فلاسفة العرب والإسلام... «إشكالية العقل والخيال»

يرمي محمد المصباحي حجراً في بركتنا الراكدة الآسِنة. في كتابه الجديد «فلسفة الخيال في الفكر العربي الإسلامي» (منتدى المعارف ـ بيروت)، يقدّم الباحث والأكاديمي المغربي ملاحظةً شاملةً حول تراكم الإسهامات الفكرية لفلاسفة الحضارة العربية الإسلامية في مبحث الخيال، مفادها أنَّ السياق الثقافي الذي انطلقت منه فلسفة الخيال في هذه الحضارة، كان مطبوعاً بالتقابل بين العقل والخيال: تقابل بين تصوّر للعالم قائم على العقل والبرهان من جهة، وهو التصوّر الذي تقول به الفلسفة، ومن جهة أخرى رؤية للعالم تقول بها الشريعة، مستمدَّة من الخيال ولواحقه التي تتجلّى في قصص واستعارات وأساطير.
يستنتج المصباحي أنَّ فلسفة الخيال لدى الفلاسفة المسلمين، كانت تتسم بطابع إشكالي يتكوّن من خمسة عناصر تقتضي منهم أولاً تحديد وضعيته على مستوى الوجود: هل هو جزء من الجسم، أم قوة من قوى النَّفس، أم هو بالأحرى جوهر قائم بذاته؟ وكان عليهم، ثانياً، أن يعالجوا مسألة ما إذا كان التَّخيل قوَّة واحدة أم يتشكّل من قوى عدة. وكان عليهم ثالثاً أن يقرِّروا ما إذا كانت علاقة الخيال بالعقل علاقة موضوعٍ بذاته أم علاقة محرِّك بمتحرِّك. كما كان عليهم أن ينظروا في دور الخيال في نشأة الأحلام والرؤى الغيبية والأمراض النفسية والعقلية؛ وأخيراً، كان عليهم أن يحدّدوا: هل الخيال انفعال أم فعل؟
يفتتح المصباحي كتابه بطرح المفاهيم وبسطها في إطارات ثنائيَّة لم تتخلَّ عنها الفلسفة العربيَّة الإسلامية ربَّما حتى في المدة الراهنة، واضعاً الحسِّيَّ مقابلَ المقدّس، الإنسيَّ مقابلَ النَّبويِّ والرُّبوبيِّ، في محاولة لفهم الخيال المفرد الذي يتحوَّل إلى خيالاتٍ متنوِّعة الأنساق والمصادر والمشارب في اختلاف قوتها ووظيفتها، وتدرجاتها، وتقديرات مدى اتصالها وانفصالها عن العقل.
وتفادياً للسقوط في التجريد الذي يسود الكثير من الكتب الفلسفيَّة العربيَّة، يسائل المصباحي في فصول تطبيقية ثمانية هذه المفاهيمَ والإشكالات المركَّبة عبر المتون الفلسفية لبواكير التفكير العربي ــ الإسلامي مَشْرِقاً (الكِندي، الفارابي، ابن سينا) ومغرباً (ابن باجة وابن رشد)، من دون إهمال ذُرى التصوّف الفلسفي شرقاً وغرباً مرَّة أخرى مع ابن عربي وصدر الدين الشيرازي... ليخلص إلى جدلية التعاون والتّنافي بين العقل والخيال في مجمَل الحضارة العربية الإسلامية، ويعرِّف الإنسان، من هذه المنطلقات والتحاليل، في فصل ختاميٍّ، بصفته «موجوداً بالخيال، ذاتاً بالعقل».
ربَّما كانت المأثرة الأولى لهذا الكتاب، خصوصاً في وضعنا الذي يتسم بانحطاط فكري بالغ ناجم عن تردٍّ سياسي يشابه موتاً سريريّاً، أنه يردُّ على أطروحات استشراقية مغرضة لا تبدأ بإرنست رينان ولا تنتهي ببرنارد لويس وطابوره العربي الاستغرابي، تتّهم العرب والمسلمين بقصور خيالهم واعتقال عقلهم. ادعاء يبيِّن كتاب المصباحي بشكل غير مباشر، أنَّه نابع من قراءة متمركزة حول الذات الغربية في تعريفها لمفاهيم العقل والخيال، عبر وضعها في أطر عنصرية وعِرقية، أبعد ما تكون عن الدرس الأكاديمي والتجرُّد والنزاهة الفكريَّين.