي يميلون إلى الاعتقاد بأن الرأي الاستشاري سيؤدي حتماً إلى تغيير في السياسات الغربية حيال إسرائيل وسيزيد الأخيرة من عزلتها الدولية.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي