مقالات للكاتب

ضحى شمس

الأربعاء 19 شباط 2014

شارك المقال

جاري.. أنسي

كنا كدوامين: نهاري وليلي. لذا، ما كنا نلتقي الا حين يصل مساء متجها الى مكتبه المجاور لمكتبي، واكون انا في صدد العودة الى البيت.
الشاعر الذي كانت غرفة مكتبه نوعاً من مغناطيس للزميلات والزملاء الصغار، فرغت من مضيفها وزوارها. كانوا يتحلقون حوله كفراشات استأنست بنور قنديل عظيم، يساعدها على رؤية طريقها وبلورة مواهبها.
اليوم، حين وصلت، كان باب المكتب مفتوحا، ظننت ان عمال التنظيفات تركوه كذلك، لكنني كنت مخطئة. فرغ المكتب من أغراض انسي الشخصية: نظاراته الطبية، وبعض الأوراق التي كتب على معظمها خواطر عابرة ارادها «خواتم» لحياة كان يعلم انها في صدد الانتهاء بإشارة من المرض.

لكني لم اجد أنسي. لم يبق من اغراضه الا كتب حديثة الإصدار وصلته من هنا او هناك: كتب شعر لمبتدئين، ارادوا ان يعرفوا كيف يتوجهون، ولكبار ارادوا رأيه فيها.
الدراسات الاسلامية كانت تستقطب الكثير من اهتمامه، بقيت ايضا بعض لوحات زيتية واخرى مائية ارسلت كهدايا إليه..
«إجا انسي؟ شو قال استاذ انسي؟» كان يقرأ للجميع. متواضعا بغير ابتذال. ولا يبخل بالكلام الجميل.. والنكتة الحاضرة، يغلف بها انتقاده
مع كثير من العسل والمفردات المدورة لئلا يؤذي براعم تفتحت للتو.. هكذا كانوا يحبونه كثيرا: شهيرة، ايلي، خالد، علي، ديمة، رزان، زينب، سناء، احمد، ميلانا، مهى، فاتن.. والأحب الى قلبه راجانا.
وكما تحول هو بخياراته السياسية والأدبية وتجربته الطويلة الى انسان تام، تحولت غرفة مكتبه في «الأخبار» الى مصلّى للمؤمنات من الزميلات، الصلوات الخمس تنتهي قبل موعد دوام انسي.
لكنه، تركنا في النهاية. هكذا، من دون وداع. لم يكن يحب ان نراه في ايامه الأخيرة. كان يقرف من تحلل الجسد، من بشاعة المرض، من مآل الإنسان الى عفن، ولم يكن يريدنا ان نراه في حاله تلك. كان لا يرى في الموت مصيرا للبشرية، عدلا. كان يرى المرض والموت وتدهور الجسد ظلما للجمال وللحياة. لهذا كان يحب ان يحاط بالصغار: ينغمس في فوران احاسيسهم وافكارهم التي تتحكم فيها هورمونات الصبا، تضحكه، لكنه يحبها.. يحبها لأنه يرى الحياة والجمال والخير أجدر بالكائن البشري. كأني به كان يؤمن بذاك المقطع من مسرحية «صح النوم» للرحابنة الذين كانت تجمعه بهم وبفيروز علاقة ارقى من كل العلاقات. حين يقول الوالي لقرنفل (فيروز) الخائفة من ان يكون مصيرها جهنم «اذا في جهنم اكيد بتكون فاضية لانو الإنسان احلى من النار».
نعم يا أنسي، الإنسان أحلى من النار، ومن المرض، ومن الموت..
«موت كموتك قتل»، قال في رحيل جوزف سماحة. لم يكن هناك ابلغ من جملته تلك. وانت يا انسي؟ موت كموتك كيف يكون؟ انسحاب؟ هجر؟ من يستطيع ان يصوغ الجملة الأخيرة ببلاغة كبلاغتك؟ تراك الآن هناك بدأت تكتشف السر الذي عذبك طوال تلك السنين؟ سر الحياة والموت؟ وما الذي كنت ستكتبه الآن، عن هناك، في «خواتمك»؟ ام ان عنوانها سيكون «بدايات»؟
ايها الجار الجميل. حتى نلتقي، وداعاً.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي