اشتداد الهجمة «الترامبية» على جنوب أفريقيا: بريتوريا تستعدّ للأسوأ

يبدو صدام ترامب مع جنوب أفريقيا محسوباً بدقّة، وهو سيثير تداعيات خطيرة داخل البلاد (أ ف ب)
يبدو صدام ترامب مع جنوب أفريقيا محسوباً بدقّة، وهو سيثير تداعيات خطيرة داخل البلاد (أ ف ب)

بادر الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، إلى الردّ على اتهامات نظيره الأميركي، دونالد ترامب، بانتهاج بلاده سياسات تمييز ضدّ البيض، مؤكداً (8 الجاري) أنه ليس هناك أيّ جماعة في البلاد تواجه اضطهاداً "من أيّ نوع"، أو حرماناً من الحقوق التي أرساها الدستور وميثاق الحقوق. ويبدو واضحاً اتجاه واشنطن نحو تشديد نهجها الابتزازي لبريتوريا، في ما سيشمل أبعاداً أخرى تتجاوز مساعي الأولى لِما تعتبره "حماية مصالح البيض في جنوب أفريقيا"، إلى محاصرة الأخيرة باعتبارها مهدّدة ليس "لسياسات أميركا الخارجية" فحسب، بل لأمنها القومي وأمن حلفائها وشركائها الأفارقة، ومصالحها بشكل عام. ويمثّل ما تقدّم تصعيداً واضحاً لخطوط المواجهة الأميركية مع جنوب أفريقيا، إلى مستويات غير مسبوقة منذ حقبة التحوّل الديمقراطي التي شهدتها الأخيرة نهاية الثمانينيات.

التصعيد الأميركي ضدّ بريتوريا: تصفية حسابات

ظلّت الأوساط السياسية في جنوب أفريقيا تترقّب سياسات ترامب، بعد تصريحات وتهديدات متكرّرة باستهدافها، على رغم محاولة رامافوسا موازنةَ هذا الترقُّب بالحفاظ على صورته كزعيم قوي تلعب بلاده دوراً رئيسياً في القارة الأفريقية وتحت مظلّة الجنوب العالمي وتتولّى رئاسة "مجموعة العشرين"، وكذلك الحفاظ على الصلة الوطيدة مع واشنطن وضمان استمرار تدفُّق مساعداتها ودعمها الاقتصادي في صوره المتعدّدة.

وتبدّى هذا خصوصاً في خطاب "حالة الأمة" (6 الجاري)، حين أشار الرئيس الجنوب أفريقي إلى "صعود القومية والحمائية ومساعي تحقيق مصالح ضيّقة وتراجع وجود قضية مشتركة، وسط توتّر جيوسياسي عالمي"، من دون أيّ إشارة مباشرة إلى ترامب أو الولايات المتحدة. وجاء الخطاب حول "حالة الأمة"، بعد نحو سبعة أشهر من بدء حكومة الائتلاف الحاكم مهامّ عملها، حاملاً تعهّدات رئيس "حزب المؤتمر الوطني" الأفريقي، بـ"انتهاج سياسات أكثر تعزيزاً للتنمية"، و"تطويراً للبنية الأساسية" في أرجاء البلاد، أملاً في تعويض الخسارة التاريخية التي مُني بها الحزب، فيما تمثّل سياسات "إصلاح الأراضي" محكاً حقيقياً لقدرة "المؤتمر" على موازنة تعهّداته بتحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية تعوّض الأغلبية السوداء ما عانت منه في عقود "الأبارتهيد"، وحسابات ارتباطه السياسي بـ"حزب التحالف الديمقراطي" الممثّل للجماعة البيضاء ومصالحها في البلاد.

أيضاً، جاءت ملاحظة رامافوسا حول حدوث تحوُّل وشيك في وجه حياة الإنسان، لتشير إلى خطورة سياسات ترامب في أرجاء متفرّقة من العالم، مع انسحاب الحكومة الأميركية من منظّمات دولية، من مِثل "منظمة الصحة العالمية"، وتراجعها عن التزاماتها إزاء قضية التغيّر المناخي، فضلاً عن تعليقها برامج المساعدات الدولية، وهجوم ترامب على حقوق المتحوّلين جنسياً، والتي دعمها رامافوسا بشكل تام في الخطاب نفسها، مع ملاحظة عدم حضورها في الخلاف الحالي بين واشنطن وبريتوريا.

لا يُتوقّع نجاح الصين أو روسيا في تعويض الخسارات التي ستتكبّدها جنوب أفريقيا جرّاء العقوبات الأميركية


وفي الوقت نفسه، بادر وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو (6 الجاري)، إلى إعلان مقاطعته قمّة "العشرين" المُقرّر عقدها في جوهانسبرغ في الـ21 من شباط الجاري، على اعتبار أن البلد المضيف يعزّز "التنوّع والمساواة وأموراً سيئة أخرى في أجندة G20"، في إشارة ضمنية إلى سياسات جنوب أفريقيا "الجنسية". وتلا ذلك القرار، بدء واشنطن خطوات عقابية غير مسبوقة ضدّ بريتوريا، ليتّضح من بيان السفارة الأميركية لدى جنوب أفريقيا (7 الجاري) شمول هذه الخطوات، ما سمّته "إعادة توطين اللاجئين والاعتبارات الإنسانية الأخرى"، حيث تقرَّر أن تتّخذ وزارتا الخارجية والأمن الوطني "خطوات مناسبة، وتتّسق مع القانون" لوضع أولوية للإغاثة الإنسانية، بما فيها قبول وإعادة توطين "الأفريكانريين من ضحايا التمييز العرقي الجائر" في أرجاء الولايات المتحدة، ووفق برامج اللجوء المستقرّة، على أن تقدّم الوزارتان خطّة مفصّلة بما تقدّم للرئيس ترامب ومستشاره للأمن القومي.

على أيّ حال، يبدو صدام ترامب مع جنوب أفريقيا محسوباً بدقّة، وهو سيثير تداعيات خطيرة داخل البلاد، على الرغم من رفض مجموعات لافتة من البيض الجنوب أفارقة دعوات استقبالهم كلاجئين في الولايات المتحدة. وليس أقلَّ تلك التداعيات تراجُعٌ مرتقبٌ في شعبية "حزب المؤتمر الوطني" عقب العقوبات الاقتصادية الأميركية، والتي من شأنها أن تفاقم الأزمة في البلاد، ورفع مستويات البطالة، وإعادة ترتيب أولويات الحكومة لتوجيه مخصّصات كبيرة إلى القطاع الصحي على حساب مشروعات تنمية البنية الأساسية.

التداعيات الاقتصادية: ضربات مؤلمة

يُتوقّع أن تلحق أضرار اقتصادية جسيمة بصادرات بريتوريا إلى الولايات المتحدة، ولا سيما أن قسماً كبيراً منها مشمول بقانون "الفرصة والنمو الأفريقي" (أغوا)، والذي بات في حكم المعطَّل، بعد قرار ترامب قطع تمويل جنوب أفريقيا رداً على "قانون مصادرة الأراضي للصالح العام"، والقضية التي رفعتها الأخيرة لدى "محكمة العدل الدولية" ضدّ إسرائيل على خلفية حربها في غزة. وتنتظر بريتوريا بالفعل حرمانها من صادرات بشروط تفضيلية للسوق الأميركية بقيمة أربعة مليارات دولار، وإجمالي صادرات تتجاوز الـ20 مليار دولار، في حال تطبيق مزيد من الأعباء الجمركية. كما تأكّد على الفور حرمان جنوب أفريقيا من مساعدات أميركية سنوية بقيمة 440 مليون دولار، يُخصَّص جلّها لبرنامج "بيبفار" (Pepfar) المخصّص لمساعدة الحكومة في مواجهة مرض الإيدز، والذي أسهم بالفعل في نجاعة نظام الصحة العامة في البلاد.

وبحسب تقارير محلية جنوب أفريقية، فإن سعر الراند مقابل الدولار الأميركي قد تراجع بنسبة 0.9% بعد ساعات من قرار ترامب. كما تعرّضت سوق السندات الجنوب أفريقية لهزّة ملحوظة. وتوقّعت هذه التقارير ضغطاً متزايداً على عائدات السندات في ظلّ ارتفاع تكلفة الاقتراض بالنسبة إلى الدولة والقطاع الخاص على حد سواء. وسيواجه الاقتصاد الجنوب أفريقي تداعيات التجميد الفوري لضمانات الاقتراض والتمويل التنموي الأميركية الموجّهة في الأساس لمشروعات البنية الأساسية الطاقوية والتنمية الاقتصادية، مع ملاحظة الأزمة التي تشهدها البلاد في ذلك القطاع في السنوات الأخيرة. وعلى مستوى قطاعي، يُتوقّع أن يتضرّر قطاعا زراعة الموالح وتصديرها، وصناعة السيارات أكثر من غيرهما؛ إذ تبلغ صادرات الموالح الجنوب أفريقية إلى الولايات المتحدة سنوياً نحو 111 ألف طن، كانت تستفيد بالكامل من إعفاء جمركي بمقتضى "أغوا".

ويهدّد القرار الأميركي نحو 140 ألف فرصة عمل في هذا القطاع، فيما تعاني جنوب أفريقيا أساساً من واحد من أعلى معدلات البطالة في العالم (تجاوزت 32% في الربع الثالث من العام الماضي). وينطبق السيناريو نفسه على قطاع صناعة السيارات الذي يعمل فيه نحو نصف مليون عامل بشكل مباشر أو غير مباشر، وسط توقّعات بفرض واشنطن رسوماً جمركية على صادرات جنوب أفريقيا من السيارات، تصل إلى 25%، ما سيحرمها من ميزة نسبية لا يستهان بها في المنافسة في السوق الأميركية. وتمثّل تلك الضربات الآنية، والمرتقبة مع أيّ تصعيد جديد وصولاً إلى احتمال وقف العمل بقانون "أغوا" نفسه نهاية العام الجاري، ضربات مؤلمة لاقتصاد جنوب أفريقيا وقدراته التصديرية، من دون توقّع نجاح الصين أو روسيا في تعويض خسارات جنوب أفريقيا.

ويمكن، بوضوح تامّ، تلمُّس هجمة أميركية بالغة الشراسة على جنوب أفريقيا وأدوارها الإقليمية والدولية، يأتي في مقدّمة مظاهرها محاصرة بريتوريا، والسعي إلى إجبارها على التراجع عن دورها الريادي في دعم القضية الفلسطينية دبلوماسياً، وخفض مستوى تعاونها مع عدد من الدول الأفريقية، من مِثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق وأنغولا وغيرها، إذ تتعارض سياسات بريتوريا في تلك الدول - من وجهة نظر واشنطن - مع الرؤية الأميركية ضمن سياق أكبر عنوانه مواجهة النفوذ الروسي والصيني، وحماية المصالح الغربية في البلدان المذكورة وغيرها.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي