لكلّ مخرج، كاتب، أو فنان عانى وتعذّب في مسيرته الإبداعية، الحقّ في لحظة مجد يتيمة قبل أن يختفي. إذا كانت السينما هي الفن الذي يتردّد فيه الإحساس بالوقت، فإنّ كلّ مهووس فيها يحارب للوصول ولإدراك الوعي الكامل باللحظة الأخيرة التي، لمَ لا، هي أيضاً البداية. هذه اللحظة ليست وعياً بالألم المرافق لولادة فيلم، هناك فارق بسيط بين النهاية في آخر الشريط، و«النهاية» النهائية، التي لا يشعر فيها إلّا الفنان نفسه. «مانك» هو وصف مبهر وممتع ومنمّق لعذاب صانع السينما. إنّه إعادة قراءة آلية السلطة في «الديمقراطيات». «مانك» (2020) عمل كبير للمخرج الأميركي ديڤيد فينشر الذي سكبَ وقوداً على النار، وجلب المزيد من الخشب في زمن الجائحة التي تضرب العالم والسينما. وقبل كلّ هذا، «مانك» هو وصف دقيق لواحدة من أكثر الجدليّات عبثية في تاريخ السينما: من كتب «المواطن كين» (1941)؟ أورسون ويلز أو هيرمان جايكوب مانكيويز؟ الفيلم الذي كان البداية للأول، والنهاية للأخير.
من كتب «المواطن كين»؟
لم يكن الظهور الأوّل للمخرج الشاب أورسون ويلز ظهوراً عادياً. كان بعبقريته الإخراجية، مناسباً للمراجعات والخلافات والمناقشات. هو الذي بدأ في هوليوود ثم سخطَ عليها وأصبح مهمّشاً فيها. أحد الخلافات التي تدور حول ويلز تتعلق بكتابة فيلم «المواطن كين». منذ إصدار الفيلم، نوقش ما إذا كان السيناريو كتبه هيرمان جايكوب مانكيويز، وما إذا كانت مساهمة ويلز يمكن اعتبارها كما يظهر في تترات الفيلم ككتابة مشاركة. وقع الجدل في أوائل السبعينيات. الناقدة بولين كايل كتبت في مجلة «نيويوركور» مقالاً كبيراً بعنوان Raising Kane، حيث حاولت إثبات أن العبقرية الحقيقية وراء الفيلم لم تكن ويلز، بل كاتب السيناريو هيرمان جايكوب مانكيويز، الذي طغت بصمة المخرج الساحقة على شخصيته.


وفقاً لها، ويلز «لم يكتب سطراً واحداً»، بل اعتمد على سيناريو ليس من كتابته، وعلى المصوّر السينمائي غريغ تولاند للحصول على الصورة المذهلة، وعلى بيرنارد هيرمان للموسيقى، ما حوّله إلى «مصاص دماء» المواهب الأخرى. ويلز ومانكيويز كلاهما كان لهما نزاع علنيّ حول الفضل في السيناريو، حتى تقاسما جائزة الأوسكار الوحيدة عن «أفضل سيناريو أصلي» حصل عليها الفيلم من بين ترشيحاته التسعة. بعد فترة على مقال كايل، ردّ الناقد والمخرج وصديق ويلز الشخصي بيتر بواغدانوڤيتش على كايل بوحشية. أورد نسخةً أخرى من الرواية وأعطى الفضل كلّه لويلز مع مساهمة صغيرة لمانكيويز. هذا الخلاف الذي بدأ مع عرض الفيلم، وصل إلى كايل وبواغدانوڤيتش، واليوم بعد حوالى ثمانين عاماً على العرض الأول و50 عاماً على مقال كايل، وصل الجدال إلينا من خلال فيلم «مانك».

هيرمان جايكوب مانكيويز وويليام راندولف هيرست
كان مانكيويز معجزة، لامعاً وساخراً. تخرّج من جامعة كولومبيا قبل عيد ميلاده التاسع عشر. واستحوذ على هوليوود. عندما وصل عام 1926، سرعان ما شقّ طريقة في صفوف شركات الإنتاج الكبيرة. أصبح رئيساً لقسم السيناريو، وانتقل في عصر الصوت ليصبح واحداً من أهمّ الكتّاب في هوليوود. أدّت غطرسة مانكيويز وإدمانه على الكحول والقمار، إلى طرده مرات عدة من استوديوهات هوليوود. ولكنّه كان يعود ويسعد بإهانة المديرين التنفيذيين ويتحدّى أي شخص لأنه كان يعرف تماماً أنّه أذكى رجل في هوليوود، أعاد كتابة وتصحيح مئات الأفلام. وكان محبوباً من قِبل أقرانه، الذين وجدوه مضحكاً وصاحب كاريزما. كان يعيش حياة مضطربة، يهاجم الجميع. كان بهلوانياً يحبّ المخاطرة وإثارة المشاكل، وخاصة المشاكل اللفظية. شرارته دائماً على وشك الاحتراق في وجهه أولاً ولكنّه لا يبالي. علاقاته مع أباطرة هوليوود أوصلته إلى ويليام راندولف هيرست، إمبراطور الصحافة في ذلك الوقت. تسلل مانك في الثلاثينيات إلى الدائرة الصغيرة لهيرست بفضل زميله تشارلز ليدرير، ابن أخ عشيقة هيرست الممثلة ماريون ديڤيس. أصبح صديقاً للممثلة، تبادل معها القيل والقال ولترات من الكحول، المادة التي كان مدمناً عليها وأغلقت شفتيه إلى الأبد في سن الخامسة والخمسين. كان مانكيويز دائم الحضور في حفلات الدائرة الاجتماعية الحصرية لقطب الصحافة. عرف كلّ شيء، عرف تجاوزات الرجل الخطيرة الخاصّة والعامّة في الصحافة وفي هوليوود، حتى طرده هيرست. أطلق مانكيويز لسانه الحادّ وقلمه للانتقام، تقيأ كل شيء ليكشف عار هيرست في سيناريو فيلم «المواطن كين».

«مانك» كلاسيكيات 2020
في ربيع عام 1940، وبعد حادث سيارة كسر هيرمان جايكوب مانكيويز «مانك» (غاري أولدمان) ساقه، ثم نقل إلى مزرعة في صحراء موهافي لكتابة سيناريو فيلم «المواطن كين» في غضون ستين يوماً. تحت عناية ممرّضة ألمانية وبمساعدة سكريتيرة بريطانية تُدعى ريتا ألكسندر (ليلي كولنز)، يكتب مانك ويتذكّر محطّات من حياته: علاقته بشقيقة جوزيف مانكيويز (توم بيلفري)، علاقته بلويس بي. ماير (أرليس هوارد) مؤسّس شركة الإنتاج «مترو غولدوين ماير»، والمنتج إيفرينغ ثالبيرغ (فيردنانت كينغسلي). الحفلات في قلعة «سانت سيميون»، قلعة ويليام راندولف هيرست (تشارلز دانس) وعلاقة الصداقة مع الممثلة ماريون ديڤيس (أماندا سيفريد).
باللونين الأبيض والأسود الضبابي، مع صوت أحادي وسرد مليء بالفلاش باك، كما فعل ويلز نفسه واستناداً إلى سيناريو كتبه الصحافي والسيناريست جاك فينشر (والد المخرج ديفيد فينشر) قبل ثلاثين عاماً، يأخذنا «مانك» إلى المخرج الأميركي ديڤيد فينشر، في رحلة مبنيّة على هيكل سرديّ يتنقل ذهاباً وإياباً بين الحاضر والماضي. شريط مهذب وثمين، وفي الوقت نفسه خادع، إلى درجة أنّ قصة كتابة سيناريو فيلم «المواطن كين» لا يمكن اعتبارها أكثر من عملية احتيال على المشاهد أو أداة إلهاء بسيطة استخدمها فينشر لمعالجة الموضوع الحقيقي للفيلم: صورة صارخة تدمّر الصورة المثالية لهوليوود الثلاثينيات. يتحوّل الفيلم من خلالها إلى فيلم «نوار» مقدّماً أفضل سلاح له: النظرة الساخرة والواضحة التي يرى فيها مانكيويز هوليوود. مانك كان يسارياً، ساخراً جدّاً لا يؤمن بالثورات. يفضّل الشرب، والتجول في حفلات وقصور، والسخرية لفظياً من ماسكي زمام الأمور في هوليوود.
مثلما أنّ «المواطن كين» جعل السينما تدخل مرحلة البلوغ، والتفكّك من اللغة الكلاسيكية، ففينشر هنا يعيد صياغة السينما ويُبعدها عن حداثتها. يفجّر الرموز السردية للسينما الكلاسيكية ويعيد الظلال من جديد. يعيد نسج القصة نفسها من وجهة نظر معاكسة، أو أشدّ ظلاماً. إذا كانت قصة كين هي قصة أقوى الرجال وغطرستهم في مواجهة القوة الإعلامية المسيطرة التي صنعها بنفسه، فإنّ قصة مانك هي قصة أصغر البشر الذين يحاربون هذه القوة التي تحكم عليه بالاختفاء. فينشر لا يحرم نفسه أيّ شيء. وفي هذه المتاهة التأمّلية، فإنّ النقد القاسي نفسه الذي وجهه ويلز في عام 1941 إلى وسائل الإعلام بشكل خاص والرأسمالية بشكل عام، يوجّهها فينشر إلى ما يحدث الآن. ولقدرة السينما على تعديل الواقع نفسه، يقدّم فينشر شيئاً أكثر من مجرد تعليق اجتماعي. فيلم كأحجية، يعيد بناء القطع المكسورة لتلك المرآة الغريبة التي كانت هوليوود تقف خلفها لفترة طويلة.
إذا كان فيلم ويلز انتقاداً شديداً لهيرست وعالم امتياز وسائل الإعلام والسيطرة التي تمارسها، ففيلم فينشر عن مانكيويز ينتقد بصوت أعلى. أمضى فينشر نصف الفيلم تقريباً ينتقد الجانب المظلم والرأسمالي من هوليوود، بخاصة عندما أوضح كيف جعلت وسائل إعلام هيرست الكاتب الاشتراكي إبتاون سنكلير يخسر انتخابات حاكم ولاية كاليفورنيا في عام 1934 من خلال آليات مشكوك فيها أخلاقياً يمكن مقارنتها بما نسمّيه اليوم الأخبار الزائفة.
«مانك» فيلم عن الأحشاء، عما وراء الكواليس.
يفجّر فينشر الرموز السرديّة للسينما الكلاسيكيّة ويعيد الظلال من جديد

هو تكريم سمعيّ بصريّ، لطريقة صنع أفلام اختفت إلى الأبد. إنّه انعكاس للسينما التي تتطلّب تعاوناً بين العديد من الأطراف ولكن يجب أيضاً أن تتعامل مع غرور كلّ المعنيين. على الرغم من أنّه يُروى بطريقة يسهل الوصول إليها إلى حدّ ما، إلّا أنّ المشاهد الذي يتمتّع بخلفية معرفية ليس فقط بتاريخ هوليوود، ولكن أيضاً بأنماط التمثيل السينمائي في ذلك الوقت، سوف يستمتع أكثر. في النصف ساعة الأولى وحدها، يحتوي الفيلم على ملصقات وعبارات وجمل قصيرة في الحوار تشير إلى ما لا يقلّ عن عشرة أفلام من بدايات الأفلام الناطقة. يخاطب ديفيد فينشر محبّي السينما بشكل أساسي، صانعاً تحفة للسينفيليين. «مانك» هو لوحة أخلاقية لهوليوود الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، اللمسة العاطفية والحنين إلى الماضي يناسبان فينشر وغاري أولدمان تماماً. الأخير أظهر شخصية مانك بطريقة أصيلة، مجسّداً شخصاً غامضاً لا يظهر كثيراً للعامة، حتى جائزة الأوسكار لم يتسلّمها في الحفل لأنه لم يذهب. أولدمان قدم مانك بحزنه وغضبه وسخريته وبدوافعه الإنسانية. أداء حاد مثل الحوارات التي تجري بين دخان السجائر وكؤوس الويسكي. أولدمان غالباً في حالة سكر واستثنائي دائماً، ولكنه ترك شيئاً غامضاً وخفياً عن الشخصية، بحيث تركنا نتوق لمعرفة المزيد عنه.
فطنة سينمائية تحتضن الروعة اللاذعة والبراعة المتميزة للحوارات. فيلم يقدّر كتّاب السيناريو، هؤلاء الفنانين الذين تسقطهم صناعة السينما. ولادة جديدة لمقال بولين كايل. وثيقة تاريخية لا تزعزع بأيّ شكل من الأشكال أهمية أورسون ويلز في تاريخ السينما. هدية قدمها لنا ديفيد فينشر في موسم الأعياد، والأهم هدية لموسم الجوائز باستحقاق. في النهاية، سرّ الفيلم مكشوف، والجوائز تعشق شيئاً واحداً أكثر من أيّ شيء آخر: أفلام عن صناعة السينما.

* Mank على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا