أميركا أوّلاً!


يطالعنا كل يوم جديد، بما كنّا نتوقّع أو لا نتوقّع، من التصعيد والعنف والدمار والقتل، في استهدافات تتوسّع وتتفاقم باستمرار كمّاً ونوعاً. هذا الأمر الذي يبرز عبر الأدوات والأساليب والوتائر، ليس هو، على هذا النحو، لجهة المضمون والجوهر والسياق الإستراتيجي. هو تبدل لا يتناول، إذاً، الأهداف الرئيسية. هذا طبعاً ينطبق على الطرف الدولي والإقليمي المعني أكثر من سواه بالصراع حول القضية الفلسطينية.

عنينا، حصراً، الولايات المتحدة الأميركية، والكيان الصهيوني المغتصب والمستأنف لمشروع توسعي استيطاني استعماري بعنوان توراتي هو «إسرائيل الكبرى». يستهدف هذا المشروع معظم الشرق العربي. يطاول أيضاً، الشرق الأوسط، عندما يتعلّق الأمر بالمخطط الأميركي الذي يعمل في كنفه المشروع الصهيوني: بدءاً من احتلال فلسطين وتشريد شعبها ومطاردته المستمرين، بالموت والدمار، وصولاً إلى إعلان نتنياهو عن فرض إعادة رسم خرائط المنطقة لمصلحة تل أبيب وداعميها.

ليس هذا الأمر جديدأً أو طارئاً. إنه حلقة في مسار ممتد، في مرحلته المعاصرة، منذ محطة التحول الدولي الانعطافي الأساسية، التي نجمت، ابتداءً من أوائل تسعينيات القرن الماضي، عن انهيار الاتحاد السوفياتي. في استرجاع سريع، أن موسكو السوفياتية، وبعد خطأ أو تواطؤ تمثّل في الاعتراف المفاجئ والمبكِّر بالكيان الصهيوني عام 1948، تحوّلت، تباعاً، إلى دعم مبدئي وعملي شامل لحركات التحرّر والمقاومة على امتداد العالم.

شمل ذلك الوضع الفلسطيني خصوصاً بعد نكسة عام 1967 التي أدّت إلى تعميق علاقة الاتحاد السوفياتي بمصر وسوريا وعدد آخر من الدول العربية، وإلى اعتراف موسكو بمنظمة التحرير الفلسطينية ودعمتها في مواجهة عدوانية توسُّعية صهيونية مدعومة من واشنطن والغرب في مرحلة احتدام «الحرب الباردة» التي استمرت حتى المرحلة الغورباتشوفية التي سبقت الانهيار ومهَّدت له.

إثر الانهيار السوفياتي، أعلنت واشنطن، بلسان منظري نظامها، وبلسان قادتها، انتصارها وانتصار نظامها النهائي والحاسم. كذلك فعل قادة العدو الصهيوني مستنتجين أن انتصار حلفائهم في العالم، هو انتصار مماثل لمشروعهم في فلسطين والمنطقة العربية، وحتى الشرق أوسطية.

مذّاك، ينمو التطرف في كيان العدو. ينمو، بوتيرة أوسع وأسرع، التيار الصهيوني اليميني المتشدد، والديني الصهيوني الفاشي والعنصري. شكّل نتنياهو، في مواقفه وكتاباته، أكبر رمز لهذا التيار. وهو، لهذا، حظي بأطول ولاية رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني. في الانتخابات الأخيرة، تمكّن التيار الديني الفاشي من حصد نسبة وازنة، ما جعله شريكاً أساسياً وبيضة قبان في الحكومة الحالية.

التحوّل الثاني المهمّ حصل مع إطلاق الرئيس ترامب، أثناء ولايته الأُولى (2016-2020)، مشروع «صفقة القرن». اقترن المشروع بدينامية هجومية في مسألتي الضغط لإطلاق مسار تطبيعي رسمي عربي مع العدو، وتجاوز الشرعية الدولية والموقف الأميركي نفسه، لجهة اعتراف واشنطن بضم القدس والجولان السوري المحتل وبيهودية الدولة وبطابعها العنصري. يتجدد هذا المشروع الآن، بعد تجديد انتخاب ترامب، بصيغة أكثر عدوانية وعنفاً. يتجلّى ذلك في إطلاق التهديدات والإنذارات وحرق المراحل.

يتجلّى، أيضاً، في دخول ترامب مباشرة على ملف المفاوضات وإلغاء مساراتها ونتائجها السابقة ومحاولة فرض بديل هو عبارة عن إملاءات وأوامر صادرة عن حاكم بأمره في هذا العالم، أو هكذا يريد أن يكون لتصبح «أميركا عظيمة» في عهده! يتجلّى كذلك في اللجوء إلى القوة كما يحصل في اليمن، وبالإنذارت باستخدامها كما بالنسبة إلى إيران.
ادّعى ترامب أنه يضع في رأس اهتماماته إنهاء الحروب والنزاعات. هذا زعم كاذب. إنه، بعقلية المقاول، يحاول التخلص من الحروب التي فشلت فيها دولته بعد أن حرّضت عليها وباتت شديدة التكلفة كالحرب الروسية – الأوكرانية.

لكنه، في المقابل، يستمثر في العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني لضمان انتصاره وتوسّعه وفرض إدماجه في المنطقة، بالتطبيع، قوياً بين ضعفاء وتابعين. لهذا الغرض أطلق ترامب مشروع تهجير غزة والضفة الغربية. أطلق أيضاً التهديد بـ«الجحيم» ضد المقاومة في غزة ما لم تطلق الأسرى فوراً، ما سمح للحكومة الفاشية في تل أبيب بلملمة خلافاتها وبتقويض اتفاق التبادل. إنّ ممثّل ترامب هو مَن أطلق صافرة الهجوم الدموي الإرهابي صباح الثلاثاء الماضي ما أسفر فوراً عن سقوط حوالى 1000 قتيل وجريح... ويستمر!

أمّا لبنان، فله «حصّته» الخاصّة. جهدت واشنطن، وفي تناغم بين الإدارتين الأميركية القديمة والجديدة، لتحويل العدوان الإسرائيلي على لبنان إلى حرب تخاض على جبهتي الحدود والداخل اللبناني، في الوقت نفسه. إنها تتواصل الآن كمعركة فرض وصاية على لبنان رغم أن نفوذ واشنطن فيه كان، دائماً، راجحاً وحاسماً في الكثير من المجالات والحقول. حققت واشنطن نقاطاً أساسية لمصلحتها، ولمصلحة العدو الصهيوني، في مجمل المسار الأمني والعسكري والسياسي حتى الآن.

وهي تواصل استهداف المقاومة بالحصار المادي والسياسي والأمني فضلاً عن تحويل وقف إطلاق النار، بإشرافها، إلى عملية من طرف واحد حيث يواصل العدو خروقاته الفادحة والفاضحة التي تجاوزت الأربعة آلاف موزعةً ما بين القضم والتدمير والاغتيالات ومنع العودة والإعمار وتثبيت احتلال خمسة محاور هي بمنزلة منطقة محتلة عازلة. أمّا الهدف المعلن، وبوقاحة نادرة، فيتمثّل في محاولة تصفية المقاومة ومباشرة تطبيع العلاقات مع العدو وفقاً لشروطه وشروط واشنطن الاستسلامية.

يتّصل بذلك، ويشكّل المنعطف الثالث الخطير أيضاً، الانقلاب السوري الذي حمل إلى السلطة في دمشق فريقاً يُنفذ الأجندة الأميركية الإسرائيلية بواجهة تركية. وهو لم يتأخّر في تنفيذ الشق المنوط به: الاستسلام أمام العدو، واستهداف المقاومة ولبنان، بقوة السلاح أو الفتنة.

رغم صمت المجتمع الدولي، رغم تخاذل الأنظمة العربية وتواطئها المزمن إلى درجة الإدمان، رغم الإرهاب والتدمير والهمجية والمجازر، رغم تهديدات ترامب ومطالبة ممثليه للمقاومين بالاستسلام، فقضية فلسطين ومقاومة وتضحيات شعبها حاضرة، اليوم، في ضمائر كل أحرار العالم: قضية عدالة، وحرّية، وإنسانية، وبطولات مدهشة ستظل تلهم كل المناضلين ضد قوى الاحتلال والإجرام والهمجية والقتل والإرهاب.
* كاتب وسياسي لبناني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي