علويّو سوريا... عن الجذور الثقافية والوطنية والعروبة

الرسومات المرفَقَة للفنان السوري بطرس المعري زيت وحبر على كرتون
الرسومات المرفَقَة للفنان السوري بطرس المعري زيت وحبر على كرتون


«عندما أتوا بحثاً عن الشّيوعيّين،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن شيوعيّاً./ عندما أتوا بحثاً عن النّقابيّين،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن نقابيّاً./ عندما أتوا بحثاً عن اليهود،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن يهوديّاً./ عندما أتوا بحثاً عن الكاثوليك،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن كاثوليكيّاً./ ثمّ أتوا بحثا عنّي،/ ولم يبق أحد ليحتجّ». (قصيدة كتبها الرّاهب مارتن نيمولّر في «معسكر داخّاو» النازي ــ قام كاتب النّصّ بلعبة لغويّة على فعل «احتجّ». المحتجّون هو اشتقاق وأصل كلمة: بروتستانت).

■ ■ ■

يا هالعريس بلادك ما قريناها/ يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها/ وتفصلت بحلب واهتزت بالشام/ يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي/ الجواد اخذتي، والنذال خليتي/ يا نجمة الشام وين وين عليتي/ الجواد اخذتي، والنذال خليتي/ نذراً عليّ إن عادوا حبابي ع بيتي/ لأضوي المشاعل وحنِّي (أهزوجة من التراث الفلسطيني السوري).

■ ■ ■

في مثل هذا الوقت مِنَ السَّنة الماضية (رمضان 2024)، انبرينا للدفاع عن فرقة «الحشاشين» كفِرقة ثورية في التاريخ العربي الإسلامي ــ الإسلامي، وما يستتبعه من دفاعٍ عن الطائفة الإسماعيلية ككُلٍّ، وعن فرعِها النِّزاري خصوصاً، باعتبارها مكوِّناً من المكوِّنات الفاعلة فكرياً وسياسياً في النسيج الاجتماعي لكثير من البلدان العربية والإسلامية، في مواجهة مسلسل تلفزيوني شاء تشويهَها لمقاصد سياسية وطائفية صرفة موَّلَتها رساميل مصرية وخليجية.

وقَبْلَها انبرينا للدفاع عن حرية سلمان رشدي في التعبير والتفكير إثرَ تعرُّضه لعملية اغتيال لأسباب دينيَّة، من دون أن يعفينا ذلك من فضح ارتضائه أن يكونَ أداةً همجية لاستباحة الإدارة الأميركية للبلدان العربية والإسلامية عبر حروبها الاستباقية والإبادية.

سيندهش القارئ لرؤية التقاطعات بين سياسات الانتداب الفرنسية والجرائم الوحشية التي شهدناها أخيراً

كنا ساعتَها الجريدةَ الوحيدة عربياً التي اتخذت هذا الموقف النقدي المتميز، المدافع في المطلَق عن حرية التعبير والمناهض أيضاً في المطلق لسياسة الكولونيالية الغربية. نشيرُ هنا إلى أننا، في تحاليلنا، أبعد ما يكون عن الميل إلى التقوقعات الطائفية بغرائزها وأحقادها، وإنما نتناول الطوائف هنا كمعطيات سوسيولوجية وتمظهرات ثقافية، محاولين ما أمكن إبعادها عن إسقاط العقائدي على السياسي وعكسه.

فما هي إذن أصداء الماضي القريب لإسهامات الطائفة العلوية في تاريخ سوريا الحديث في حاضر المجازر التي جرت هذه الأيام في الساحل السوري وما استبقها من تحريض وتأليب أسهمت فيه للأسف شخصيات محسوبة على النخبة المثقفة؟ وهل من أصول للفاشية الدينية الطارئة في سوريا؟

الأكيد أن القارئ سيندهش لجغرافيا وتاريخ يتكرَّران، لتقاطعات بين سياسة الانتداب الفرنسي الإجرامية في سوريا والمجازر التي ارتكبتها الميليشيات الجهادية التي مكَّنها الغرب وتابِعُه التركي من أن تصير سلطة أمر واقع في سوريا الرَّاهنة؛ وسيندهش أكثر للكثير من الروابط العريقة بين أهل الساحل السوري وفلسطين.

1. ابن جبلة شهيداً ورمزاً فلسطينياً

ربَّما غاب عن ذهن الغالبية أنّ عز الدين القسَّام، الذي تسمَّت على اسمه الكتائب التي تشكِّلُ الجناح العسكري لأهم فصيل في المقاومة الوطنية الفلسطينيَّة (حماس)، هو سوري من مواليد جبلة (1871). درَس في الأزهر وكان من تلاميذ الإمام محمد عبده.

شارك في الثورة السورية الكبرى إلى جانب الشيخ صالح العلي، وحاولت سلطات الانتداب الفرنسي استمالته بتوليته القضاءَ، فرفض وحُكِمَ عليه بالإعدام من قبل ما يسمّى بالديواني العُرْفي، فهرب إلى حيفا في 1922، حيث مارس التدريس والإمامة والخطابة. وأسهم في تأسيس جمعيات ثقافية وسياسية لمناهضة التغلغل الصهيوني الناشئ ساعتئذ، فانعقد عليه إجماع الفلسطينيين واحتسبوه واحداً منهم، ووجهاً عربياً بارزاً من وجوه الكفاح الفلسطيني بشِقَّيه المدني والمسلَّح، ليستشهِدَ مشتبِكاً مع المشروع الصهيوإمبريالي، ولتَحْمِلَ اسمه لاحقاً كتائبُ جناحٍ عسكريٍّ لأبرز فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية الحالية (حماس).

وعلى العكس من عزّ الدين القسام ومن الزعيم الذي تربَّى على التنوير المصري في بواكيره الأولى مع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، على العكس من السوري الذي رأى في انتفاضة الشيخ العلي آمالاً لشعبه، برزت خلال الطوفان السوري الذي بدأ في 2011 ظواهر سلفية جهادية هي مشتقات تنظيم «القاعدة» الموظَّبة في مطابخ أجهزة الاستخبارات التركية والخليجية والغربية، وفقاً لخطة تستهدف إتلاف النسيج الاجتماعي السوري ومقدَّراته العسكرية والفلاحية والنفطية، من دون أدنى تحرُّج من إدارة الظهر لـ«إسرائيل»، وتلقي العلاج في مشافي الكيان الصهيوني.

2. فتوى مفتي فلسطين إسناداً لعلويي سوريا

عندما كانت فرنسا تحتلّ سوريا، وتحاول التلاعب بالطوائف قبل مئة عام، لم يخرج أحد ليرهب الناس دعماً لها ويُخضِعهم لإرادته بممارسة المجازر. كان ذلك زمناً ذهبياً، قبل اكتشاف التكفير وظهور شيوخ الفتنة. أحد عقلاء ذلك الزمان، قطع الطريق على فرنسا: كان مفتي فلسطين، ورئيس «المؤتمر الإسلامي العام»، الحاج أمين الحسيني، حكيماً وعروبياً جامِعاً حين أصدر عام 1936، بعد إخماد الثورة السورية الكبرى وبروز أطروحة دولة العلويين من جديد، فتوى قال من ضمن أهمِّ ما قاله في متنها: «إن هؤلاء العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان».

كانت لهذه الفتوى، من قائد وطني وديني حقيقي، ردود أفعال إيجابية من رجال الدين العلويين وغيرهم، فأصدروا فتاوى مماثلة تدعو إلى وحدة سوريا وشعبها، بمختلف طوائفه وأديانه ومِلَلِه.

إزاء فتوى الحسيني، واجهتنا منذ 2011 فتاوى شيوخ تكفيريين تقف خلفهم آلة إعلامية جهنمية وضخُّ أموال بمليارات الدولارات ودعم بمقاتلين سهلت تركيا نفاذهم نحو الداخل السوري، تحت شعارات «بالذبح جئناكم يا نصيرية»، و«المسيحي ع بيروت والعلوي ع التابوت».

3. الشيخ صالح العلي زعيماً للثورة السورية الكبرى

«يا صالح فرنسا لا تصالح/ وعظم إلى انكسر ما ظن صالح
يا سايس قدم المهرة لصالح/ بروس حوافِرَا تقطر دمَّا»

(أبيات زجلية كان الشيخ صالح يرددها بعد انتهاء الثورة متأثراً، وهي للمجاهد علي زاهر، من قرية حمام أبو علي واصل في جنوب مقاطعة بانياس، الذي أعدمته سلطات الاحتلال الفرنسي). سطَّر تاريخ سوريا اسمَه كمفجِّر لأول ثورة في وجه الاحتلال الفرنسي في جيش شعبي كبَّد المستعمِرَ الكثير من الخسائر، وقبلها طرد العثمانيين من كامل الساحل السوري.

ولد الشيخ صالح العلي في عام 1885 لأسرة فاطمية توزعت بين مصر وسوريا والمغرب، لأسرة قارعت الصليبيين منذ حلولها في جبال الساحل بين صافيتا وجبلة، لِوالده الشيخ علي سلمان من قرية المريقب، التابعة لمنطقة الشيخ بدر في جبال الساحل السوري ولِوالِدَته حبابة ابنة الشيخ علي عيد من قرية بشراغي القريبة من مدينة جبلة.

بدأت ثورته ضد العثمانيين بشكل عفوي، حين حاول بعض الجنود العثمانيين اقتحام منزله خلال وجود زوجته، فقتل جنديين عثمانيين، فأعلنت الدولة العثمانية حكم الإعدام بحقه، ليشعل الثورة ضدها متَّخذاً من منطقة الشيخ بدر مقراً له.

تطورت ثورته وتنظمت بالتنسيق مع الشريف حسين ورجالات الثورة العربية الكبرى. وعندما بلغ السلطات من الوشاة أن رُسُل الشريف حسين تواصلوا معه، داهمت أملاكه في قرية «كاف الجاع» قرب قدموس بانياس، وأحرقت داره هناك. وفي طريقها أحرقت ودمَّرت القرية بكامِلِها، وعندما بلغه الأمر، لاحق آخر دورية تركية منسحِبة استطاع قتل ثلاثة من أفرادِها؛ دخل بعدها في حرب استنزاف طويلة الأمد ضد العثمانيين وبتنسيق مع طرابلس الشام وجبل لبنان.

بحلول الانتداب الفرنسي، رفض الشيخ صالح العلي عرض الفرنسيين بإقامة دولة علوية في الساحل السوري، فصدر عليه حُكم الإقامة الجبرية، وقامت فرنسا بعد استشارات مع مجموعة من المتحالفين معها في الجبل بترغيب أخيه الأصغر الشيخ محمود لتجعل منه بديلاً سياسياً منه. إلا أن الأخ محمود رفض ذلك، وعلى أثر ذلك تعرّض للتعذيب وخرج جراء ذلك يعاني من إيذاء جسدي ونفسي لازمه حتى وفاته.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الجماعات الجهادية الحالية استعملت التكتيكات نفسها التي كان يستعملها الاحتلال الفرنسي: اصطياد كل من يصادفونه في طريقهم، وتعمد القتل ورمي الجثث على قارعة الطريق، لبثّ الرعب في نفوس الأهالي المناصرين لثورة الشيخ العلي.

مما هو معروف عن الشيخ صالح العلي أنه كان يربّي دودة القز وينتج الحرير ويعمل في تربية الماعز والماشية وزراعة الدخان وكان له إلمام في طبّ الأعشاب، وهو من الأوائل الذين زرعوا شجرة التفاح في الجبل. وكان يتولى فلاحة أرضه بنفسه، كما كانت لأسرة أمِّه مكانة رفيعة أسهمت في ضخّ ثورتِه بالمال والرجال. وكذلك، تلقّى الدعم من المغتربين السوريين في الأميركيتين خصوصاً العلويين في الأرجنتين والبرازيل وكذلك عائلة بيت الهواش المتوزعة بين نواحي صافيتا ومصياف.

تحالف مع الملك فيصل خاصة بعد انعقاد المؤتمر السوري العام. ومما هو معروف رفضه طلب مصطفى كمال له بالتنسيق بينهما من دون معرفة الحكومة الوطنية في دمشق. وتعاون مع المجاهد إبراهيم هنانو قائد ثورة الشمال السوري في جبل الزاوية وأنطاكية تعاوناً إستراتيجياً مميزاً. وتعاون مع المجاهد عمر البيطار في الحفة وكذلك مع المجاهد عز الدين القسام الذي قام بعد التصدي للفرنسيين ومضايقتهم له بالنزوح إلى الجنوب السوري (فلسطين) حيث قاتل الاحتلال الإنكليزي والمستعمرين اليهود، وقد أمّن الشيخ صالح في وقت لاحق إيصال عائلته إليه عن طريق سهل عكار.

كذلك، تلقّى الدعم من بعض القبائل العربية في الفرات أمثال قبيلة الولدة ممثلة بزعيم القبيلة الشيخ علي البرسان وكذلك عائلات مدينة حماة، ومن عائلات تلكلخ وخصوصاً الدنادشة الذين أشعلوا الثورة في مناطق تلكلخ، ومدّوا الشيخ صالح العلي بالسلاح والمال والرجال، ولم يألوا جهداً في صمود ثورة الشيخ صالح.

بعد انتهاء الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، بدأ الفرنسيون يعدون المواطنين السوريين بالاستقلال وبدأت مرحلة صراع جديدة ارتكز فيها السوريون على الإضرابات والعصيان المدني والفرنسيون على التبشير الديني- السياسي، ما حدا بالشيخ صالح العلي إلى معاودة نشاطه السياسي في بداية الثلاثينيات لمقاومة حالة التبشير السياسي-الديني الذي قامت به البعثات التبشيرية الفرنسية والغربية في أوساط المسلمين عامة والعلويين خاصة وكذلك في أوساط المسيحيين الأرثوذكس والموارنة، إذ تولى الفرنسيون دعم بعض الأفراد والعائلات بالمال وبالنفوذ السياسي، مستغلين الوضع الاقتصادي المزري لهذه الفئات، وخلقوا مراكز قوى وزعامات فئوية جديدة. توّج النشاط السياسي للشيخ العلي بالموقف من تأسيس دولة جبل العلويين التي رفضها ووقّع مع شخصيات كثيرة من الجبل الوثيقة الداعية إلى ضم الجبل العلوي إلى سوريا الداخلية.

لدى الاستقلال في بداية الأربعينيات (1943)، عرض عليه في أول حكومة اختيار الوزارة التي تروقه لتسلّمها فرفض لعدم قناعته بذلك، مفضلاً النشاط السياسي من خارج الحكومة. وبعد جلاء آخر جندي من الحامية الفرنسية الأخيرة من اللاذقية ألقى خطاب الجلاء في دمشق.

في 1950، قبيل وفاته بقليل، كتب وصيته برصد القسم الأكبر من ثروته لبناء مدرسة وجامع ومستوصف، وعين أوصياء لتنفيذ هذه المشاريع لمصلحة الفقراء.

هي إذن مسيرة رجل عروبي مدَّ نشاطه لسائر أطراف المشرق العربي، مسهماً في جمع لحمة كل بقاع التراب الوطني السوري بسائر أطيافه، متصدياً لنزوعات السيطرة على القرار السوري المستقل سواء من طرف العثمانيين أو القوى الغربية، مكرِّساً نهجاً وطنياً وقومياً لم تحد عنه طائفته وأهله أبداً.

* المصدر الرئيسي للمعلومات التاريخية: موسوعة «رواية اسمها سورية: مئة شخصية أسهمت في تشكيل وعي السوريين في القرن العشرين» (3 مجلدات)، إشراف نبيل صالح، إصدار خاص، 2007.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي