ثنائية الخروقات والاختراقات !
يواصل العدو الإسرائيلي احتلاله لأجزاء من الجنوب اللبناني. يقترن ذلك باضطراد التوسُّع والتدمير والاغتيالات (في معظم المناطق اللبنانية). هو يستند في ذلك إلى اتفاق ثنائي خاص مع واشنطن، رغم «اتـفاق وقف الأعمال العدائية» الذي وافقت حكومته عليه، وأقرّته، أيضاً، الحكومة اللبنانية بتاريخ 27/11/2024. يُذكر أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن هو الذي تولى، مع الرئيس الفرنسي (بدور شكلي)، إعلان ذلك الاتفاق الذي يترأس فيه ضابط أميركي موقع رئيس «لجنة المراقبة على التنفيذ».
في المفاوضات أصرّت واشنطن على منح العدو مهلة 60 يوماً للانسحاب من القرى التي احتل جزءاً منها أثناء محاولات تقدّمه المتعثّرة بسبب صمود مدهش ومواجهة ضارية من قبل المقاومة اللبنانية. جرى، بعد ذلك، تمديد هذه المهلة 20 يوماً إضافية، بطلب أميركي، وبموافقة لبنانية مستغربة. ثم حصل تمديد مفتوح «لأسابيع أو أشهر» بـ«تفاهم أميركي إسرائيلي لبناني» كما ذكر موقع «أكسيوس» الأميركي نقلاً عن «مسؤولين أميركيين».
في الأثناء، تولّى رئيس لجنة الرقابة الأميركي مهمة تبرير وتغطية استمرار الاحتلال وارتكاباته الإجرامية وخروقاته المتصاعدة والشاملة لمعظم المناطق اللبنانية. ترافق ذلك مع شبه تعطيل لدور اللجنة واختصارها برئيسها الأميركي، ما جعل الحرب تستمر من طرف واحد، بذريعة «الدفاع عن النفس» و«إنجاز المهمة» كما أعلنت سلطات العدو. نجم عن ذلك مع تقدّم وتوسّع للعدو متواصلان، نجم أيضاً، تدمير وخسائر واغتيالات… ما يوازي، أو يفوق، في المنطقة الحدودية، ما حصل أثناء شهرين من القتال الشامل التدميري الهمجي على غرار النموذج الإجرامي الوحشي الذي اعتمده الصهاينة، بدعم أطلسي كامل في غزة.
الخطير في هذا الأمر أنه يقع في نطاق خطة وصاية أميركية، عسكرية سياسية أمنية اقتصادية إدارية... شاملة على لبنان. وهي خطة وقحة تستهدف تصفية المقاومة، وإحكام السيطرة على الوضع اللبناني بما يخدم المخطط الأميركي الإسرائيلي: في لبنان، وفلسطين، وكل المنطقة العربية والشرق أوسطية.
أمّا الأخطر، على المستوى اللبناني، فإنّ ذلك قد تساوق مع فرض تركيبة سلطوية تتبلور وتتكامل هياكلها السياسية والأمنية والإدارية والمالية تباعاً: بإصرار وضغط أميركي أساساً، ثم سعودي بالدرجة الثانية. قلنا الأخطر لأن التهديد، حالياً، أكبر بما لا يقاس. في السابق كان الاحتلال الإسرائيلي يقتصر على «مزارع شبعا» و«تلال كفرشوبا» و«النخيلة» والقسم اللبناني من قرية «الغجر». أمّا الآن، وفي ظل «إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط»، كما هدّد نتنياهو سابقاً ويتباهى حالياً، فالمخاطر أكبر: على أرضنا ووحدة بلدنا وسيادتنا وثرواتنا ومصالحنا الأساسية الوطنية.
من جهتهم، يحاول رموز السلطة الجديدة الترويج لذلك المخطط بسيل من الكلام المنمق الذي رغم بلاغته الشكلية لا يلبث أن يعود إلى «النبع»: «حروب الآخرين على أرضنا»، «أن لا يكون لبنان ممراً ومستقراً للنفوذ الأجنبي»، و«مستباحاً من الآخرين»... و«فتح صفحة جديدة» في تاريخنا... وحيث تصبح المشكلة في المقاومة وداعميها، وليس في عجز السلطة من ناحية، وفي تبعيتها للطرف الأكثر دعماً للعدو وسياساته التوسعية، من ناحية ثانية!
وما أشبه الأمس باليوم (حيث المخاطر أكبر): في عام 2005 حصل أمر مشابه حين انتقلت الوصاية، وتحت عناوين «السيادة» و«القرار الحر»، من «عنجر» المخابرات السورية إلى «عوكر» المخابرات الأميركية... يحتاج كل كلام عن رفض التدخل الخارجي، لكي يكتسب شيئاً من الصدقية، إلى مقدمة بسيطة في الشكل عصية في المضمون، من نوع: سنحاول، منذ الآن، وضع حد لأي تدخل خارجي... ذلك أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وفي تسمية الرئيس المكلّف، كان هو الأضخم في كل التاريخ اللبناني! لقد كانت نتائج تلك السياسات كارثية في الماضي. وهي ستكون كذلك في المرحلة الراهنة.
في مسار موازٍ ومتشابه، ألقت واشنطن بثقلها كاملاً، عبر الإدارة الجديدة (كما السابقة وربما أكثر) إلى جانب العدو ضد المقاومة الفلسطينية في غزة والقضية الفلسطينية عموماً. الهدف، كالعادة، هو تأمين انتصار لحكومة الفاشيين العنصريين في تل أبيب بعد أن تمكنت المقاومة الجبارة في غزة من تحويل عملية التبادل إلى نقيض ما أراده العدو بسبب تكبده خسائر لم يعد يقوى على الاستمرار في تحملها. لهذا الغرض هدَّد ترامب بالويل وعظائم الأمور. طرح مسألة التهجير. تراجع عبر وزير خارجيته إلى صيغة الإفراج من طرف واحد عن الأسرى خلافاً للمنطق والاتفاق الذي شاركت واشنطن نفسها في صياغته ورعايته ووقعته إلى جانب ممثلي مصر وقطر وطرفي الصراع... وهو حمل، أيضاً، كما في لبنان، اسم الرئيس السابق جو بايدن!
خُدِع أو ظن، كثيرون، بأن الحرب قد انتهت. أبداً. لقد اتخذت شكلاً آخر: سواءً في شقها العسكري والأمني، أو في شقها السياسي والاقتصادي. انخرطت واشنطن مباشرة في إدارة الدفة: وقف إطلاق النار في لبنان. وقف إطلاق النار في غزة. انقلاب سوريا. انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة في لبنان... إلى الخروقات الإسرائيلية في لبنان والمجازة أميركياً، إلى تعطيل المرحلة الثانية من الاتفاق بشأن غزة، وعودة الحصار الكامل على مدنييها وأطفالها، إلى تهديدات ترامب المتصاعدة والموجهة إلى شعب تعرّض ولا يزال للإبادة...!
إنه مخطط أميركي ناشط في صيغ ومواضع ومواضيع أخرى: تهجير سكان غزة والضفة والقطاع. إثارة النزعات والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية لإغراق البلدان، المحاذية لفلسطين المحتلة خصوصاً، بالصراعات والانقسامات... يُضاف إلى ذلك ما في جعبة ترامب وكبار مساعديه من عتاة أثرياء الولايات المتحدة، من مشاريع للسيطرة على ثروات المنطقة باعتبارها «مصلحة قومية» أميركية. لم تعد الخوات تكفي للتعامل معها بذرائع الحماية واستخراج الثروات وتسويقها وتصنيعها. إن في المنطقة من «السلع» الإستراتيجية ما تبحث واشنطن عن مثيلاته، بوقاحة وعدوانية غير مسبوقة، في كل العالم: من تايوان إلى أوكرانيا، ومن كندا والمكسيك إلى بنما، ومن «غرينلاند» إلى أوروبا نفسها...
يجدر القول تكراراً، إن من يسيرون في هذا النهج إنما يغامرون بلبنان. ثمة ألف سبب للقول، ولتأكيد القول، إنه من أجل مواجهة مخطط واشنطن وتل أبيب وأتباعهما، ينبغي أن تقام الجبهات والتحالفات وتحدد السياسات والعلاقات... يجدر التذكير أيضاً، بأن في تاريخ الشعب اللبناني الكثير من المحطات والمآثر الباهرة في حقول المقاومة والتحرير.
* كاتب وسياسي لبناني