ترامب لا ينسى جنوب أفريقيا: نحن حُماة "البِيض"... هناك أيضاً

أكّد ترامب، أولَ أمس، عزمه حجب جميع المخصّصات لمساعدة جنوب أفريقيا (أ ف ب)
أكّد ترامب، أولَ أمس، عزمه حجب جميع المخصّصات لمساعدة جنوب أفريقيا (أ ف ب)

بعد ساعات من هجمة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على موظفي "وكالة التنمية الدولية"، وإعلانه عزمه إغلاقها ودمجها بوزارة الخارجية، بتنسيق مع إيلون ماسك (الجنوب أفريقي الأصل) الذي يقود وزارة الكفاءة الحكومية المستحدثة، طاولت اتهامات ترامب، بريتوريا، على خلفية سياسات "مصادرة الأراضي من فئات معينة". وهدّد بفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، في حال مواصلتها تلك السياسات، وهو ما يتّسق، وفق وسائل إعلام أميركية، من بينها "واشنطن بوست"، مع مواقف ماسك المناهضة لمجمل سياسات حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، في موطنه الأصلي. وكان الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، وقّع، في كانون الثاني الماضي، قانوناً يتيح للحكومة مصادرة أراضٍ للمنفعة العامة من دون تعويضات.

تهديدات ترامب لبريتوريا: ما الجديد؟
أكّد ترامب، أولَ أمس، عزمه حجب جميع المخصّصات لمساعدة جنوب أفريقيا، بسبب ما وصفها بـ"انتهاكات حقوق الإنسان" المرتكبة بحقّ "فئات بعينها"، في إشارة إلى البيض، وأيضاً رفضه "مصادرة" أراضٍ لصالح الاستخدام العام. وسريعاً، خرجت تعليقات متفرّقة لماسك حول المسألة، تضمّنت إشارته إلى سياسات بريتوريا العنصرية (ضدّ البيض)، والتي تصل إلى التشجيع على قتلهم، بحسب زعمه، ما استدعى ردّاً من رامافوسا على تهديدات ترامب، بالقول إنه "مخطئ"، وإنه "ليس ثمّة عمليات مصادرة للأراضي"، فيما عبّر عن تطلعه إلى تداول المسألة مع الإدارة الأميركية، أملاً في التوصّل إلى قاعدة تفاهم مشتركة إزاء "عملية إصلاح الأراضي".

ويمثّل مسار إصلاح سياسات الأراضي في جنوب أفريقيا، واحداً من المسارات الطويلة الأجل لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، التي لا تزال تعاني، بعد أكثر من ثلاثة عقود على حدوث التحوّل الديمقراطي، من تفاوت اجتماعي واقتصادي صارخ بين السكان السود ونظرائهم البيض، لعلّ من أهمّ مؤشراته، امتلاك البيض (الذين لا تتجاوز نسبتهم 10% من سكان البلاد) ثلاثة أرباع الأراضي في جنوب أفريقيا، وارتفاع نسبة الفقر بين السود إلى نحو 65% من إجمالي عدد السكان، مقارنة بنسبة 1% فقط وسط السكان البيض. ويمثّل هذا الوضع، تحدّياً مزمناً لحكومة "المؤتمر الوطني"، وصل إلى حدّ التهديد بفقدان الحزب مكانته التاريخية وتآكلها إلى مستويات غير مسبوقة في الفترة المقبلة، وذلك بعد خسارته، للمرّة الأولى، الأغلبية في الانتخابات العامة التي جرت العام الماضي.

ومن شأن مضيّ ترامب في تنفيذ تهديداته، حرمان جنوب أفريقيا من التمتّع بامتيازات "قانون الفرصة والنمو الأفريقي" الذي يؤهّل نحو 40 دولة أفريقية (في مقدّمتها جنوب أفريقيا) للتمتّع بإعفاءات جمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، مع نفاد سريانه في أيلول 2025. كما أن الضغوط الأميركية ستقود إلى مضاعفة هشاشة الائتلاف الحاكم في بريتوريا، الأمر الذي يضع مستقبل "المؤتمر الوطني" بقيادة رامافوسا، على محكّ حقيقي.

"ستارلينك"... كلمة السر
وفي ضوء صعوبة التوافقات السياسية والاقتصادية بين مكوّنات الائتلاف الحاكم في بريتوريا، واجهت خطط إيلون ماسك في جنوب أفريقيا لإطلاق أنشطة شركته "ستارلينك" تأخيراً مفهوماً، بسبب تعارض تلك الأنشطة مع مقرّرات قوانين التمكين الاقتصادي للسود في البلاد، والتي يتمسّك بها "المؤتمر الوطني"، فيما يشدد "التحالف الديمقراطي"، شريكه الرئيسي في الحكم، على ضرورة التخلُّص منها؛ وهي نفسها القوانين التي اعتاد ماسك وصفَها "بالعنصرية".

تتزامن التهديدات الأميركية لجنوب أفريقيا مع أزمات متكرّرة في أدوار هذه الأخيرة في القارة الأفريقية

غير أن استجابة رامافوسا، وما يبدو من تشدُّد بريتوريا تجاه تعليقات ترامب، وجدا صدًى في تكرار ماسك، أمس، وصفه القانون الذي يتطلّب ضخ أيّ شركة أجنبية في قطاع الاتصالات، نحو 30% من قيمة أيّ مشروع لها في البلاد، لصالح شركات مملوكة للسود للتأهّل للحصول على رخصة، بأنه "عنصري فجّ". وهكذا، تظلّ استثمارات "ستارلينك" (الذراع النشطة في أفريقيا لشركة SpaceX المملوكة لماسك، والتي تجاوزت قيمتها السوقية 350 مليار دولار في كانون الثاني الفائت) عالقة في معقل قطاع الاتصالات في أفريقيا ككلّ، بعد نجاح الشركة أخيراً في الحصول على رخص في بتسوانا وموزمبيق وزيمبابوي. وعلى رغم تصريحات وزير الاتصالات والتكنولوجيات الرقمية، سولي مالاتسي (نائب رئيس التحالف الديمقراطي)، حول توقّع إعفاء "ستارلينك" من مقتضيات القوانين المعمول بها في البلاد، فإن منصات إعلامية جنوب أفريقية أجمعت على أن تدخّلات ماسك "تهدّد إتمام صفقة دخول ستارلينك إلى السوق الجنوب أفريقية". كما دخل حزب المعارضة الرئيسي، "مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"، على خط الأزمة، داعياً حكومة رامافوسا إلى التمسّك بموقفها، وإلزام ماسك بقوانين التمكين الاقتصادي للسود.

وتمثّل جنوب أفريقيا الجائزة الكبرى لـ"ستارلينك" بعد تمكّن الشركة من الحصول على رخص في نحو 20 دولة أفريقية بحلول شتاء 2024 (من بينها مصر وكينيا). غير أن موقف بريتوريا الحمائي لقطاع الاتصالات المحلّي ليس الأول من نوعه في أفريقيا، إذ قدّمت وزارة الاتصالات في كينيا مذكّرة للحكومة (أيلول 2024) بضرورة اتّخاذ إجراءات أكثر تشدّداً إزاء أنشطة "ستارلينك" في البلاد، وضرورة دخولها في شراكة مع مقدّم خدمة إنترنت محلّي.

بريتوريا والجنوب العالمي: في مواجهة هجمة أميركية؟
تتزامن التهديدات الأميركية لجنوب أفريقيا مع أزمات متكرّرة تواجه أدوار هذه الأخيرة في القارة الأفريقية، من موزمبيق إلى السودان إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، في ظل ما يبدو أنها هجمة أميركية صريحة على مجمل سياسات البلاد الخارجية والداخلية أيضاً. ففي الكونغو مثلاً، تكبّدت بريتوريا خسائر بشرية مكلفة، دفعت الميديا الجنوب أفريقية إلى وصف سياسات الرئيس الرواندي، بول كاجامي، إزاء دور جنوب أفريقيا في جهود حفظ السلام في شرق الكونغو (وصولاً إلى إعلانه أن وجود هذه القوات غير مرغوب فيه أساساً) بالطعنة في ظهر رامافوسا، الذي طالما ربطته علاقات طيبة بكاجامي. كذلك، يتّضح من تعليقات الميديا الأميركية، التحريض على معاقبة بريتوريا لتقرّبها من دول مثل الصين وروسيا، وانخراطها القوي في مجموعة "بريكس" (والعمل مع دول مثل إيران ومصر).

وعلى أيّ حال، سيشكّل ارتباط جنوب أفريقيا بسياسات الجنوب العالمي، الاختبار الأول في علاقات بريتوريا - واشنطن، حيث ستجد سياسات ترامب العدائية، والتي امتدت من أميركا الوسطى إلى كندا والشرق الأوسط، صدًى مهماً في بريتوريا، بعدما أعادت إلى الواجهة وجه الإمبريالية الأميركية المكشوف من دون أيّ مجمّلات، من قَبيل "حقوق الإنسان" و"التحوّل الديمقراطي" و"القيم الأميركية - الغربية".

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي