احتجاجات باريس: انتفاضة ثورية أم مجرد حراك شعبوي؟
إننا، إذاً، حيال مآلين متضادين يمكن أن تتمخض عنهما احتجاجات «السترات الصفراء»: انتفاضة ثورية كفيلة بأن تقلب الطاولة على «الاستبلشمنت» السياسي والاقتصادي (والإعلامي) المهيمن، أو منزلق شعبوي من شأنه أن يشرّع أبواب السلطة أمام التيارات القومية واليمينية المتطرفة.
خصوم «الاستبلشمنت» الفرنسي ومنتقدوه، من أقطاب التيارات الراديكالية، على أقصى اليسار وأقصى اليمين، يأملون أن يؤسّس حراك «السترات الصفراء» لانتفاضة شعبية بحجم انتفاضة مايو 1968، بما من شأنه أن يشق الطريق لإقامة جمهورية فرنسية سادسة كفيلة بإعادة تحصين مؤسسات الدولة ضد «الشطط الرئاسي» الذي نشأ مع ساركوزي وتفاقم مع ماكرون، بحيث باتت كل مراكز القرار مرتكزة في قصر الإليزيه، بيد «سوبر رئيس» بلغ به جبروت القوة أن قارن نفسه بالإله «جوبيتر» الذي كانت الأساطير الرومانية القديمة تعدّه «حاكم السماوات والأرض، وكل ما بينهما من كائنات، بمن فيهم جميع الآلهة الآخرين»!
هذا الشطط الرئاسي لم يتورع عن دوس صلاحيات جميع الهيئات التمثيلية (المنتخبة منها أو الرمزية) التي تمثل مركز ثقل وتوازن أي مجتمع أو نظام سياسي غير استبدادي، كالبرلمان والمجالس الجهوية والمحلية والنقابات ووسائل الإعلام. من هذا المنظور، تربط بين انتفاضة مايو 1968 وحراك «السترات الصفراء» أوجه مقارنة لافتة.
حين أقدمت حكومة جورج بومبيدو، في آب 1967، على سنّ حزمة من المراسيم الحكومية الهادفة إلى تعديل قوانين العمل والضمان الاجتماعي، كانت تحظى بالأغلبية في البرلمان، لكنها – نزولاً عند الرغبات المستعجلة لجمعية أرباب العمل – لم تشأ تضييع الوقت في «النقاشات البرلمانية العقيمة»، ولم تكبّد نفسها مشقة الاستماع إلى النقابات أو التفاوض معها، بل تحيّنت نهاية آب، فيما الناس على البحر، لإمرار «إصلاحاتها» عبر سلاح المراسيم الحكومية غير القابلة للنقض أو النقاش.
فما إن حلّ أيلول حتى عمّت الاحتجاجات والإضرابات البلاد. لكن الجنرال العجوز ورئيس حكومته أشاحا بوجهيهما عنها استخفافاً إلى أن تفاقمت ككرة الثلج، وأفضت إلى إعصار مايو 1968 العاصف.
بدوره، خرج نزيل «الإليزيه» الحالي فائزاً بالأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي أُقيمت بعد انتخابه رئيساً في مايو 2017. لكن «جوبيتر» المتعجل رأى، مثل بومبيدو، في النقاش البرلماني مضيعة للوقت. وإذا به يشهر، هو الآخر، سلاح المراسيم لإصلاح قوانين العمل، صامّاً أذنيه عن سلسلة طويلة من الإضرابات والاحتجاجات النقابية، غير متورع عن وصف نقابيي «المركزية العامة للعمل CGT» العريقة بـ«الإرهابيين»، ووصم عموم شعبه بـ«الكسالى ذوي الطباع المناهضة لأي إصلاح»... إلى أن فوجئ بهدير «السترات الصفراء» يصل إلى أعتاب قصره الرئاسي!
لكن الآمال الواسعة التي يضعها السواد الأعظم من الفرنسيين في حراك «السترات الصفراء» تشوبها الكثير من المنغّصات. فقد تخللت موجة الاحتجاجات، خلال الأسبوعين الماضيين، الكثير من مظاهر الشطط اللفظي والجسدي، ذي الطابع الشعبوي، المعادي لـ«النخب» الإعلامية والحزبية والنقابية. وإذا أدت جولات الاحتجاج إلى تكريس هذا التوجه في تخوين «النخب» و«الهيئات التمثيلية»، باعتبارها جزءاً من «الاستبلشمنت»، لحساب الوهم المبشّر بـ«يوتوبيا» «الديموقراطية المباشرة»، فإن «السترات الصفراء» ستقع سريعاً في الفخ الشعبوي ذاته الذي انجرّ إليه «حَمَلة شوكات المزارع» الإيطاليون، قبل خمسة أعوام.
منزلق شعبوي يُخشى أن تنسحب بموجبه، على ما يحدث الآن في موطن ديكارت، مقولة ماركس الشهيرة المحذّرة من أن التاريخ إذ يكرر نفسه يأتي في المرة الأولى تراجيدياً ليتحوّل في المرة الثانية إلى مهزلة!