توماس مان... يوم قرأ التوراة بعدسة فرويد

بعد أكثر من تسعين عاماً على صدور الجزء الأول من رباعية الكاتب الألماني توماس مان «يوسف وإخوته»، أنجزت دار الرافدين (بغداد/بيروت) الترجمة العربية الكاملة للرواية الاستثنائية التي استغرقت كتابتها عقداً من الزمن (الترجمة عن الألمانية لمحمد إسماعيل شبيب).
في رباعيته، يعيد الروائي الحائز «نوبل» سرد القصة التوراتية ليوسف، مازجاً الموضوعات الدينية بالاستكشافات النفسية والفلسفية العميقة. يحوّل مان السرد التوراتيّ إلى ملحمة تجمع الأسطورة والتاريخ بالأفكار الحديثة، عبر قصة غنيّة بالطبقات، وحبكة معقّدة تتعمّق في الدوافع النفسية للشخصيات، فنراه يستكشف بلغة كثيفة ومشفرة أحياناً ثيمات مثل القدر والأخلاق في عمل زاخر بالصور الرمزيّة والإشارات الأسطوريّة.
يرتكز توماس مان في الجزء الأول «قصص يعقوب» (1933) على القصص التوراتي حين ينال يعقوب، بطريقة ملتوية وبمساعدة أمه، مباركة أبيه إسحاق ليهرب إثر ذلك إلى خاله في حران. هناك يقع في غرام راحيل ابنة خاله، فيخدم من أجلها سبع سنين بلا مقابل. وفي موعد الزفاف يخدعه خاله ويزف له ابنته الكبرى بدلاً من راحيل (كما تَخدع تُخدع). ينجب إثني عشر ولداً منهم يوسف، ويجمع ثروة كبيرة ثم يعود إلى أرض الآباء، إلى كنعان.
صورة «يوسف الفتى» وتنشئته تكون موضوعاً للجزء الثاني الصادر عام 1934، ثم نعثر على الحوادث الدرامية من مكيدة إخوته له وإلقائه في الجب ليساق عبداً إلى مصر في الجزء الثالث «يوسف في مصر». والأخير استغرق من المؤلف ثلاث سنوات وطُبع في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1936 في فيينا عن دار نشر «بيرمان-فيشر». أما المجلد الأخير، «يوسف المعيل» الذي تكتمل فيه العقدة الدرامية ثم تصل إلى خاتمتها، فقد أكمله خلال منفاه في كاليفورنيا، ونُشر في كانون الأول (ديسمبر) 1943 في استوكهولم. المدخل الأول لمراجعة هذا العمل الضخم يكون من السياق الذي نظر فيه الكاتب إلى الرباعية التي صنّفها «ملحمة أسطورية»، ففي محاضرة ألقاها في جامعة «برينستون» في أيار (مايو) عام 1940، أوضح أنّ فضوله قاده إلى دراسة الأسطورة بسبب اهتمامه بـ«أصل الإنسان ومصيره».
في أجواء سياسية مضطربة قبيل الحرب الكونية الثانية، تولّدت لدى مان قناعة بإمكانية دراسة المجتمعات البشرية وفهمها عبر «نماذج أسطورية»، ما قد يسهم تاريخياً في تطوّر وعي إنساني متنور، وبدت عليه أمارات القلق مع ازدياد تأثير النازيين على الرأي العام الألماني، إذ كتب سنة 1934 أنّ النازيين «يغرقون في مستنقع الأساطير، في وحلها»، بفعل البروباغندا الفعالة التي حوّرت القيم التي تحتفي بها الأساطير الجرمانية، مثل الشجاعة والشرف والتضحية، لتوجيه الألمان نحو التعصب والعنف المدمر».
لا يمكن قراءة رباعية توماس مان بمعزل عن القراءة الفرويدية للتوراة في كتابه المرجعي «موسى والتوحيد»، إذ يمكن تفسير يوسف على أنه تجسيد للعبري الذي يعيش على الهامش، لكنّه يفسر أحلام الفراعنة ويلتحق بمركز السلطة: ألم يكن فرويد نفسه عبرياً من الهامش يفسر الأحلام في عاصمة الإمبراطورية النمساوية ويحقق صعوداً اجتماعياً لامعاً؟ كانت شخصية يوسف دائماً هي العنصر اليهودي المكبوت في الفكر الفرويدي أثناء إعادة تقييمه لشخصية موسى اليهودية التي تبدو على النقيض من شخصية يوسف، وهي مقاربة جاءت في اللحظة الصعبة التي أجبر فيها فرويد الملاحَق من النازية على المنفى في المملكة المتحدة.
كتب فرويد «موسى والتوحيد» بالتوازي مع كتابة توماس مان لأجزاء الرباعية، ولم يخفِ حماسته الشديدة لقراءتها. أراد فرويد في أطروحته زعزعة فكرة أنّ اليهود هم الذين اخترعوا التوحيد وفكرة الشعب المختار عن طريق إحياء «التراث المصري» الموجود في السرد اليوسفي، حيث يكون العبري منفتحاً على الأمم، يحاورها ويطعمها ويحميها، ليؤكد بذلك أطروحة ماكس فيبر بأنّ اليهودية كانت واحداً من مصادر الفكر العقلاني والأخلاقي في الحضارة الأوروبية.
بالعودة إلى الرباعية، تكمن براعة توماس مان في المقام الأول في جعل شخصية يوسف تخوض تجاربها الروحية ضمن خلفية ثقافية ترتفع فوق القَصَص التوراتي، فعِبر مصر وطنه الجديد، يكتشف يوسف إنسانية المجتمع المتحضر والنظام السياسي القائم على اقتصاد شبه علمي ومنظومة ثقافية أكثر تطوراً من تلك الموجودة في محيطه العبراني الأول.
أراد فرويد زعزعة فكرة أنّ اليهود هم الذين اخترعوا التوحيد
وإذا كان يوسف قد حظي باختيار لاهوتي، فلسفي، وأدبي، وسياسي، فذلك لأنّ هويته لا تنحصر في بوتقة واحدة ولا تجعله القصة رمزاً لجماعة معينة، بل هو أقرب إلى «جوكر» يرمز إلى تعددية الهويات، والأماكن، والرؤى إلى القيم والمعايير الأخلاقية والسياسية. ذلكّ أن قصته أشبه بأسطورة مجسّدة تتلاشى عند أبطالها الحدود بين الخيال والواقع، وبين الإقصاء والاختيار، من دون أن يعني ذلك خضوعها لقدَر محتوم أو نبوءة مقدسة.
تسمح القصة لأبطالها ببدائل تتيح الهروب من المحَن، وتجعل ممكناً تصوّر مؤسسة جديدة أو مصير آخَر للناجين يتحول فيه الشر إلى خير، ما يمنح النصوص والتجارب السابقة بُعداً تأويليّاً جديداً: بُعد النجاة وإمكانية الفكاك من مآسي الزمن في مقابل القراءة القدرية أو النبوئية. الإشكالية الثقافية الأخرى التي تطرحها الرباعية هي العلاقة بين التعدد والفرادة، أو بين الإقصاء والاختيار: في البداية، يمثّل يوسف شخصية «كبش الفداء»، بتعبير رينيه جيرار، أي الضحية التي تُنبذ وتقصى بعنف، حيث يتحالف الجميع ضد فرد واحد. هذه السمة المشتركة مع نصوص توراتية أخرى قائمة على النبذ والإقصاء تبدو كأنها تمحو فرادة يوسف، لتبرز الإشكالية في كيفية تحول الضحية الفردية إلى رمز للتعددية والعالمية، إذ لا يصل السرد اليوسفي إلى الخاتمة عبر إعدام كبش الفداء بل عبر منظومة من الغفران وسلسلة من الاستبدالات: يتبدى يوسف ضحية فريدة لأنه لا يعيد إنتاج منظومة الاضطهاد، بل يتجاوزها عبر التسامح وفهمه العميق لهذه الآليات.
هذه الفرادة هي التي تحدد مفهوم الاختيار، إذ إن المقصي والمنبوذ يتحول إلى شخصية تصنع مصيرها بكامل إرادتها ووعيها. وفي مصر، تتولى الاستبدالات مهمة التخفيف من الشر: يحلّ القميص الممزق بدل الاستجابة للزوجة الفاتنة، ويستبدل السجن بالموت، ويغدو يوسف مديراً لشؤون البلاد تعويضاً عن العبودية، ويغيب القلق من أحلام الملك حين يفسّر يوسف الرؤيا في السجن، كما يستبدل الأخ الأصغر بالمتاع المسروق.
في المحصلة، أضاف توماس مان تنويعاً روحياً وثقافياً على قصة يوسف التي تحمل مسبقاً إرثاً لاهوتياً-سياسياً غنياً، إذ اعتبر فيلون الإسكندري أنّ يوسف يجسد السياسة والمواطنة اليهودية. أما بالنسبة إلى المصلح كالفن، فيمثل يوسف نموذج البروتستانتي «المختار»، كما إن القالب السردي المشوق للحكاية جعل منها ومن بطلها مصدر إلهام لا ينضب عند عدد من الأدباء، مثل فولتير الذي جعله النموذج الأول للقصة الفلسفية، ناهيك بغوته، وشاتوبريان، وألكسندر دوما الذين استلهموا منها في أعمالهم الأدبية. كما إنّ مفكرين وفلاسفة أمثال فرانز بيرمان شتاينر، وإرنست بلوخ، وإيمانويل ليفيناس، ورينيه جيرار، قد أعادوا التفكير في الأسطورة اليوسفية من منظور المعرفة الأنثروبولوجية. وبذلك يتجاوز يوسف شخصيته التوراتية ويتحول إلى فضاء معرفي في الفلسفة والفكر والأدب وغيرها من الفنون.
نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها حول الرسالة السياسية للرباعية: لا يقدم توماس مان «شعب إسرائيل» أو يوسف وإخوته إلا عبر أخوّة غير إقصائية. أخوة غير اتهامية ومتصالحة مع الأمم، وعبر قالب مادي مُفعم بالحياة. وحتى حين يظهر الصراع جلياً بين الأفكار المتعارضة، نرى التوتر الناجم عن التناقضات والصراعات يجد حلّه في نهاية المطاف لمصلحة اكتمال كل ما هو إنساني، ورفض أي شكل من أشكال الإقصاء.
حوّل الأديب المتنور قصة يوسف إلى رواية حديثة، ليؤسس «إنسانية المستقبل» ويواجه الفاشية والنازية: هذا الدرس الإنساني لم تفهمه «دولة إسرائيل» المصطنعة التي تدعي وراثتها لـ «يوسف وإخوته». فإذا كان فرويد ومعه توماس مان قد أرادا إعادة منح اليهودية مكاناً جوهرياً في الوعي الأوروبي والغربي، وتذويب القومية اليهودية في قالب روحانية عالمية شبه علمانية تعكس جميع التطلعات التي تسعى إلى الخلاص من الشر واستبعاد الآخر، فإن كيان العدو قلب الرواية رأساً على عقب: القتل الإقصائي والهمجي لـ «يوسف الفلسطيني» وأخيه اللبناني وتعليق قميصه الأنيق الممزق على ركام البيوت والزيتون المحترق.