يانيس فاروفاكيس: هل انتهت هيمنة الإقطاع الرقمي؟

وسط تسارع التطورات التكنولوجية من حولنا، والصخب الرقمي الذي أحدثه نظام الذكاء الاصطناعي الصيني DeepSeek المجّاني (ما عدا خدمة الشركات)، سعى الاقتصادي اليوناني ــ الأسترالي يانيس فاروفاكيس إلى تحليل الأبعاد الإستراتيجية لهذه القفزة التكنولوجية وتأثيراتها المحتملة في المشهد التقني العالمي، متحدثاً عن تحوّل قد يُعيد تشكيل معادلات التقدم في هذا المجال. في هذا المقال، نعدكم بطرح المصطلحات الاقتصادية والرقمية التي قد يجدها بعضكم مملة أو معقدة بأسلوب جذّاب، يثير فضولكم لمتابعة تداعيات ما يحدث في العالم الرقمي على واقعنا الحقيقي
يانيس فاروفاكيس اقتصادي ماركسي غير تقليدي وشخصية استثنائية بالفعل. في عام 2013، أصدر النسخة الأساسية من كتابه «حديثي مع ابنتي عن الاقتصاد: لمحة موجزة عن تاريخ الرأسمالية»، مقدماً نظرة عميقة حول تاريخ الرأسمالية، متتبعاً أصولها وتطورها من العصور القديمة إلى العصر الحديث، بما في ذلك العيوب والتفاوتات المتأصلة في هذا النظام، موضحاً كيف أسهمت هذه المشكلات في الأزمات الاقتصادية عبر التاريخ. أسلوب الكتاب سلس وبسيط، يشرح الاقتصاد بلغة مفهومة للجميع، بمن في ذلك ابنته زينيا الصغيرة، بعيداً من المصطلحات الاقتصادية الجافة التي يبدو أحياناً أنها صُمِّمت لإبقاء المعرفة بعيدة عن متناول الناس.
في كتابه «الإقطاع التكنولوجي: مقتل الرأسمالية» (2023)، قدّم فاروفاكيس تحليلاً معمقاً للتحولات التي يشهدها النظام الرأسمالي المعاصر، مشيراً إلى أنّ العالم يشهد تحولاً جذرياً يتمثل في استبدال رأس المال الإنتاجي التقليدي بـ «رأس المال السحابي» (Cloud Capital). يوضح فاروفاكيس أنّ هذا الشكل الجديد من رأس المال يختلف جوهرياً عن سابقه؛ فبينما كان رأس المال التقليدي يعتمد على المصانع والآلات كوسائل إنتاج، يعتمد رأس المال السحابي على الخوارزميات التي تستخرج القيمة عبر توجيه وتعديل سلوك مليارات البشر، من دون الحاجة إلى دفع أجور مباشرة.
على سبيل المثال، عندما يستخدم شخص ما منصة مثل فايسبوك أو إنستغرام، فإنه يؤدي عملاً غير مدفوع، حيث ينشر صوراً، ويكتب تعليقات، ويتفاعل مع الإعلانات. كل هذه الأنشطة تُنتج بيانات تستغلها الشركات لتحسين خدماتها وتوجيه الإعلانات بشكل أكثر دقة. وهذا يعني أنّ المستخدمين ـــ من دون أن يدركوا ـــ يعملون لمصلحة هذه الشركات من دون مقابل، وتكون بياناتهم المصدر الحقيقي لقيمتها. وبالتالي، تُعرف هذه الأرباح الناتجة من الرأسمال السحابي بـ«الريع السحابي».
وبكلمات أبسط، «الريع السحابي» يشبه أن يزرع المرء أرضاً لا يملكها، ثم يأتي شخص آخر ليحصد المحصول ويبيعه من دون أن يمنحه شيئاً. وهذا تماماً ما تفعله شركات التكنولوجيا الكبرى. وبهذا، تحولت هذه الشركات إلى «إقطاعيات رقمية»، تعمل الخوارزميات فيها على إدارة الاقتصاد، ليس لمصلحة الناس، بل لتعظيم الأرباح لمالكيها. وهكذا، يرى فاروفاكيس أننا نعيش في ظل «الإقطاع التكنولوجي»، عندما تحلّ الاحتكارات الرقمية محل المنافسة السوقية، ويُستغل العمل غير المدفوع والسيطرة على البيانات كأدوات للهيمنة الاقتصادية.
يعتقد فاروفاكيس أنّ هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة عوامل متعددة، أبرزها خصخصة الإنترنت، التي حوّلت الفضاء الرقمي من مجال عام إلى سوق مغلق تهيمن عليه شركات قليلة مثل «غوغل» و«أمازون». كما لعبت الأزمة المالية العالمية عام 2008 دوراً محورياً في تعميق هذا الاتجاه، إذ أدى التقشف وانخفاض الاستثمار في الإنتاج إلى تدفق الأموال نحو شركات التكنولوجيا الكبرى، ما جعلها القوة الاقتصادية الأكثر نفوذاً في العالم اليوم.
