كان ذلك قبل ثلاثين عام. شتاء 1994. ذات رحلة تيه، ونحن سكارى، وسط صقيع بروكسل. كنت احاول أن أسدّد خطاه نحو الفندق، وهو ينطّ بنا من حكاية إلى أخرى ومن بار إلى بار. وحين سُدت بوجهنا الحانات، عند الفجر، جلس على حافة الرصيف، ورفض أن يتحرك. وأنا أنهره بالتونسي: «قوم يا خ**، راهو c’est pas drôle». وهو، مقلّداً أغنية جاك بريل: Non Jeff, ce n’est pas drôle ثم أصرّ أن نقرأ شعراً. قلتُ: على قارعة هذا الرصيف المثلج، لن ينفعك سوى الشعر الروسي. هل تعرف ماذا قال ماياكوفسكي في وصف حالة تشبه حالتك:
تقضي الليل بأكمله
وأنت تفرك عينيك في الكونياك
ذي العين الصفراء،
حتى إذا حلّ الفجر،
وقد قفّ شعرك
وانتفش منك الريش،
بخمار فظيع في الرأس
تنقلب إلى البيت،
تهدد الحبيبة النائمة
بقتلها ورمي جثتها في البحر!
ثم أضفت، وأنا أتأبطه لارغامه على مواصلة السير:
يا رفيقي المثخن،
أيهذا الجواد المسن،
كبوة أخرى ونصل!
راقت له الفكرة. تابع السير مترنحاً، وهو يردد بفرح طفولي: كبوة أخرى ونصل! ثم التفت إليّ، وقال: عظيم فعلاً هذا الماياكوفكسي. قلت: هذه من شعري يا حمار! توقف، وحدجني بعينه السليمة، فيما شردت الأخرى نحو قارعة الرصيف: تعلم، لولا أنك بغل عدمي، كنت ستصبح بالتأكيد شاعراً كبيراً. قلت: سير، خلينا نصبحوا الأول، بعدين نشوفو بالنسبة للشعر الكبير !