لم تكن 2019 عادية، بل كانت من أهم السنوات أو على الأقل أفضل من السنوات السابقة بالنسبة إلى الفن السابع. كانت سنة جميلة «سينمائياً»، مليئة بالأعمال الرائعة. وليمة للنظر والسمع والمشاعر. كلّ دورة سينمائية جديدة تقدّم للعالم عامةً، والسينفيليين خاصة، رحلة فريدة مدّتها 12 شهراً مليئة بالمهرجانات، والعصبية والتوقعات والمفاجآت الكبيرة السارة، لكن أيضاً خيبات الأمل التي لا مفر منها.حال اختتام النصف الأول من 2019، أي بعد انتهاء أهم مهرجانين عالميين هما «برلين» و«كان» (أيضاً لا يمكننا إغفال «صاندانس» الذي يُعتبر من أهم المهرجانات وأكبرها في أميركا، وهو القاعدة الأساس ونقطة انطلاق وعرض الأفلام المستقلّة سواء في الولايات المتّحدة أو باقي العالم)، يمكننا بالفعل تحديد مجموعة مختارة تصبح أفضل أفلام العام. يأتي النصف الثاني من السنة مع مهرجانات كبيرة مثل «كارلوفي فاري» في تشيكيا و«البندقية» في إيطاليا الذي يُعتبر الباب الأول لموسم الجوائز. ثم هناك موسم الأعياد حيث شركات الإنتاج في هوليوود تقدّم أفضل ما عندها من أفلام تباعاً لغاية بدء موسم الجوائز الذي ينطلق أواخر السنة، ويكمل مع جوائز الغولدن غلوب وصولاً إلى ليلة جوائز الأوسكار (10 شباط/ فبراير 2020).
دورة 2019 السينمائية منحتنا مجموعة كبيرة من الأعمال الدرامية والوثائقية والكوميدية والإثارة والمغامرات. كان هناك فيلم للجميع على الشاشة الكبيرة. حتى منصات البث (نتفليكس وأخواتها) تتنافس الآن بقوة. بدءاً من اليوم لغاية ليلة جوائز الأوسكار، سنستعيد معاً أفضل الأعمال لعام 2019. بعض الأفلام المنافسة في موسم الجوائز كتبنا عنها خلال عرضها الأول في المهرجانات، وبعضها الآخر لم نكتب عنه. من خلال هذه السلسلة، سنكتب عن أهم الأفلام التي عُرضت في المهرجانات، وننتظر عرضها في الصالات اللبنانية في الأسابيع المقبلة. هكذا، نصل إلى ليلة الأوسكار وقد كتبنا عن أفضل أفلام 2019، لنبدأ بعدها بالموسم السينمائي الجديد مع «مهرجان برلين» في دورته السبعين.

«طفيلي» ــــ بونغ جون هو (كوريا الجنوبية)
الفقراء يريدون أن يصبحوا أغنياء. الأغنياء لا يريدون أن يفقدوا مكانتهم الاجتماعية. الفقراء في حالة حرب مع الفقراء. الأغنياء في حالة حرب مع الأغنياء. «طفيلي» للكوري بونغ جون هو يعمل على هذه الخيوط، يقدّم قصة من طبقات عدة. يتكلّم عن تقاسم الهوية المستحيل في الفراغ المكاني لعوالم متباعدة جغرافياً ومتناقضة نفسياً. هنا، لا يحدث صراع بين جنسين أو صراع على حسابات مصرفية ولا على الانتماء، انتماء إلى بلد أو عقيدة أو شعور. «طفيلي» يخلط البطاقات الاجتماعية ويلاحظ كارثيتها، والنتيجة انهيار البشر في نظام رأسمالي يقسم المجتمع ما بين ثري وفقير وفوق وتحت. يخبرنا أنّ هذا النظام يدمّر النوايا والطموحات والمبادئ.

يستعرض «طفيلي» للكوري بونغ جون الصراع الطبقي بذكاء وذوق ساخر

نحن في العالم الحقيقي، وفي الوسط قصة عائلتين. واحدة يائسة وبائسة تعيش في قبو في أحد أحياء المدينة الفقيرة. يمتلك أفراد عائلة تي-كايك تاريخاً طويلاً من الإخفاقات الشخصية والمهنية، لكنهم يصارعون للبقاء بفضل فنّ التطفل، يعيشون كطفيليات على كلّ شيء ويتطلّعون إلى حياة أخرى، ولا يورّطون أنفسهم في محاولة الحصول عليها بطريقة طبيعية. الأسرة الثانية، هي أسرة بارك. نموذج مثالي لعائلة عصرية تنتمي إلى النخبة الحصرية الجميلة والثرية، لكنها أيضاً ساذجة. تقوم عائلة تي-كايك بخداع أسرة بارك والتلاعب بها كي تعمل في خدمتها.
«طفيلي» هو نافذة صغيرة تطلّ على زقاق يستعمله السكارى للتبول، ونافذة أخرى كبيرة تطلّ على حديقة ستكون شاهدة على انفجار درامي أخير، ومكاناً لذاكرة مريرة. في الداخل ووراء الأبواب ووراء هاتين النافذتين على العالم، هناك فقراء يتطلّعون إلى ارتداء ملابس الإمبراطور، وأثرياء يميّزون رائحتهم. يستعرض «طفيلي» النضال والصراع الطبقي بذكاء وذوق ساخر. ينقلنا المخرج من نوع سينمائي إلى آخر برشاقة، ومن القصة الرئيسية إلى فروعها بخفة، من دون أن يفقد فيلمه الإيقاع والتماسك. عمل كامل لا تشوبه شائبة، بدءاً من السيناريو والتكوين الهندسي للمشاهد إلى اللقطات وموسيقى بطعم البوب.
بنى بونغ جون هو فيلمه من خلال تقديم الواقع وتشويهه في الوقت نفسه. اعتمد على التشريح الدقيق للواقع الرأسمالي والفجوة بين الطبقات الاجتماعية، في توازن مثالي بين الكوميديا السوداء والدراما الاجتماعية والإثارة. إنها كوميديا دانتي، ولكن بإنسانية معاصرة.

- «طفيلي»: في الصالات بدءاً من 16 كانون الثاني (يناير) الحالي

«البؤساء» لادج لي (فرنسا)
«البؤساء» هو عنوان الرواية الشهيرة التي كتبها فيكتور هوغو عام 1962. ونظراً إلى كونها أحد أهم أعمال القرن التاسع عشر، قدّمها المخرجون مراراً في السينما في مناسبات كثيرة. لكن هذه المرة يعتبر العنوان مصدر إلهام لأحد أهم أفلام الموسم. الفيلم هو باكورة المخرج الفرنسي من أصول مالية. «البؤساء» قصة «بوليسية» مثيرة تجري في ضواحي باريس، وبالتحديد في مونفرماي (سين سان دوني) شرق العاصمة الفرنسية حيث تدور أحداث رواية هوغو. دعونا لا ننخدع بتلك البداية، حيث الفرنسيون يحتفلون ـــ كجسد واحد ــــ بمنتخبهم الوطني تحت العلم بجانب قوس النصر. عندما تنتهي الاحتفالات، نعود إلى الواقع. والواقع هو أن الفرنسي في الدائرة السابعة هو غير الفرنسي من مونفرماي بغضّ النظر عن قوة الحدث الرياضي الذي يجعلهما يعتقدان عكس ذلك. مونفرماي هي ضاحية باريسية هامشية تربى فيها المخرج ويعرفها جيداً. ومثل العديد من ضواحي المدن الكبرى، لديها قوانينها الخاصة نتيجة طابعها المليء بالتوترات التي يتقاطع فيها العديد من العوامل.

«البؤساء» قصة «بوليسية» مثيرة تجري في ضواحي باريس

ولأن المجتمع يحتاج إلى نظام، ولأنّ الدولة تهمل هذه الأماكن ولا تدير أحزمة البؤس بشكل صحيح، فإنّ العصابات المنظّمة تتصارع من أجل الهيمنة على المجال العام الهائج، إما عن طريق رشوة الشرطة أو الإكراه أو الإتجار بالمواد غير القانونية أو بتلقين الدين بطريقة غير صحيحة... وكل هذا يؤثر على السكان، وخاصة الصغار. «البؤساء» فيلم كورالي يمثّل فيه الحي بكامله، مقتبس عن قصة حقيقية حدثت سابقاً هناك. إنها قصة الحي مع الشرطة أو بالأحرى مع ثلاثة من أفرادها. قصة يوم واحد وأكثر بقليل لثلاثة شرطيين وحي كامل. ستيفان الذي ينضم إلى لواء مكافحة الجريمة في مونفرماي، يراقب خلال يومه الأول قصصاً جديدة عليه ويحتجّ عليها، بعكس شريكيه كريس وغوادا المخضرمين اللذين يستخدمان القانون لحماية نفسيهما من المنظمات الإجرامية لا القضاء عليها. لادج لي يختار وجهة نظر غريبة عن الحي (ستيفان)، وهي أسهل طريقة لقيادة المُشاهد من أجل فهم قصة معقدة وصعبة عن مكان معاد وخطير. والنتيجة فيلم إثارة عن واقع أسود في عصرنا، في منطقة بائسة متوترة وغاضبة وعنيفة. واقع متشنّج لا يحتاج إلّا إلى شرارة لإشعال فتيل التمرّد.
يقدم المخرج، الذي يعرف بلا شك ما يتكلم عنه، قصة غير جديدة في السينما الفرنسية، لكن بقوة كبيرة. قوة تأتي في النصف الثاني من الفيلم. من المثير للاهتمام أنّ كاميرا لادج لي المحمولة باليد تتحرّك في الحي كمراقب، ما يخلق وضوحاً جغرافياً لا يبدو أبداً مربكاً ولكنه واقعي ووثائقي تقريباً.
جميلة هي الطريقة التي يخبرنا بها المخرج كلّ شيء. لا تقييم للجيد والسيئ فيها، لا تقييم اجتماعياً ولا إدانة ولا فداء ولا جريمة ولا عقاب ولا حكم. يخبرنا القصة عن الطريقة التي يعمل بها العالم. الفيلم ليس زائفاً، ولادج لي ليس مخرجاً جباناً، لديه الجرأة ليخبرنا بكلّ شيء. في النهاية وباختصار «C›est la vie» (هذه هي الحياة).

- «البؤساء»: في الصالات بدءاً من 30 كانون الثاني (يناير) الحالي

«ألم ومجد» ــــ بيدرو ألمودوفار (إسبانيا)
لم يرغب بيدرو ألمودوفار ـ بصفته أحد أهم وأشهر صنّاع الأفلام في العالم ــــ في كتابة سيرة ذاتية، والنظر في حياته الخاصة والعملية. لقد قدّم فيلماً على شكل سيرة ذاتية، وهي طريقة أكثر منطقية لشخص مجنون بالسينما يعاني من صداع مزمن، ويدّعي أن أفضل طريقة لقمع الصداع هي صناعة الأفلام! شريط يبدو كأنه وداع بطيء، فالمخرج العظيم البالغ 70 عاماً، فقد زخمه في أفلامه الأخيرة. أزمة كانت متوقعة. لكن مع «ألم ومجد»، عاد بقوة إلى السينما، ولو بطريقة أكثر هدوءاً. يمكن رؤية مقدار اشتياقنا لسينما بيدرو الأصيلة منذ الثانية الأولى من الفيلم، الذي يلعب فيه زميله الممثل أنطونيو بانديراس شخصية المخرج نفسه. في هذه الدراما الحزينة، لا يكشف ألمودوفار الكثير عن نفسه فحسب، بل يعالج أيضاً بلا كلل قضاياه الحياتية الأساسية. «ألم ومجد» انعكاس ذكي للمخرج، نشعر أنه بعيد قليلاً في البداية، لكن يصبح أكثر حميمية مع كل دقيقة تمرّ، حتى تظهر صورة واضحة لمخرج الأفلام سلفادور مالو (أنطونيو بانديراس). الشعر الرمادي الكامل، الملابس الملونة، حبه للسينما، حتى الشقة التي يعيش فيها، مصممة على غرار حياة ألمودوفار. يدخل أحد الزائرين شقة مالو للمرة الأولى، ويرى اللوحات الضخمة والمزهريات والأزهار الملونة، فيقول إنّها «مثل المتحف». سلفادور مالو مخرج كبر في العمر يعاني مشاكل جسدية: الندبة الطويلة على طول العامود الفقري، صداع نصفي، صداع عنقودي، صعوبة في البلع، اضطرابات في النوم. لهذه الأسباب لم يعد بإمكانه العمل، كما يقول، ويقبع في شقته. بصيص أمل على شكل ترميم فيلمه «نكهة» وإعادة عرضه، يقود سلفادور في رحلة إلى الماضي، حين يزور ممثله الرئيسي في الفيلم ألبرتو. إنّها المرة الأولى التي يقتل فيها سلفادور ألم الرأس والظهر، عبر أخذه في رحلة أعمق إلى ماضيه وصحوته الجنسية المثلية، والكاثوليكية الصارمة في طفولته، والتحرش الجنسي من قبل الكهنة، وشخصية الأم البارزة والحياة في مدريد، وألم انتهاء العلاقات، واكتشاف السينما. ولكن الماضي لا يأتي فقط على شكل أحلام أو ذكريات، بل على شكل أشخاص حقيقيين ما زالوا موجودين يقابلهم. ألمودوفار يتذكّر كلّ شيء تقريباً، يقدّم فيلمه عن ذكريات عاشها وحياة لم يعشها. عندما يتذكر والدته، فإنها تبدو كديفا تغسل الملابس في النهر. عندما يكتشف جمال جسد الرجل للمرة الأولى كصبي صغير، يغمى عليه. إنها ذكريات حميمة لم يبخل علينا بها ألمودوفار. وبالطبع قد تكون بعض الذكريات حزينة، لكن يتم امتصاصها دائماً من قبل جمال الصورة.
شيئاً فشيئاً وبالتناوب بين الحاضر والماضي المتمثل في الستينيات والثمانينيات، تتم إعادة جمع حياة سلفادور. إنها قبل أي شيء لحظات حب وعاطفة سواء للأم أو للسينما أو للأصدقاء القدامى أو لغيرهم من الرجال الذين عادوا للحظات في الفيلم الذي كان يمكن أن ينجرف بسهولة إلى الميلودراما والدموع. ولكن ألمودوفار يعرف كيف يوازن شريطه تماماً. مع كلّ الحزن والكآبة والحب، تبقى في المقدمة إرادة الحياة. بهذه الطريقة يرتبط الحاضر والماضي عاطفياً، ويتم تجميع اللغز في شخصية سلفادور أكثر فأكثر. كلما طال أمد الفيلم، كلما زاد تعاطفنا مع هذا النجم المتعثر الذي يريد العودة إلى قديمه. هو لديه مراوغاته، جنون عظمته، متعجرف بعض الشيء ولكن سلفادور لا يغرق في الشفقة على نفسه. يتيح لنا الفيلم الانغماس في الماضي. لا تزال الألوان زاهية ومجنونة، والنظرات فيها شيء من الاشتهاء، والعناق يكاد يكون عدوانياً، والأذرع تلتف حول الجسم بحماس، والقبلات لا تزال طويلة وعميقة، فيها الكثير من التنهدات والرغبة.
رحلة عميقة في ماضي ألمودوفار وصحوته المثلية، والتحرش الجنسي من قبل الكهنة، وشخصية الأم البارزة والحياة في مدريد، واكتشاف السينما


«ألم ومجد» أجمل أعمال ألمودوفار منذ «فولفر». فيلم شخصي جداً... حزين، متناقض أحياناً، ولكنه في نهاية المطاف انعكاس ذاتي لقلب مخرج يؤمن بالناس على الرغم من كلّ الألم والنكسات. بيدرو يفضح نفسه من خلال الخيال الذاتي والصراحة. نظرة جديدة على الماضي («العيون تتغير لا الأفلام») مع لمحات من الغد الذي يبدو أفضل.
مع كل الموضوعات المهمة والخاصة والتقنيات السردية التي يشبكها ألمودوفار في فيلمه ـ وعلى الرغم من الحزن والألم ـ إلا أن «ألم ومجد» فيه شيء من الدعابة والعبثية والكوميديا بطريقة مريحة وممتعة. عندما يواجه سلفادور مالو صعوبات في البلع، يسأله الطبيب قبل إجراء العملية بفترة وجيزة عما سيكون فيلمه القادم «دراما أو كوميديا؟»، «يمكنك أن تعرف فقط في...» يقول مالو ثم يقوم المخدر بعمله.
متى يمكننا الحكم على فيلم أو مهنة أو حياة؟ بالطبع فقط في النهاية. من خلال عدم الإجابة عن السؤال، يشير ألمودوفار إلى أن النهاية بعيدة، وأنّه أبعد ما يكون عنها. «يمكنك أن تعرف فقط في النهاية» جملة ذكية تحدد تماماً المعاناة والألم والمجد، وكيف أن النهاية تحدد كل شيء. لا تزال رحلة 2019 السينمائية طويلة، وكثيرة هي الأفلام التي سنتوقف عندها تباعاً في المقالات اللاحقة.



جوائز وترشيحات
• «طفيلي» حاز السعفة الذهبية في «مهرجان كان» 2019، رُشِّح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في الغولدن غلوب، وصل إلى المرحلة ما قبل النهائية لترشيحات الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، وينطلق عرضه في لبنان في 16 الشهر الجاري
• «البؤساء» حاز جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان كان» 2019، رُشح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في الغولدن غلوب، وصل إلى المرحلة ما قبل النهائية لترشيحات الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، وينطلق عرضه في لبنان في 30 الشهر الجاري
• «ألم ومجد» نال جائزة أفضل ممثل لأنطونيو بانديراس في «مهرجان كانّ» 2019، رُشِّح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في الغولدن غلوب، وصل إلى المرحلة ما قبل النهائية لترشيحات الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.