DeepSeek والإقطاع الرقمي
في يوم تنصيب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، في 20 كانون الثاني (يناير) الماضي، طرحت شركة DeepSeek الصينية ميزة جديدة في نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها، المسمى R1، وهي خاصية متقدمة بالغة الأهمية وصل صداها إلى البيت الأبيض. وفي هذا السياق، قدّم فاروفاكيس قراءته لما حدث، مشيراً إلى أنّ DeepSeek لم تكتفِ بهزّ أسس شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة، بل أعادت أيضاً صياغة المشهد الجيوسياسي ضمن ما يُعرف بـ«الحرب الباردة الجديدة» بين الولايات المتحدة والصين.
وفقاً لفاروفاكيس، تُعَدّ شركة OpenAI الأميركية، مالكة ChatGPT، من بين الجهات الأكثر تضرراً من ظهور أنظمة مثل DeepSeek المجاني بالكامل (ما عدا خدمة الشركات) وسطور برمجيته مكشوفة للجميع. وهو يشرح أنّ «أمازون» تمتلك مساعدها الرقمي Alexa، الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي ويتوفر في معظم المنازل حول العالم. تقدم تقنية Alexa خدماتها مجاناً، وكل ما يحتاجه المستخدم هو شراء أجهزة أمازون التي تدعم هذه التقنية. أما ChatGPT، فهي خدمة مدفوعة تتطلب اشتراكاً مستمراً للوصول إلى النماذج الأحدث، مثل GPT-4o، والتفاعل مع النظام على مدار اليوم.
هذا يعني أنّ OpenAI تعتمد بشكل مباشر على الاشتراكات لتحقيق الإيرادات، أي إنها حولت الـAI إلى سلعة، في حين تتبّع «أمازون» إستراتيجية مختلفة تماماً. وما يجعل الأمر أكثر إثارة هو أنّ Alexa لا تكتفي بتقديم المساعدة للمستخدمين، بل تجمع بيانات عن سلوكهم واهتماماتهم خلال التفاعلات اليومية، ثم تحللها لتقديم توصيات مخصصة تشجّعهم على شراء منتجات من متجر «أمازون»، أي إنّ الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة يعمل لمصلحة المتجر وليس سلعة بحد ذاته. ونتيجة لذلك، فإن نموذج الأعمال هذا يجعل «أمازون» أقل عرضةً للمنافسة المباشرة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخرى مثل DeepSeek التي تقدم الخدمة بشكل مجاني.
هذا الشكل من «الرأسمالية السحابية» الذي تتبنّاه «أمازون» يدعم ما يُعرف بـ«الإقطاع التكنولوجي» الذي يُنظّر له فاروفاكيس، وهو بعيد كل البعد عن المنافسة المباشرة التي تواجهها شركات مثل OpenAI أمام لاعبين مثل DeepSeek. مع ذلك، فإن شركات مثل «أمازون» و«أبل» لا تزال في مأمن، نظراً إلى أنّ نموذج أعمالها يعتمد على تعديل السلوك الاستهلاكي، وليس فقط على بيع الخدمات أو المنتجات. يعتقد فاروفاكيس أن DeepSeek لم يكسر «الإقطاع التكنولوجي» بالكامل، لكنه أحدث تحولاً كبيراً في سوق الذكاء الاصطناعي عبر تقديم خدمات مجانية وخفض كلفة الوصول إلى التكنولوجيا. ويرى أنّ DeepSeek كسر هيمنة الشركات الأميركية على سوق الذكاء الاصطناعي المُحوَّل إلى سلعة (Commodified AI Services)، لكنّه لم يؤثر في نظام الإقطاع التكنولوجي الذي يسيطر عليه «رأس المال السحابي». هذا النظام، الذي يقوده عمالقة التكنولوجيا مثل «أمازون» و«ميتا»، يستمر في تعزيز نفسه عبر السيطرة على سلوك المستخدمين وتحويلهم إلى أسواق.
مع ذلك، يرى فاروفاكيس أن نجاح DeepSeek يشكّل صفعة قوية لواشنطن ووادي السيليكون، حيث كان الاعتقاد السائد بأنّ الولايات المتحدة تمتلك تفوقاً لا يُنافس في مجال الذكاء الاصطناعي. إلا أن DeepSeek أثبت إمكانية تطوير تقنيات متقدمة بكلفة أقل وبأساليب أكثر ذكاءً. وقد يؤدي هذا النجاح إلى حالة من القلق في الأوساط السياسية والاقتصادية الأميركية، ولا سيما إذا بدأت شركات صينية أخرى في تقديم تقنيات مماثلة.
في ظل هذه التحولات، يبقى السؤال الأهم: كيف سترد الولايات المتحدة على صعود DeepSeek؟ المواجهة لم تعد تدور حول تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي نفسها، هذا كان من قبل أن تجعلها الصين مفتوحة المصدر لكل الناس، فالمواجهة اليوم هي حول السيطرة على بنية الاقتصاد الرقمي نفسه. وما من شك في أنّ النجاحات الصينية في هذا المجال ستفرض تحديات غير مسبوقة على صنّاع القرار في واشنطن، ليس فقط في عهد ترامب، بل على مستوى الدولة الأميركية بأكملها.