بلاد النكبات والخيبات... والأمل


الحروب الأهلية في لبنان في الأعوام 1840 و1860 هجّرت كثيرين من جبل لبنان إلى بيروت ثم إلى شتى أصقاع الأرض ولم يعودوا. أهوال الحرب العالمية الأولى وما رافقها من حصار ومجاعة وجراد، أعطت أيضاً دفعاً لهجرات كثيفة مماثلة. وتواصل النزيف البشري نتيجة الأحداث السياسية وتبعاتها الدموية التي عصفت ببلادنا في القرن العشرين. وكانت قمة التدمير لمجتمعاتنا في حرب لبنان خلال السبعينيات، وما تلاها من حرب تدمير العراق وسوريا ثم لبنان مجدداً. وغني عن القول إن جلجلة الشعب الفلسطيني متواصلة منذ أن وصل أول مستوطن يهودي إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم.

جميع تلك الحروب والنكبات في القرن العشرين يعود بعض أسبابها بشكل مباشر إلى الوجود الصهيوني في فلسطين والذي بسببه تم تفجير الحروب الداخلية التي استفاد منها العدو لأحكام سيطرته وقضم المزيد من الأراضي. اختلقت أكاذيب مثل أن السيادة منقوصة في لبنان بسبب الوجود الفلسطيني الذي يريد الاستيطان وليس تحرير بلده، وانتقل التحريض ضد السوري، واليوم ضد فئة من اللبنانيين. وفي العراق كانت كذبة أسلحة الدمار الشامل مدخلاً للاحتلال. أما في سوريا، فالتهمة هي أن الحكم ديكتاتوري، وهو كذلك، ولكن في المقابل جميع الأنظمة العربية الخاضعة للأوامر الأميركية هي واحة للديموقراطية.

ما شهدته سوريا في الأسابيع الأخيرة من جرائم الإبادة ليس بجديد على التاريخ الإرهابي الدموي لـ«جبهة النصرة» التي تولت الحكم في دمشق. مشاهد القتل سبق أن شاهدناها في مرحلة الحرب على سوريا منذ عام 2011. لكن المخيف في جرائم الإبادة الحالية أن موجات كبيرة من النازحين والمشردين سيحاولون المستحيل للهجرة إلى أقصى مكان في الكرة الأرضية هرباً من الموت المحتم. بشر من لحم ودم ولدوا على هذه الأرض، كآبائهم وأجدادهم منذ مئات آلاف السنين، اقتلعوا من أرضهم كما اقتلع الفلسطينيون.
يضاف إلى سياسة الاقتلاع، تشظي المجتمع السوري واستغلال الصهاينة انهيار الدولة السورية واحتلالهم مناطق شاسعة من جنوب سوريا وإعلانهم أنهم «سيحمون» الدروز، وأضافوا إليهم الشركس، وسبق لهم أن «حموا» المسيحيين في لبنان ووثقوا تحالفهم و«حمايتهم» للقيادات الكردية الانفصالية في سوريا والعراق.

بلادنا تنزف بشراً، وفي المقابل يستقبل الكيان الصهيوني المهاجرين الجدد. الأرض جاهزة للاستيطان، وحيث تصل الدبابة الإسرائيلية تصل أقدام المستوطنين. نعم لا يمكن إنكار نجاح الغرب والصهاينة في نبش خلافات واجتهادات دينية تعود إلى آلاف السنين، وإعادة نشرها وتعميمها وغسل أدمغة البشر لتطفو مجدداً على السطح وتكون أمضى سلاح في أيديهم لتمزيق بلادنا. استعملت القوى الغربية سلاح الاجتهادات الدينية والخلافات المذهبية لاختراق شعوبنا في القرن التاسع عشر. واليوم في عصر الإعلام الذي يصل كل بيت، جرى تطوير وتحديث أساليب إحياء تلك الخلافات، وانطلقت عملية تدمير ذاتي ممنهج ومنظم مع احتلال العراق، ومن هناك انتشرت بتمويل لا حدود له في أنحاء بلادنا كافة.

إذا استرجعنا ما حدث من جرائم بحق العراقيين، ابتداء من حصارهم ثم احتلالهم، لا يمكن للعقل أن يتصور أن هذه الأحقاد لا تزال معشعشة في عقول بشر في هذا العصر. دخل العراق في حرب استنزاف داخلي لا تزال متواصلة حتى اليوم، والمحتل جاثم على صدور العراقيين ينظم مواصلة نهبهم وتقاتلهم، ويسمح للمتقاتلين ببعض فتات من المال المنهوب. تصارعت الطوائف في ما بينها وتمزق شمل كل طائفة. والمايسترو الذي ينهب العراق ويدمره، يعيش في أحسن حال.

سابقاً، لم تكن تجد في الغرب سوى أعداد قليلة من المهاجرين العراقيين. بعضهم هاجر بعد الإطاحة بالحكم الملكي عام 1958، والبعض الآخر هرب من طغيان الأنظمة الحاكمة والخلافات السياسية بين الأحزاب والضباط المتنافسين على السلطة. لكن رغم كل ذلك كانت أعداد الذين رحلوا نهائياً عن العراق قليلة نسبياً. أمّا اليوم، ومع انتشار «الديموقراطية» الأميركية وتحكم الميليشيات الطائفية، تجد في كل مكان عراقيين يبحثون عن بلاد جديدة للإقامة النهائية فيها. هذا مع العلم أن العراق، بموارده البشرية والطبيعية، هو حتماً أغنى من أي بلد قد يختارونه للعيش فيه.

سبق لبنانُ العراقَ في عملية النزيف البشري وتهجير الناس. حروب المذاهب في القرن التاسع عشر، والصراعات التي تلت حتى اليوم، نتيجتها واضحة أمام الجميع. وتتلخّص في أن طموح اللبناني اليوم الحصول على جواز سفر أو بطاقة إقامة مؤقتة أو تأشيرة دخول بلد ما تمهيداً للهجرة. لذلك تنتشر إعلانات ضخمة على الشوارع الرئيسية، جنباً إلى جنب مع إعلانات عن السيارات والأحذية والمجوهرات ومختلف المواد الاستهلاكية، عن جواز السفر، تغري اللبناني بالحصول عليه في مقابل دفع مبلغ كبير من المال.

أذكر، عندما كنّا طلاباً في المدارس الثانوية، كنّا ندرس مادة عن الهجرة وأسبابها. والمهزلة أن البرنامج التربوي العنصري المعتمد في المدارس اللبنانية الرسمية كان يلقي اللوم على الأتراك في الحصار الذي أدّى إلى المجاعة والهجرة أثناء الحرب العالمية الأولى، مع العلم أن الحصار كان تركياً وغربياً. ويمضي البرنامج التربوي في تقديم صورة وردية للهجرة باعتبارها صفة متأصلة في جينات اللبناني «الذكي والمتميز» عن غيره من الشعوب، الطموح إلى السفر والاستكشاف، ويربط ذلك ببعد إيديولوجي وهمي مستعيناً بقصص عن طموحات الفينيقيين واستعمارهم قرطاجة وبالمستكشف القرطاجي حنون. كل ذلك لتبرير فشل مشروع النظام الطائفي الذي زرعه المستعمرون الفرنسيون في عام 1920 والمستمر حتى اليوم.

بالعودة إلى سوريا، كانت سوريا، كما العراق قبل الاحتلال الأميركي، بلداً مكتفياً ذاتياً، لا ديون ولا سيطرة على المرافق العامة من قبل الشركات الغربية. لم يكن الحكم في العراق وسوريا مثالياً، لكن لم يسبق لهما أن شهدا هذا الإجرام المتنقل والممول من قبل الغرب ومريديه في العالم العربي. قد يبدو هذا الكلام مزعجاً لفريق أميركي وصهيوني الهوى من العراقيين والسوريين واللبنانيين الذين سيسارعون إلى تهمة أنني أدافع عن الأنظمة الديكتاتورية، إلا أن الشمس الساطعة لا يحجبها غربال، والسوريون، كالعراقيين، كالليبيين، سيترحّمون عاجلاً أم آجلاً على الأنظمة الديكتاتورية التي سادت سابقاً مقابل التشظي المتواصل والنزيف الحالي والذي يبدو أن لا نهاية له في الأفق.

لقد دخلت سوريا في نفق دموي مظلم سيؤدي، كما نلاحظ اليوم، إلى المزيد من الهيمنة الصهيونية والتركية معاً وبالتكافل والتضامن. لم تشهد سوريا سابقاً، خلال ما سمي الحكم الوطني أو حكم الكتلة الوطنية، وحتى الأنظمة العسكرية، لم تشهد عبر كل تاريخها هذا النوع من الإجرام والتمزق الذي بدأ في عام 2011 والذي بلغ الأوج في مجازر الأسابيع الأخيرة. تم تجويع السوريين واستنزافهم من قبل الأميركيين المتحالفين مع التكفيريين بتنسيق مع الأتراك والصهاينة والممولين العرب لسبب وحيد فقط هو عدم انضمام دمشق إلى قافلة الاستسلام للعدو، وليس إطلاقاً بسبب الاستبداد كما يشاع. عوقب السوريون على رفضهم، لذلك مُزّق النسيج الوطني للشعب السوري كما سبق أن مُزّق العراق.

الأخطر من كل ذلك أن الجيش الإسرائيلي على أبواب دمشق، والغارات الصهيونية متواصلة على الأرض السورية. والصمت مطبق من حكّام دمشق الجدد الذين أعلنوا أنهم لا يعادون أحداً إلا حزب الله وإيران، وللحصول على شهادة حسن سلوك هجموا على القرى اللبنانية الحدودية وتجاهلوا الاحتلال الصهيوني. واضح أن هناك مايسترو ينسق بين الهجمات على لبنان من قبل الصهاينة وهجمات التكفيريين على الحدود الشرقية.

نعم بلادنا بلاد النكبات والخيبات، ولكنها أيضاً بلاد حقق شعبها المعجزات قتالاً وبذلاً لكل ما يملك في سبيل هذه الأرض، والميدان خير دليل. علّمنا تاريخ هذه البلاد أن شعبنا لن يستكين على التسلّط والظلم وعلى حكّام احتلوا مناصبهم بإرادات خارجية. أمنيات الغرب وأنظمة الاستسلام العربية سحق روح المقاومة في شعبنا، وستثبت الأيام أنها مجرد أحلام. في النهاية، نحن نعيش على أمل تعميق الوعي والثبات ومواصلة التصدي ورفض الأمر الواقع الذي هو حتماً بمنزلة مخدر سينتهي مفعوله عاجلاً أم آجلاً.
* كاتب لبناني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي