عزيزي السيد رشيد... ماذا يكتب جيل الـChatGPT؟

ماذا يكتب جيل الذكاء الاصطناعي و«تشات جي. بي. تي» اليوم؟ كيف يعبّر عن الحزن والحب والهوية؟ وما علاقته باللغة العربية تحديداً؟ هل ثمة حقّاً هوّة سحيقة بين الأجيال في الأدب اليوم بحيث بالكاد نتعرّف إلى روائي ثلاثيني أو شاعر شاب في العشرين؟ وهل مردّ ذلك إلى صعوبة اعتراف جيل سابق (ربما لا يجيد استخدام الهاتف الذكي) بجيل لاحق تلتصق به تُهم السطحية وانحلال الثقافة وضياع الهوية، أم تغيرت معايير الكتابة وأدواتها بين زمن كان فيه الأديب يتكرّس عبر اعتراف النقّاد المخضرمين بنتاجه أو حجز زاوية باسمه في ملحق ثقافي في جريدة، إلى زمن النشر على فايسبوك والنصوص المولّدة عبر الذكاء الاصطناعي؟
لعل كتاب «نُص حامضة» الذي أعده الروائي اللبناني رشيد الضعيف، أستاذ مادة الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في بيروت الذي سيصدر قريباً عن «دار نلسن» البيروتية يجيبنا عن هذه الأسئلة الخاصة بالجيل الجديد ومزاجه وثقافته وأدوات تعبيره الكتابية. يقول الضعيف في مقدمته: «تعبّر هذه النصوص، لا شكّ، عن مِزاج شبابي في السنوات الأخيرة، لأنّها لم تُفرض كمواضيع أدبيّة يجب الالتزام بمعالجتها، بل هي نتيجة هوى الطالب واستبطانه ما يَشغَله وما يُهمّه. هي إذن نوافذ مختلفة تطلّ على الزمن الواحد، وهي بهذا المعنى، نماذج عن المشاعر والرؤى الشبابيّة في بداية العشريّة الثالثة من هذا القرن الحادي والعشرين، خاصّةً أنّ جميع هؤلاء الطلّاب هم في بداية العشرين من أعمارهم».
«نُص حامضة» هو الكتاب الثالث الذي يصدره طلاب مساق الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في بيروت تحت إشراف صاحب «عزيزي السيد كواباتا»، بعد الكتاب الصادر في 2023 تحت عنوان «دعوة إلى العشاء»، والكتاب الأول الذي كان باكورة هذه التجربة عام 2018 بعنوان «تهيّأ لدوي حضوري»، إضافة إلى روايات ست صدرت عن طلاب في صف الكتابة الإبداعية في السنوات الماضية بتشجيع وتوجيه من الضعيف وتجربته الطويلة في الكتابة لا سيما الروائية.
نعرض في «كلمات» باقة من نصوص الكتاب كتبها شبان وشابات في العشرين وما علينا سوى الانتظار لسنوات قليلة قادمة: ربما من بين هذه الأسماء من سيقدم لنا وجبة حلوة كاملة من الإبداع والأدب الرفيع.
(*تنظم دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى حفل إطلاق كتاب «نص حامضة» يوم الإثنين 24 نيسان الرابعة بعد الظهر في مبنى الويست هول).
1-لا يمكنكِ تجاهل البحر
(أندريا هواويني، 25 سنة، علم نفس)
- أمّي، لماذا تمضين أيّامك أمام النافذة تحدّقين في البحر؟، سألت تانيا، الفتاة البالغة 6 سنوات.
- لأن الطبيعة جميلة، أجابت الوالدة بتردّد.
نظرت تانيا بفضول وارتباك، وقالت: هذا ما تقولينه دائماً، ومع ذلك لا نذهب للسباحة إطلاقاً!
نظرتْ الوالدة إلى ابنتها عاجزةً عن الكلام، لكنّها ابتسمت لها، ثم ذهبت إلى المطبخ، وبدأت في جلي الأطباق التي تراكمت بعد الغداء، ثمّ نادت تانيا بعد قليل، وسألتْها:
- هل انتهيتِ من واجباتك المدرسية؟
- نعم، أمّي.
- اذهبي إذن للنوم يا أميرة، الوقت يمرّ بسرعة.
بعدما مضت ساعات الليل، استيقظت تانيا وذهبت إلى المدرسة، وعادت لتجد والدتها أمام النافذة تحدّق في البحر، فاقتربت منها وقالت:
- أمّي، لماذا يقول صديقي في المدرسة إنّ أبي حاول قتلي؟
اضطربت الوالدة وأجابت بانفعال:
- ومن هو صديقك؟
- قال إنّ أبي حاول أن يُغرقني في البحر، لذلك أخذتْه الشرطة بعيداً.
حاولت الوالدة أن تنفي ما قالته تانيا. فقوطعت على الفور:
- لكني الآن أتذكّر يا أمّي. أتذكّر كلَّ شيء. الحلم الذي رأيتُه الليلة الماضية لم يكن حلماً، كان ذكرى. كان أبي يُنزِلني للسباحة في البحر، بينما كنتِ تراقبيننا من النافذة. ولكن في يومٍ من الأيام، حاول أن يُغرقني. أتذكّر الآن. أنتِ أنقذتني. فكيف نسيتُ ولم أعد أتذكّر يا أمّي؟ كيف؟
هنا كان على الأمّ أن تجيب بالنفي أو بالإقرار.
يجب أن تكون الأمّ واعيةً جدّاً لما ستقوله، لأنّ ما ستقوله سيحدّد مصير ابنتها.
2-«نُصّ حَامْضَة»
(جاد بو سرحال، 20 سنة، علم نفس)
بدأ داني العمل عند امرأة مسنّة، بأن أحضر لها الخُضار، ووضع كلّ نوع في مكانه.
(هذه كانت أوّل مرّة يعمل فيها لمساعدة والديه في لبنان، على دعم معيشته في الولايات المتّحدة، فالأزمة الماليّة كانت تتفاقم، وهو يكمل دراسته ويسعى إلى نَيْلِ الجنسيّة).
عندما فتح باب الثّلاجة، وقع نظره على صحن فنجان قهوة عليه نصف ليمونة.
«للتبّولة!». قالت المرأة عندما رأتْه يتأمّل نصفَ الليمونة متعجّباً. «عرفتني لبنانيّة، ماهيك؟».
ضحك داني وأجابها «ولو! بكلّ بيت لبناني في نصّ حامضة بالبرّاد».
3- بعناية Zoloft
(سارة الذهبي، 19 سنة، علوم التربية)
دقات قلب متسارعة، وجع لا يحتمل ينتاب كلّ أنحاء جسمي، دوخة، رجفة، تعرّق، صداع.
فجأة... ظلام!
صوتٌ بعيد ينادي: «مش حَنْلَحِّقْ، عم تموت عم نخسر المريضة»، وصوت مألوف يسخر «ما بها شي، تْشِدّ حالها شوي»...(أكيد ماما).
قبرٌ مظلم وصوت الشيخ يقيم الصلاة على روحي، عائلتي تودّعني وطَرقُ نعالهم يتباعد.
صوتٌ غريب يخرق أذنَيّ: «مَنْ ربُّكِ؟ ما دينُكِ؟ من هو نبيّك؟».
تعثّرت في الإجابة، رغم أنّني تدرّبتُ عليها مرّات عدة.
ليتني انتبهتُ في حصّة الدين في المدرسة، لكنّني كنت منشغلةً أفكّر في حبيبي.
- مش وقتها هلق، فَكّري شو بدِّك تقولي (Too Late).
ضمّني قبري، احتضنني بقوّة، لكنّه احتضان عقاب.
لم ألقَ ربّي بعد، وبدأت العذابات تتعاقب، لو رأتني أمّي لضاعفت العقاب قائلة: «هيدا يَلّي ما بيسمع كلمة أمه».
إذا كان عذاب القبر يُخيف بهذا القدر، فماذا سيحدث لي في النار؟
وحدة القبر مرعبة، جليسي الوحيد ليس حبيبي الذي وعدني «أنا معك للموت»، بل الندم الذي لا ينفع.
ليتني كنت منتظمةً في صلاتي وصيامي، ليتني لم أتورّط في علاقات محرّمة، ليتني وليتني...
لكن الأهمّ، ليتني لم أنسَ مرّة أخرى تناول الـ Zoloft، ما كنت سرحت في ظلمة خيالي وارتعبت. الآن انتكس كلّ نهاري.
- هيدا اضطراب القلق عم يعملّي قلق.
4- داني
(كارن سرحان، 21 سنة، هندسة صناعية)
وصلنا إلى الكنيسة، وفُتح التابوت. حان وقت الوداع الأخير. لم أكن أريد أن أودِّع، لم أكن أريد أن أرى جثّة صديقتي أمامي. لكنّ أمي أجبرتني، فوقفت جنب التابوت، ورأيت داني، كما أعرفها، كما كانت آخر مرّة رأيتها. الفتاة نفسها التي أعرفها، مع شعرها الطويل الناعم، وأظفارها الملوّنة بالأحمر كالعادة، ترتدي ثوباً أبيض، لكنّها نائمة نوماً عميقاً، ولون جلدها الأسمر تحوّل إلى صفار، ولا أسمع صوت نفسها العالي خلال نومها. كان الجميع يودّعها، يبكي، ويعانقها.
إلّا أنا، كنت واقفة، لست قادرة على أن أقترب أو أن ألمسها، وتدور نفس الكلمات في ذهني دون توقّف: «داني فيقي، قومي، تحرّكي». ثمّ انكسر كلّ ما في داخلي، وانهار جسدي بالكامل، عندما سمعت أمّ داني تصيح وهي تبكي وتنهار: «داني.. قومي شوفي مين إجا كرمالك، فيقي كرمال كارن»، كان لديها الأمل نفسه الذي في قلبي. بقيت إلى جانبها، قرب التابوت طوال الوقت، أنتظر حركة واحدة، أنتظر معجزة، لعلّها فعلاً فقط نائمة.
انتهى الأمل عندما انتهى وقت الوداع، وأغلقوا التابوت للبدء بالجنازة. جلسنا جميعاً وبدأت التراتيل على صوت عالٍ، وحديث الخوري على الميكرفون. وكان الجميع، مرة أخرى، يبكي ويرتّل. وأنا، مرّةً أخرى، جالسة، ولا دمعة، ولا حركة. أشعر بألم رأس شديد، وكأنه سينفجر من الأصوات. من صوت الطبل، والتراتيل لساعات على تواصل، وبكاء وصراخ الناس من الحزن، رأسي لم يعد يحتمل. طوال الوقت، لم أُزِلْ عيناي عن التابوت، لعلّي ما زلت منتظرة معجزة.
بعد انتهاء الجنازة، هممنا بالخروج من الكنيسة ففاجأنا صوت الرصاص الذي انطلق لختم العزاء. أكثر من مئتي رصاصة أُطلقت في الهواء، لوداع داني. صوت الطلقات عالياً، لا يحتمل، لعدة دقائق على تواصل. جلست في زاوية من الكنيسة، يداي تغطيان أذنيّ، لأني حقاً لم أعد أستطيع أن أتحمّل المزيد من الضجة. وشاهدت التابوت يخرج من الكنيسة، قد ذهبت داني إلى الدفن.
مرت تقريباً سنة منذ يوم دفن داني، وأنا ما زلت أفقد سيطرتي عندما أبلغ مفرق الدامور، وأنا في طريقي إلى الضيعة. ما زال يضيق نفسي كلّما لمسني أحد. ما زلت كلّما رأيت زفّة، أتصوّر تابوتاً يرقص بين الفرقة والطبّال. ما زلت لا أنام إلا بواسطة الحبوب المنوّمة. وكلّما أغمضت عينيّ، أرى جسد داني النائم مرتدية ثوبها الأبيض...
ما زلت أزوركِ لأشهد معجزة استيقاظك.
5-الـ«بي إم دبليو» وشخصياتها الفريدة
(لويس يوسف، 22 سنة، هندسة ميكانيك)
عندما رأيت موديل 1992 للمرّة الأولى، لاحظت فوراً أنّ هناك شيئاً غير اعتيادي حولها، كان يتدفق منها شعور بالوجود الإنساني. الأحداث التي توالت أكدت حقيقةَ كونها سيارة استثنائية.
كنت أتجوّل من بعيد، في معرض السيّارات، غارقاً في أفكاري، عندما وقع نظري عليها وهي مركونة بشكل مائل على سطحٍ منحدِر. هذه الطريقة الإستراتيجيّة بالعرض أظهرت جانبها الأكثر جاذبية: مقدمتها. ومع انسجام ضوء النهار والمكان التي تقف فيه، بدت السيارة حزينة وخجولة وفي نفس الوقت ذكيّة، فاشتريتها بلا تردّد. كانت تشبه فتاةً صغيرة «كتومة» وذكيّة.
وما صار يدهشني حقاً كلَّ مرّة، هو استقبالها لي. فعندما أقترب منها، تنتفخ عجلاتها بلهفة، من الفرح، فترتفع قامتُها وتستقيم، وهذا ما يفيد بسعادتها لرؤيتي. وأحياناً أجدها تحيّيني بزمّورها الناعم. لكنْ، عندما أودّعها وأرحل، تنكمش عجلاتها مع تنهيدة حزن، وكأنّها لا تريدني أن أغادر، وتُصدر زمّورَين: تلك طريقتها في قول «وداعاً لويس».
على الطريق، في صخب وضجيج طرقات المدينة، تصبح سيارتي قلقة ومتوترة، فيبدأ محرّكها بالزئير بعصبيّة كأنها تحاول تخويف السيارات المجاورة، وذلك لحمايتي من أخطار حوادث السير.
ورغم غرائزها الحمائية، فإنّ لديها جانباً شقيّاً: أردت مرّةً اختبار السيناريو الشائع الذي مفاده أنّ الشخص الذي يقرّر بيع سيارته تتعطل في اليوم التالي. قلت مازحاً وأنا داخلها، إنني أفكر أن أبيعها، ولم تمض لحظات على نطقي بهذه الكلمات حتى توقّف محرّكها عن العمل.
عادةً تتعطّل السيّارة في اليوم التالي، لكنّ سيّارتي تعطّلت فوراً.
هي كالإنسان!
وتمرض أيضاً عند تعرّضها للبرد المفاجئ بعد تمرين شاق. في أحد أيام الشتاء، قدتُها إلى الجبال وتركتُها لوقت للقيام ببعض المهمّات. عندما عدت وشغّلتها، أطلق المحرك صوتاً يشبه صوت السعال، وبدأت درجة حرارتها ترتفع بسرعة على مقياس الحرارة في لوحة القيادة. يبدو أن «حنجرتها أصيبت بالعدوى». ما حدث فعلاً هو أنّ أنبوب التبريد الخاص بها تقلّص بسبب البرد، وتحت ضغط الهواء العالي عند التشغيل، خرج من مكانه.
ومع الوقت، وكلّما جلست خلف مقود القيادة، صرت أتساءل: هل سيّارتي هذه مجرد آلة وحسب؟ إنّها تتمتّع بشخصية مميّزة وفريدة، تجعلني أشعر بعمق، أنها أكثر من مجرد وسيلة نقل.
6- السُكَعِيّ الهارب من بلاد العجائب*
(منير السكافي، 22 سنة، هندسة ميكانيك)
جالستُ السُكَعِيَّ في الحرم الجامعيّ. بدأ بالكلام المنتظَر فهرعت أدوّن كلّ ما ذكَر. آثر عن الدروس الانشغالَ، ثمّ حدّث فقال:
حللت في الطّرقات، متنقّلاً بين الحافلات والسيّارات. فسيّارتي متوقّفة بلا وقود، والقطار في تلك البلاد مفقود. إلى العمل وجهتي كانت، أن أصل ولو متأخراً غايتي صارت.
بدأتُ نهاري من أمام البيت، إلى موقف الحافلات الصغيرة تمشّيت. حافلة الموقف ممتلئة تنطلق، ركبت في أخرى تسير والوقت تستبق.
لم أكترث إلى شكل العربة ولا إلى النّمرة، ولم أتنبّه إلى هيئة السّائق ولا إلى الرّفاق في الزّمرة. وما إن استلم السائق الأوتوستراد حتّى شُرْبَ المزيد أراد. فاختلطت في ذهنه الأفكار، وامتزجَت في جسمه السّموم بالسّيجار، وصار الركّاب يلحّنون له وهو يغني ما يحلو له، قصّة عليه وقصّة له، فما سلِمت أمُّه ولا أبوه، ولا أختُه ولا أخوه. قلت: «مه، تمهّلوا ما ذا الهوى ما ذا العمه».
فقال لي السّائق ساخراً: «هيدا الفان بَسّ للرّجال، مش للخيخا بالنّهار قبل الليل». تعجّبت من وقاحته أو صراحته وسألته عن بدل خدمته، طالباً منه أن أنزل فيكون مرتاحاً في رحلته. فقال: «زيدن ميّة ميتيْن أو تلاتة، وبسرعة انزل يا حياتي». خرجتُ وقبل أن أُخرج محفظتي من الجيب، اختفت العربة من أمامي وصارت في علم الغيب. كالبرق من أمامي اختفت، ثمّ عن الطريقّ شتّت، والحاجزَ المتصدّع على اليمين خرقت، وعن الجسر سقطت، ثمّ إلى البحر هوَت.
( *من نص طويل في فن المقامة)