في أن السلاح هو ضمانة التحرير
في غير مكان، تبدو إحدى القوى السياسية وكأنها ليست معنية أو مهتمة، بخروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان. بل هي تكاد تجاهر، في المرحلة الأخيرة، برغبتها في بقاء الاحتلال وتعزيزه، من أجل الاستقواء به في صراع داخلي تتقدّم موجباته، في نظرها، على كل ما عداها، بما في ذلك المصالح الوطنية البديهية: في تحرير الأرض، وممارسة السيادة الكاملة عليها! هذه القوة ذات تاريخ حافل بالتعاون مع العدو وباستدعائه من أجل الدفاع عن السلطة، أو من أجل امتلاكها. هذا ليس اتهاماً، إنه وقائع تكررت، بشكل متفاوت على امتداد مراحل متعددة.
الذروة حصلت في صيف عام 1982 حين اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان ونصّبت بشير الجميل، مؤسس «القوات اللبنانية» وقائدها آنذاك، رئيساً للجمهورية، ثم، بعد اغتياله، أخاه أمين رئيساً بديلاً. إثر ذاك، تمّ توقيع اتفاق 17 أيار (1983) الذي جعل من لبنان شبه محمية إسرائيلية. وهو اتفاق سقط بعد أقل من عام، في 5 آذار عام 1984 نتيجة حركة احتجاج ومقاومة، أدّت، أيضاً، إلى فرض انسحاب كبير على العدو حتى «الشريط الحدودي» أواسط عام 1985.
«القوات اللبنانية» ليست وحيدة في تبني هذا الموقف. هي تتقدّم مجموعة من القوى والأحزاب والشخصيات السياسية والمواقع الدينية. هؤلاء، حاولوا دائماً معارضة وجود ودور السلاح، حتى أثناء نشاط المقاومة لتحرير المناطق اللبنانية المحتلة منذ عام 1978. تكرّر هذا الموقف في أيلول الماضي وقبله، خصوصاً حين بدأ جيش العدو الإسرائيلي محاولة تقدم ضخمة داخل الجنوب اللبناني. ألحُوا على مصادرة سلاح المقاومة. وصفوا وظيفته بأنها داخلية وإيرانية. رفعوا شعار «الحياد». روّجوا سابقاً ويروّجون الآن للوهم القائل إن الديبلوماسية هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض اللبنانية المحتلة! هذه القوى لا تقبل حتى مجرّد النقاش في ما يمكن أن يكون لهذا السلاح من دور إيجابي ضاغط في فرض الانسحاب على العدو!
هذا الخلل مهم وخطير، ولكنه ليس الأهم، ولا الأخطر، على مستوى السياسة اللبنانية العامة. الأهم والأخطر هو محاولة إحداث تغيير أساسي في موقف السلطة اللبنانية، خصوصاً في هذه المرحلة، بشأن مسألة دور المقاومة وسلاحها الموجّه ضد العدو الإسرائيلي. هذا العدو يواصل عدوانه وتوسّعه داخل لبنان، منذ ورغم اتفاق وقف إطلاق النار، بتخطيط ودعم من قبل «الوسيط» الأميركي! في الأثناء تتواصل وتتكثّف محاولات واشنطن لفرض تغيير جوهري في موقف السلطة حيال المقاومة وشرعية السلاح ما دامت السلطة عاجزة عن الدفاع عن الأرض وسيادة الدولة.
الجيوش هي احتياطي تقليدي أساسي في الإستراتيجية الأميركية لتغيير الأنظمة والسياسات، أو لاحتواء المتغيرات غير المقبولة وغير المتوقّعة أميركياً. ليس سرّياً، ولا خافياً (إلا على دعاة «السيادة») سعي واشنطن إلى التأثير على مؤسسة الجيش اللبناني. تمَّ، لهذا الغرض، استغلال الأزمة الاقتصادية وانعكاسها السلبي المؤثر عليه... كثرت الوفود والزيارات واللقاءات والتحضيرات والمساعدات... في امتداد ذلك كان حسم القرار بشأن اختيار قائد الجيش، جوزيف عون، رئيساً للجمهورية اللبنانية، والقاضي نواف سلام وتشكيلته الوزارية.
الهدف أكثر من واضح: مواكبة الضغط العسكري الإسرائيلي وتوظيفه بغرض إحداث تغيير كبير في موقف السلطة السياسية من موضوع سلاح المقاومة حتى في ظل التوسع الإسرائيلي المتفاقم!
في مستلزمات نجاح الخطة الأميركية، وهي تتبلور، سريعاً أيضاً، كخطة وصاية على لبنان، أن يتكامل موقف السلطة الجديدة مع مواقف «القوات» وحلفائها المعادين للمقاومة ضد العدو، في انبثاق تيار سياسي كبير وأكثري في الانتخابات النيابية القادمة في أيار المقبل... يتصل بذلك عدد من العناوين المهمة في المجالات العسكرية: إخلاء الجيش مواقعه فور بداية التقدم الإسرائيلي في أيلول الماضي. بناء مواقع ثابتة للعدو ضمن الأراضي اللبنانية. منع وحدات الجيش اللبناني من الانتشار إلا بشروط العدو المدعوم دائماً من واشنطن.
الحرص على رسم صورة انتصار للعدو وهزيمة للمقاومة عبر منع العودة واستهداف المدنيين وتنفيذ عمليات إرهاب وتدمير واغتيالات معلنة في معظم المناطق اللبنانية. تحليق الطيران المسيّر فوق العاصمة وسواها يومياً... يتصل بذلك أيضاً إحكام حصار على المقاومة لقطع المساعدات الإيرانية خصوصاً. استثمار الانقلاب في سوريا لهذا الغرض.
ربط إعادة الإعمار والمساعدات من قبل الجهات المانحة التي تسير في الفلك الأميركي بتسليم السلاح... تدخل «البنك الدولي» بشكل وقح في تنفيذ الحصار، تحت ذريعة محاربة تبييض العملة... هذا وسواه يتكاملان مع حضور أميركي في كل الحقول: ترؤس لجنة «الرقابة» على وقف النار من طرف واحد (!) نشاط محموم لأجهزة الأمن والمخابرات الأميركية، تعدّد الوفود الأميركية في سيل لا ينقطع... ذلك كله لاستكمال الوصاية، ولتمكين الصهاينة من تحقيق اختراق كبير في العلاقات بين لبنان والعدو الصهيوني لجهة التطبيع ولو بصيغ ملتوية ومتدرجة!
إنّ كون تعطيل سلاح المقاومة عنصراً مركزياً في الخطة الأميركية الصهيونية، يؤكد بالمقابل، وخلافاً لموقف «القوات» وأمثالها، التمسك بالسلاح من قبل الطرف الرسمي اللبناني. لا ينبغي أبداً أن يجري التفريط به ما بقيَ شبر واحد محتل من قبل العدو، وخصوصاً في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم المحتل من بلدة «الغجر» ومن «النخيلة» أيضاً! السلاح مقابل الانسحاب الكامل.
هذه هي المعادلة الوطنية الذهبية. إنه، إذاً، أداة التحرير وورقة الضغط الأساسية والوحيدة في جعبة السلطة اللبنانية والشعب اللبناني: في حالتي التفاوض، أو فشل التفاوض نتيجة للعدوانية الصهيونية المدعومة أبداً من واشنطن. أن التخلي المشبوه أو المجاني عن السلاح، على طريقة «القوات» وحلفائها، هو خيانة موصوفة، ومفتوحة على أسوأ الاحتمالات: تهديد السلام الأهلي، وبه ومعه تهديد وحدة لبنان ووجوده من الأساس!
* كاتب وسياسي لبناني