تحذيرات غربية من «الانكفاء» الأميركي: ترامب يشعل سباقاً نووياً جديداً

من خلال إجراء قراءة سريعة للتدخلات الأميركية حول العالم، وفي الشرق الأوسط تحديداً، خلال العقود الماضية، يُلحظ أنّ قرار قادة واشنطن الحاليين «الانكفاء» إلى الداخل، غير نابع من قناعة بضرورة استرداد «استثنائية» الولايات المتحدة، وهو ما أتى الرئس الأميركي، دونالد ترامب، على ذكره مرتين خلال حفل تنصيبه، إذ يجادل مراقبون بأنّ واشنطن، لم تعش، يوماً، حقبة «الاستثنائية»، وأنّ قوتها كانت تنبع من عملها على ساحة دولية «أحادية القطب»، قبل أن يتبدّل، اليوم، الواقع المشار إليه، بشكل يفرض عليها الحد من «تكاليف» مغامراتها، وعدم الغوص في أخرى جديدة. ويحذّر هؤلاء، بشكل متزايد، من أنّ التراجع الأميركي المشار إليه، والذي لا يراعي «التعددية القطبية»، وضرورة التعاون مع دول العالم، قد يؤدي إلى مزيد من الحروب، ولا سيما مع دولة نووية مثل إيران، وصولاً حتى إلى «إشعال سباق تسلح نووي» جديد، تكون الأخيرة «رأس حربة» فيه.
وفي هذا السياق، يرى الكاتب والسياسي دينيس روس، الذي ساهم في رسم «سياسات السلام» الأميركية للشرق الأوسط، خلال ولايتَيْ كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون، في تقرير نشره «معهد واشنطن»، أنّ النظام العالمي «قد تغيّر» على مدى العقود العديدة الماضية، إذ لم تعد الولايات المتحدة «القوة المدهشة الأحادية القطب»، وهو ما ستكون له «آثار دراماتيكية على من هم داخل وخارج حدودنا». ويشير الكاتب إلى أنه خلال عمله كمسؤول عن «رسم سياسات» إدارة بوش، شعر بأنّ الأخيرة، وتحديداً في ما يخص قرار الدخول في حرب العراق، كانت تعكس قصوراً في فهم ما كانت الولايات المتحدة «ذاهبة إليه»، «ودفعنا الثمن من خلال حرب مكلفة للغاية، مقابل مكاسب محدودة للغاية».
وطبقاً للرأي المتقدّم، وفي ظل غياب أي نقاش حقيقي حول إيجابيات خوض الحرب المشار إليها وسلبياته، واستبعاد أولئك الذين تجرّأوا على «طرح الأسئلة»، من عملية صنع القرار عام 2003، سرعان ما أثار بوش، بنفسه، أسئلة حول الاستراتيجية الأميركية، خلال ولايته الثانية، بعدما كانت تلك الاستراتيجية، بحلول عام 2007، تفشل، والعراق يتفكّك ويغوص في حرب طائفية. بيد أنّ المفارقة، آنذاك، هي أنّ العالم كان «أحادي القطب»، فيما «كانت قوة أميركية تقزّم الجميع»، من دون وجود منافسين حقيقيين. أمّا اليوم، فالواقع يبدو مختلفاً؛ إذ إنّه على الصعيد الدولي، تواجه الولايات المتحدة، الصين وروسيا كمنافسيْن عالمييْن. وعلى الصعيد الإقليمي، تطرح إيران وكوريا الشمالية تحديات عدة. وعلى الرغم من أنّ «أميركا لا تزال أقوى قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية في العالم، إلا أنّه يجب علينا الآن العمل في عالم متعدد الأقطاب، يفرض علينا قيوداً دولية ومحلية على حدّ سواء».
قوّضت حربا العراق وأفغانستان الإجماع على أن واشنطن يجب أن تتولى «دفة القيادة»
وينطلق معدّ التقرير من مقدّمته حول العراق، لينوّه إلى أنّ صعود السياسات الشعبوية والقومية والتي يجسّدها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ونائبه جي دي فانس، يأتي في خضمّ تساؤلات أساسية حول «دور الولايات المتحدة» في العالم، وهو ما يختلف تماماً عن عام 2006، أي عندما كان بالإمكان «مناقشة الحرب في العراق، وسط وجود إيمان بالقيادة الأميركية على الصعيد الدولي». أما اليوم، فقد أثارت الحروب في العراق وأفغانستان تساؤلات أساسية حول «تكلفة دورنا في العالم»، وقوّضت الإجماع على أن واشنطن يجب أن تتولى «دفة القيادة». ويردف صاحب الرأي المتقدّم أنّه في البيئة الراهنة، يُنظر إلى «التكاليف» على أنها عنصر حاسم، وهو ما يطرح على الطاولة، مثلاً، إمكانية ألّا تستمر الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا «في مواجهة العدوان الروسي المستمر».
وفي محاولة لدفع ترامب إلى تجنّب الوقوع في «الحفرة نفسها»، يرى روس أنّ الدرس الذي يجب على الرئيس الحالي استقاؤه هو ضرورة «التفكير ملياً في رهاناتنا وجدوى الأهداف التي نحدّدها»، والأدوات التي يجب اعتمادها لتحقيق ذلك. ويركّز التقرير، بشكل خاص، على القضية النووية الإيرانية، محذّراً من أنّه في حال حصلت طهران «على قنبلة نووية»، فمن المرجّح أن يشعر السعوديون والمصريون والأتراك بضرورة القيام بالمثل، فيما يزداد الإسرائيليون قناعة بضرورة شنّ عمل عكسري ضد طهران قبل «امتلاكها السلاح».
وعليه، ينصح الكاتب ترامب بعدم الاكتفاء بمنع إيران من إنتاج قنبلة نووية في الوقت الراهن، بل التأكد من أنّها «لن تمتلك خيار إنتاج واحدة لاحقاً»، بما يشمل فرض عزلة سياسية واقتصادية عليها «لإبعاد السلطة عن جمهورها». ولا يستبعد الكاتب الخيار العسكري أيضاً، في حال فشلت الدبلوماسية»، مشدّداً على ضرورة جعل إيران تدرك أنّها قد تفقد «بنيتها التحتية النووية بأكملها»، بعدما استثمرت فيها لأكثر من 40 عاماً. وينبه إلى أنّه من دون «تعبئة» دولية، ستكون واشنطن «بلا شركاء»، ما سيقلّل من احتمالية النجاح «من دون استخدام القوة»، في إشارة إلى المخاطر المترتبة على سياسة ترامب الانعزالية.
سباق تسلّح نووي
وينسحب التخوف من «الانكفاء» الأميركي، والذي لا يأخذ في الاعتبار «التعددية القطبية» ومتطلبات «العالم الجديد»، على العديد من المراقبين والمسؤولين الآخرين، ومن بينهم المدير العام لـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، رافائيل غروسي، الذي يحذّر، في مقابلة مع وكالة «بلومبرغ»، من أنّ ترامب «قد يشعل سباق تسلح نووي، بعدما أصبحت دول عدة تفكر بضرورة أن تكون لديها قوة ردع خاصة بها»، في عالم يتزايد فيه «انعدام الأمن»، مشيراً إلى أنّ «النظام الدولي القائم على القواعد أصبح أكثر هشاشة، في وقت تتجاهل فيه حكومة الولايات المتحدة التعددية والمعايير الدبلوماسية».
وفي 5 آذار، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في خطاب متلفز، أن فرنسا ستبدأ محادثات مع حلفائها الأوروبيين بشأن «توسيع مظلتها النووية فوق القارة»، وسط مخاوف من تضاؤل حماية الولايات المتحدة. وتعقيباً على ذلك، يلفت غروسي إلى أنّه «قبل بضع سنوات، كان النقاش حول الأسلحة النووية من المحرمات»، بينما اليوم، تجري بعض البلدان مثل تلك المحادثات، في إشارة إلى «تآكل مستمر للمعايير».
وفي ما يتعلق بإيران بشكل خاص، يؤكد روسي أنّ العقوبات على إيران «لا تجدي»، بل «يتم التحايل عليها، فيما نما برنامجها النووي، بشكل هائل، منذ 2018»، مضيفاً أن طهران طوّرت «5 نماذج جديدة من أجهزة الطرد المركزي منذ إلغاء الاتفاق»، ما يجعلها قادرة على تخصيب اليورانيوم بمعدلات متزايدة. ووفقاً لتقديرات «الوكالة»، فإن إيران تنتج كمية كافية من اليورانيوم العالي الخصوبة لصنع قنبلة نووية واحدة كل 30 يوماً، فيما قد لا يستغرق تحويل تلك المادة إلى وقود لرأس حربي نووي، «سوى أيام قليلة».