«دليلة» الفلسطينية تغنّي للحياة الآتية لا محالة

«غوصٌ في التاريخ المأساوي الذي تجري أحداثُه أمام أعيُننا في غزّة»: هكذا يصدّر الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الأنطولوجيا الشعرية «غزة: أهناك حياة قبل الموت» التي أنجزها بالاشتراك مع الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان، وقد صدرت أخيراً عن «دار الرافدين» (بيروت/ بغداد)، وتعدّ الجزء الثاني المكمّل لمجموعة أولى كانت قد صدرت عن دار «لوبوان الفرنسية» قبل سنتين وصدرت بنسختها العربية عن «منشورات المتوسط» (ميلانو): إنه الصوت الفلسطيني الذي لن تقوى المجازر ولا آلة القتل على طمسه ودفنه تحت ركام البيوت المهدومة أو البيوت المحروقة. صوت الشعر والحق الذي سيفلح في إيصاله لنا الشعراء والشاعرات المُنتمون إلى هذا الجزء من فلسطين، سواء المقيمون فيه أو أولئك الذين يتوزَّعُهُم الشّتات، «هذا الجزء المُتخلّى عنه من قِبَل الآلهة والبشر على حدّ سواء، أي آخر الدُّرَر ممّا حفظوه في دواخلهم من هويتهم الإنسانية الرّاسخة». إنها قصائد «دليلة» الفلسطينية، الفاتنة والأصيلة في أرضها وزيتونها وبياراتها تقلب ظهر المجن لشمشون الزائف كما يقول ياسين عدنان في مقدمته وتغني في الأرض للحياة القادمة لا محالة: «جاء في الأسفار القديمة ذِكْرُ قصة شمشون الذي حارب الفلسطينيّين وأحرق أرضهم قبل أن تهزمه دليلة وتستدرجه للأسر في غزّة. وتُدوّنُ كتبُ التاريخِ المتأخّرةُ معارك غزّة الثلاث التي تعرّض فيها جيش الغُزاة البريطاني في الحرب العالمية الأولى للتقتيل ليُخلِّف ثلاث مقابر كبرى في غزّة والرّملة ودير البلح. واليوم، ها هي قصائد هذه الأنطولوجيا تسجّل بدورها يوميات عدوانٍ شنيعٍ على غزّة. قصائد توثّق لزمن الإبادة من دون أن تنسى أنّ الحياة هي الأصل»
1- إذا كان لا بدّ لي أن أموت *
إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطاً
(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)
كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظراً أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودّع أحداً
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أنّ هناك ملاكاً
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية.
* رفعت العرعير، وُلد في غزّة عام 1979، واستشهد فيها في 2023. حصل على ماجستير في الأدب الإنكليزي من كلية لندن، وعلى الدكتوراه من جامعة بوترا في ماليزيا.
2- تطمين
لا تكترثوا للمشهد الأخير
إن كان حرقاً أو غرقاً أو قفزاً من علوٍ أو طعناً
في غزّة نحن نموت عدة مرات قبل هذا.
عيد ميلاد
مُتعبٌ من الركض في متاهات الحياة
بلا وجهة واحدة آمنة منذ ستة وعشرين عاماً.
خطوة
وأنا أجوب الطرقات، أفتش على الأرصفة عن أيّ خطوةٍ أعرفها توصلني إلى وجهتي المجهولة.
سؤال
ثم تسأل نفسك، هل كانت كل تلك الأشياء حقيقةً أم مجرد حلم صحوتَ منه فجأةً؟
قطرات
قطراتُ المطر الأولى تغسل قلوبنا قبل أن تُبلِّل الأرض.
سوف أنجو
كان يشبه تحديّاً عظيماً أن أنجو من قبضة الأيام الفائتة. لم يساعدني شيء عدا معرفتي العميقة بأنني إن استمررت في الركض فسوف أنجو.
السادس من نوفمبر
أحمل ذاكرةً لا تتلاشى مع الزمن، ومُثقلٌ بالذكريات المُحمّلة بكلمة «ليت». منذ مدة وأنا أتحاشى التواريخ وما تعنيه لي من ذكرى. أنا الذي أُعدّي روزنامة الأيام كأنّي أعبر حقلاً للمتفجّرات. أحاول بقدر ما أستطيع أن لا أقف على أيّ واحدة منها كي لا تنفجر بي.
وبعد ركضٍ مُستمر وجدتُني أقف فجأةً فوق السادس من نوفمبر.
مثل أن تركض أميالاً خوفاً من رصاصة طائشة، ثم تتوقّف لالتقاط أنفاسك فتجد لُغماً أرضياً تحت قدميك.
الأربعاء 3 مايو 2023
بعد العشرات من أطنان القنابل التي أُلقيت في قلوبنا قبل أن تصل الأرض، وبعد ليلة مليئة بالتوتر والخوف والترقب، يشرق الصباح من دون أن ننام ومطلوب منا أن نكمل يومنا كأنَّ شيئاً لم يكن! يومٌ آخرٌ من العيش في غزّة، غزّة التي دومًا تبعد عن الحرب دقيقةً واحدة فقط!
* نور الدين حجاج، وُلد عام 1996 في غزّة. شاعر وروائي. حصل على بكالوريوس رياضيات حاسوب من جامعة الأزهر في غزّة. استشهد حجاج يوم 3 كانون الأول (ديسمبر) 2023 إثر غارة جوية إسرائيلية على منزله في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزّة.
3- قصائد *
فيكَ أحمِّمُ قتلايْ
وأدقُّ جنائزي
وفيكَ... أيّها الموتُ
أدوّي
أنا الطلقةُ الواحدة
أنا طلقةُ التجربة.
.........
إيييه غزّة...
ليتكِ تأخذين قيلولةً طويلة
من أجل ترميمٍ أخيرٍ
لهذا الجسد المُتهالِك
ولتنامي بهدوء
كما الأوراقُ البيضاءُ
دون حكاية...
.........
أتيْتُ كشجرةٍ فقدَتْ ساقَها
في صراع حطّابين قُدامى
وكانت النارُ
في انتظاري...
لم يكن أهل غزّة
مرئيين بالنسبة إلى العالم،
بل ضباباً يتبدَّد...
نحنُ الضبابُ المُتبدِّدُ
حول البيوت ومحيطِ الأشجار
على السّاحِل، في العتمة
وفي الزوايا الحادّة...
غداً،
عندما تُشرِق الشمس
لن نكون هنا...
يا له من خرابٍ في الوجود
يسطعُ بدلاً من العدمِ...
إننا موجودون...
ونحترق...
إننا نضيءُ
المسْخَ البشريّ
بكل أضوائنا الممكنة...
*هشام أبو عساكر، شاعر وكاتب من مواليد 1990 في غزة. يقيم حالياً في إسطنبول. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان «موتى يحكمون العالم» عن «دار الأهلية» في عمان، 2017).
4- عشرون علبة سردين *
(كُتبت بعد حرب 2014)
لقد تفنّنا كثيراً في استخدام السردين
مرة نأكلها بدون شيء
ومرّات مع سلطة المعكرونة
وأحياناً إلى جانب الفول
ماذا يفعل الإنسان بعشرين علبة سردين
مُخزَّنة في غرفة النوم
تحت سرير أمي
غنيمة أيام الحرب التي توصف باللعنات.
علب السردين المنقطة باللون الأحمر
مكتوب عليها «تبرُّع من اليابان»...
في الحرب لا نفكّر بالشفقة
نريد أن يرسلوا لنا بطاطين دافئة
وأن يتبرعوا لنا بعُلب السلام
كنت أعُدُّ الساعات والليالي
وأعضّ الوقت بحزن
هيّا أيّتها الحرب
انصرفي من وجوهنا
لقد تعبنا منك
اتركينا نجلي قلوبنا من الخوف
خذي علب السردين
التي جلبتِها معك
لسنا جوعى
خلق الله سمكَ السردين
وصيادين أقوياء
فقط لأجلنا في الحروب...
يصطادون السردين،
يعلّبونه
ويُلصقون عليه عبارات حزينة...
كل ذلك لأجلنا.
سوف نظلّ نشمُّ رائحة البحر
ونتخيّل الشاطئ
والقواربَ التي لا بدَّ وأنّها جميلة
ونأكل السمكَ الحُرّ
حين نختبئ في الملاجئ الرّديئة...
سوف نعيش حتى آخر حرب
حتى آخر سمكة سردين يصطادونها لأجلنا.
* كوثر أبو هاني، شاعرة وكاتبة من مواليد عام 1989 في غزّة، تقيم حالياً في السويد. نشرت مختارات من القصص القصيرة في وقت مبكر، ونشرت قصصاً للأطفال ترجمت إلى لغات عدة.
5- ما تبقّى *
انتهت المعركة وبقيَ الكثير،
بقيت ساعةُ يدٍ على الرّمل
تُغطّي عقاربَها بُقعُ الدم،
بقيت صورةٌ في جيبِ أحدِهم،
صورة ُعائلة لن تعود مُكتملة
بعد اليوم،
كسرةُ خبز لم يُكملها،
أقسَمَ أن يضعها على نافذة
علَّ طائراً ضالّاً يُطفئُ بها بَذرةَ جُوعِه.
بقيَ الغُبار على ثيابِ الهواء،
بقيَ الصُّراخ مُلتصِقاً بقطراتٍ
لم تسقُطْ بَعدُ من الغيوم.
بقي الصمت مرتعشاً يملأ ببطنه المُكوّر
ما تركتْهُ حوافرُ الخيل.
تهمس الشمس، ويسمعها البحر، تقول:
ليت النهار ما كان،
ليتهُ ابتلعَني، اللّيل.
* مصعب أبو توهة: ولد عام 1992 في مخيم الشاطئ في غزّة لعائلة مُهجّرة من يافا على إثر نكبة 1948. صدر ديوانه الأول «أشياء قد تجدها مخبأة في أذني» عن دار City Lights في سان فرانسيسكو. صدر له بالعربية عن «دار النهضة » في بيروت ديوان «تستريح الأرض من كلامنا» عام 2024.
6- أعطِهم خدَّكِ الآخر *
هذا العالَمُ الأبيض
الذي لمْ يعد يُؤمنُ بِالمسيح
يُناشدُكِ يا غزّة بِكلماته:
أعْطِهم خدَّكِ الآخرَ.
لا يُؤلِمُهم تاريخٌ أو جُغرافيا
أعْطِهم خدَّكِ الآخر يا غزّة
أعْطِهم البحرَ
كيفما شئتِ هذه المرَّة.
يُناشدُكِ العالمُ الآن
وأنتِ تشهدينَ ما لمْ تشهدْهُ مدينةٌ على الأرض أنْ قبِّلي يدَ من قتلَ أبناءكِ.
لكن لا شيءَ يا غزّة سيُعيدُ الأشلاءَ
إلى أجسادٍ كاملةٍ
لا سلامَ سيُعوِّضُ حتّى جنازةً واحدةً
مِن كُلِّ تِلكَ الجنازاتِ التي لمْ تحْظَ بِشُهدائها.
رُبَّما لمْ يعُد يصعدُ الشهداءُ إلى السماء
أو لمْ يعُد يحظى جميعهم بِهذا التّرف
كيفَ يُمكنُ للأشلاءِ أن تُحلِّقَ عالياً؟
رُبَّما لمْ يُسلِم الشهداءُ للشهادة
إلّا حينَ أدركوا أنَّها الطريقُ الوحيدةُ
لالتحامِهم مع أرضِهم أبدَ الأبد.
■ ■ ■
لا شارعَ ولا حاكمَ مِنَ الشرق أو الغرب
يمسحُ الموتَ عن جبينكِ يا غزّة
لا شارعَ ولا حاكمَ يُقدِّم لكِ العزاءَ على الأقلّ
لا بُدَّ أنَّ الطائراتِ تحولُ دونَ تدخُّلِها
لا عليكِ يا غزّة...
يُقالُ إن الموتَ نِعمةٌ يفتقدُها المُخلَّدون.
مِصرُ جاءتكِ أخيراً بِأحصِنةٍ طروادية
لا حِصاناً واحداً فقط
زغرِدي
فالأحصِنةُ -لا سمحَ الله- ليست مُعبَّأةً بِالجُنود
أغذيةٌ فقط
كي لا تموتي يا غزّة جائعة.
الأحصِنةُ مُعبَّأةٌ بِأكفانٍ
لا تليقُ بِجيرة الفراعنة
وليس بينها نُسخةٌ واحدةٌ لِكتابِ الموتى
ليس بينها قطرةُ وقودٍ واحدةٍ تُضيءُ علينا
فنُميِّزُ بها موتَنا مِن نجاتِنا...
هلّلي يا غزّة
لمْ نعُد نُقتَل بينما ينامُ العالم
العالمُ مُستيقظٌ جِداً: يرقصُ ويُغنِّي
بعضُهم يقرأُ ما يَحتملُ مِن أخبارنا
وقليلٌ يتظاهرونَ في أوقاتِ الفراغ.
وعالمُنا العربي على أحرّ مِن الجمر
ينتظرُ أن تمضي ألفُ ليلةٍ وليلة
كي تُخلِّصي يا غزّة نفسَكِ
بِسردِ آلافِ الضحايا…
* يحيى عاشور: وُلدَ في غزّة عام 1998 لأسرةٍ لجأت من بئر السبع عام 1948. درس علم الاجتماع وعلم النفس. صدرت له عن «مؤسسة تامر» في رام الله قصة للأطفال «لهذا ريَّان يمشي هكذا» (2018) وديوان شعر للفتيان «أنت نافذة، هم غيوم» (2021). عالق منذ بداية الحرب على غزّة في الولايات المتحدة الأميركية.
7- على المراكِب أن تأخذ الأطفال نحو شيء آخر *
هناك بترٌ في كلّ مكان
ولا أعرف لماذا لا تزال الأزهار تنبت في الحدائق
عليها أن تنبت في أماكنَ أخرى
داكنةٍ
مخيفةٍ
مظلمة
عليها أن تنمو في إطارٍ آخرَ
أن تنمو لتصير أياديَ وأقداماً
لتصير بيتاً
أو ضحكةً
على الأزهار أن تُغيّر طريقها
وتنمو
تنمو
تنمو
في أماكنَ جديدةٍ للأبد.
هناك بترٌ في كلّ مكان
ولا أعرف لماذا لا تزال الموسيقى تخرج من الآلات
لماذا تتحدّث الآلات؟
على الموسيقى أن تخطو
تخطو
لتصير صراخاً
أو رجفةً
أو دمعةً
على الدموع أن تصير موسيقى
على الرّجفات أن تستحيل أصواتاً
مستمرّةً وعالية
أصواتاً لا تمكث في مكانٍ
لا تهدأ
على الموسيقى أن تُغيّر طريقها
وتصرخ
تصرخ
في أجسادٍ جديدة
إلى الأبد.
* نور بعلوشة: شاعرة من مواليد 1988 في شمال غزة، تقيم حالياً في بروكسل. تُحضّر أطروحة حول «فلسطين والاستعمار» بالتعاون مع قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة استوكهولم. نشرت مسرحية بعنوان «فتى البيانو» عام 2010 عن «مؤسسة تامر» في غزة.
8 - ليلة حبّ واحدة *
اتركي لي فرصةً
أيّتها الحرب
كي أكتب كل ما في ذاكرتي
وقلبي
كي أقول كلماتي الأخيرة لأصدقائي
كي أعانق أبي وأمي
لأوّل مرة... وآخر مرّة
كي أعيش ليلة حبّ واحدة في عمري
اتركي لي فرصة
لأبكي
ليحزنني همٌّ دون أن يشاغلني آخر
اتركي لي فرصة
وتوقّفي قليلاً عن طحني.
* شروق محمد دغمش: من مواليد غزّة عام 1996. درست اللغة العربية وآدابها في جامعة الأزهر في غزّة. تكتب الشعر والقصة. وهي الآن نازحة بدير البلح.
9- قبل أن تنتهي الحرب *
كان على الدّمار أن يأخذ نصيبَهُ الأكبر
كان على الألم أن يتّخذ أشكالاً أكثر حِدَّة
طالما اختار البشرُ جعْلَ العالم مكاناً آمناً
منذ قرون مضت
ولم، ولن يفلحوا في ذلك.
عندما كان الانتظار خياراً
كان صبري قد انتهى
ولم تنتهِ الحرب
وبات الأمرُ يشبه مسلسلَ رُسومٍ متحركة
يعود فيه الشرير بخطة جديدة
رغم انتصار الخير في المعركة السابقة
التي كنا نتمنى أن تكون الأخيرة.
وحدَهُ الإنسان على سطح هذا الكوكب
من يحمل الشَّرّ كَصِفةٍ أصيلة.
كيف وصلنا إلى هنا؟
كيف أصبح الموت خياراً
مطروحاً ومُرجَّحاً في كل الأوقات؟
وكيف تخلى البحرُ عن زرقته
لصالح الأحمر
الذي يخسر هويته
تحت سطح الماء؟
يبقى الأحمر أحمر،
لكن البحر تعب مما يحصل على اليابسة،
مثل أعيننا التي تعبت من حرقة البكاء،
من وميض الانفجارات،
ومن رؤية الأشلاء المتفحِّمة.
تعِبَ البحر من حياد السماء،
ومن الظلام الذي انهار تحت وطأة الخوف،
وتنحَّى عن منصبهِ السِّيادِيّ،
احتجاجاً في المقام الأول...
على محض وجود العقل البشري.
في مكان آخر من العالم
في باقي أنحاء العالم
يولد الأطفال
ويحصلون على وطن مجاني
ونحن ندفع حياتنا ثمناً
للحصول على وطنٍ نُدفَن فيه
إن حالفنا الحظ.
لا يكفينا أن يشعر العالم بالندم.
لن يُشفي جراحَنا
تأنيبُ الضمير
ولا كل المرثيات المثقلة بالحزن.
عالمٌ كهذا، لا نفخر به
لا نعترف به
لا نستطيع الوثوق
بأيٍّ من قيمِهِ
التي لم نعرف منها
سوى الجانبِ النظريِّ
مُستحيلِ التطبيق.
* أشرف فياض: وُلد في غزّة عام 1980. غادر بلده للعمل في السعودية. أُلقي القبض عليه عام 2014 إثر نشر ديوانه الأول «التعليمات بالداخل»، الصادر عن «دار الفارابي» في بيروت، بتهمة «التعدي على الذات الإلهية». حُكم عليه في البداية بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى السجن لمدة ثماني سنوات بفضل حملة تضامن دولية لمصلحته. أُفرج عنه في آب (أغسطس) 2022، ولم يُسمح له بمغادرة الأراضي السعودية. ترجم له عبد اللطيف اللعبي ديوانين إلى الفرنسية: «التعليمات بالداخل» (2015 عن دار Le Temps des cerises)، و«أعيش أوقاتاً صعبة» عن «بيت الشعر رون آلب» عام 2019).
10- ما قاله الراوي *
اخلعي عنك سترةَ الكبشِ، أطلقي الذّئبَ يعوي
هي الطّريقُ مخلوقةٌ للذّئابِ، أطلقيهِ واتبعي خطوَه بحذرٍ
تعثّري وانهضي وأدمي ركبتيك وكاحِليك
لا تهمّنّك الأشواكُ فالدّربُ مُعدٌّ خصّيصاً لامتصاصِ دمك
انفُضي عنكِ كلّما ازدادَ الثقلُ غبارَ مَن أحببتِ
ومَن نسيتِ ومَن بكيتِ
لا تستقيمُ الرّحلةُ إلا بنارِ الذّاكرةِ
دعيها تخرجُ من مسامِك، من أذنيكِ، من عينيكِ، من فمِك
من ذاك المحتضنِ سرَّك البهيَّ
حصّني ذاتَك بما حفظْتِهِ من وشوشاتٍ من حولكِ في غفلةٍ منهم
واحملي في جرابِك حفنةً من دعاءِ امرأةٍ احتضنت الوجعَ قديماً
وغرستْه فيكِ سُكّراً.
وخذي معك منديلاً رطباً لمْلِمي فيه دمَك المتعثّرَ
الذي أعطتْهُ الطّريقُ شكلاً مغايراً
امتصِّيه حينما تشتدُّ الشّمسُ فوق رأسِك
فلا يفصِلُك عنها سوى غيمةٍ بحجمِ إصبعٍ
سوف يروقُك مذاقُ الدّمِ فيه فلا تجزعي
أكملي دربَك ولا تفزعي إن نبتَتْ وُريداتٌ حُمرٌ كلّما خطوتِ أكثرَ
الدّمُ لا يذهبُ سُدى، الدمُ ابنُ الأرضِ
التقطي حجراً من الطّريقِ، وحذارِ أن تختاري حجراً أملس
فأنتِ إذا فعلتِ فقدتِ نصفَ الغايةِ
اختاريه طافحاً بالنّتوءِ، جارحاً كصقرٍ
دعيه يمسّدُ جسدَكِ كلّما شدّتكِ الذّكرى مِن شَعرِكِ
اجعليه رفيقَك المخلصَ فسترينَ ألّا رفيقَ لكِ سواه.
يا ابنةَ الرّيحِ والصحراء وابنتي الوفيةَ لمِلْحِي
عانقي جسدَك كلّما عضّكِ البردُ
احفظيهِ جيّداً من الهذيانِ
فأنتِ أدرى بخَباياه وأنتِ التي بيدِها إسكاتُ لهاثِه
حصِّنيهِ من الوجوهِ الصّارخةِ في روحِك
لم تكوني جاهلةً بالدّربِ فاحفظِي وصايايَ حتّى تأمَني
واصلي المسيرَ حتّى لو أظلمَ الوقتُ عليكِ، في الظلمةِ يتجلّى النّور.
* فاتنة الغرة: من مواليد 1974 في غزّة. تعيش في بلجيكا حيث تدير صالوناً شعرياً موسيقياً يمزج بين الثقافتين العربية والفلامانية. صحافية ومترجمة أدبية من الإنكليزية والهولندية إلى اللغة العربية. صدرت لها خمس مجموعات شعرية من بينها ثلاث باللغات الإيطالية والإسبانية والهولندية.
11- لا تبكِ معي *
لا تبكِ معي، أريد منكَ يداً لا أكثر.
يدًا أعدُّ أصابعَها فأنسى الوقت الرديء.
يداً تحملني كأنها ترفعُ دعاءً أخيراً لغارق.
يداً تغرفُ من ماء النهر فتصنع حياة جديدة.
وأنا غارقٌ باللمسات القديمة، حواسي هناك تناديني:
عُد إلى الدهشة وانسَ كل الإجابات.
كلُّ سؤال تجيبُ عليه تقتله،
كل سؤال يدور داخلك يُلغِيك،
وتقتلك الدهشة أيضاً، لكنك لا تشعُر إلا بالموت الذي يتناقله الناس.
أخبرْني: كيف أستعيدُ جزءاً مني مسَحَتْه الرّيح؟
كيف أردُّ على الحياة بالحياة، وأنا أموت في المُنزَلَق،
وتسحَلُني وحدتي على أرض الغريب.
أريدُ يدكَ تلمسُ جسدي لغايةٍ في أوردتي،
فأنا تركتُ ربِّي هناك قبل الحرب، وأخافُ أن أنساه.
وأنا ألمس يدك، أعرف أنّ للّمس تفسيرات أغرب من تفسيرات الموت.
وإنّي حين لمستُ يدَ ربي، كنت أريد تفسيرات الحياة، لا ما بعدها.
الآلامُ يمكن حملُها باليد،
يمكن نقلُها من بيت إلى خيمة، لتروي قصة شعبٍ لا يُجيد الانتحار،
هل جرّبتَ أن تحمل جسداً يُباد على مسرحٍ، أمام جمهورٍ يُصفِّق؟
دوماً كان المكانُ ضدَّ أبطالِه في هذه الرواية،
ويأبى التاريخ إلا أن يخيط لباسَهُ بالدَّم،
فالجنرال يبحثُ عن تسليةٍ في بلادي.
* حسام معروف: من مواليد غزّة عام 1981. حاصل على بكالوريوس كلية العلوم، وعلى «جائزة متحف محمود درويش» عن قصيدة النثر عام 2015. صدر له في الشعر «للموت رائحة الزجاج» (2015) و«الحلاق الوفي لزبائنه الموتى» عام 2022. وأصدر روايته «إزميل رام» عام 2020.
12- أقل من أن يُعجِب أحداً *
عندي غرفةٌ مؤخّراً
منذ 1948 لم يدخُلها هواء
لذا حوّلتُها إلى مسرح
كلّ ليلةٍ ألقِي من خشبته قصيدةً على جمهورٍ غائب
سعيداً بموسيقى الآلام التي تُعزَف
دون أن يسمعها أحد.
وعندي وردةٌ
أعتقدُ أنها ستموت قريباً
أكتبُ فقط كي أعبِّر لها عن إعجابي
ولدّي كلبٌ
اشتريتهُ بكل ما أملكُ من أصدقاء
كل ليلة أذهبُ في نُزهةٍ مع غُراب ضائع
وأحتفظُ بدرَّاجة
سرقتُها من طفلٍ
كلَّ نهارٍ أقطَعُ 45 كيلومتراً
دون أن أنتبه...
مع هذا كلّه
أعرف أني وحيدٌ وغريبٌ هنا
حُلمي أن أقابل امرأة على الدّرج
هناك سأهديها أوَّل ديوان لي
وأعرفُ تماماً - منذ الآن
أنه لن يُعجبها.
* أنيس غنيمة: من مواليد 1992 في غزّة. حاصل على «جائزة الكاتب الشاب» في مجال الشعر (2017) التي تمنحها «مؤسسة عبد المحسن القطّان» عن مجموعته الشعرية: «جنازة لاعب خفّة» عن «الدار الأهلية» في عمان.