دموع نعمة
صورة الفتاة الصغيرة على موقع «ياهوو» الإخباري والعنوان المؤثر، استوقفاني: الصورة لفتاة في الثامنة من عمرها، بنظارة طبية وشعر أشقر معقوص خلف رأسها، وخدين أحمرين يغريان بالقرص تحبباً، أما العنوان، فكان «دموع فتاة صغيرة تخضّ إسرائيل». ما القصة؟ تقول مقدمة المقال، المنقول عن صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، إن الصغيرة «ليست ككل أترابها في العالم، تتشوق، ما إن تنتهي المدرسة للعودة الى البيت.
فالصغيرة نعمة مرغوليس، التي وصلت للتو مهاجرة من أميركا، لا تنام الليل، وهي تخاف عند خروجها من المدرسة من «الأشرار الذين يترصدونني خارجاً ليؤذوني»، حسب ما قالت في ريبورتاج أذاعه التلفزيون الإسرائيلي وهي تبكي. دموع نعمة «خضّت» اسرائيل، حسب الصحيفة، فاستذكرت للمناسبة أعمالاً أخرى قميئة يقوم بها هؤلاء، كهجومهم على جندية في باص للجنود لإنزالها منه منعاً للاختلاط، لكن، من هم هؤلاء الأشرار، الذين تتجرأ صحيفة أوروبية على وصفهم بذلك، رغم يهوديتهم وإسرائيليتهم؟ إنهم «الحريديم». مجموعة من المتشددين اليهود الذين يرفضون الاختلاط بين الجنسين، ويفرضون على النساء ملابس محددة. وبما أن الصغيرة تسكن في ضاحية «بيت شمش» بالقرب من القدس المحتلة، التي يمثّل الحريديم 30 % من سكانها تقريباً، فإن هؤلاء «المناضلين» بزيّهم الأسود، يتجمعون أمام المدرسة ساعة الوصول وساعة الانصراف، ليعربوا عن «رأيهم» في البصق على التلميذات الصغيرات اللواتي لا يلتزمن بتعاليمهم، أو لإمطارهن بأقذع الشتائم و«أحياناً بأخطر من ذلك» حسب الصحيفة. أي إنهم نوع من «المطاوعة اليهود»، أو مجموعة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الفرع اليهودي. والحريديم هم جماعة على درجات من التشدد، لا يؤمنون بتعليم المرأة أصلاً، ولهم نظريات فلنقل «معقّدة» في الزواج، والهدف منه، فكيف بالاختلاط؟ الى ذلك هم لا يعملون، لا يخدمون في الجيش ولا يدفعون الضرائب، وفوق ذلك يتقاضون من الدولة العبرية معاشات، ولهم في الكنيست كوتا من النواب. وهنا على الأقل يصبح «المطاوعة» أفضل منهم، حيث إنه لا تمثيل «برلمانياً» لهؤلاء.
المهم، ليس هؤلاء هم الموضوع، ولا التشدد في «دولة اليهود الديموقراطية» (فليترجم لي شخص معنى العبارة السابقة)، بل الخبر نفسه.
الانفعال الذي تتسبب به صورة الصغيرة نعمة، استحضر في بالي ذكرى أخرى: تقرير لمراسل «ال بي سي» في فلسطين خلال عدوان «الرصاص المصهور» على غزة عام 2008.
ظهر يومها المراسل ليقول إنه نظراً إلى فظاعة الصور، فإن القناة لن تعرضها، لكنه روى الخبر تاركاً لمخيلاتنا أن تتصور: قصف الجنود منزلاً كان يؤوي عائلات فلسطينية هربت من جحيم القذائف، فلم ينج من المنزل إلا فتاة صغيرة، في السادسة من عمرها تقريباً، زحفت جريحة خارج المنزل وبقيت هناك في الخلاء، تعاني سكرات الموت. حاول العديدون إنقاذها وسحبها من الشارع، الا أن الجنود قنصوا كل من حاول الاقتراب منها على مدى أكثر من ساعة. ثم قال إنها كانت لا تزال حية حين تجمعت حولها الكلاب الشاردة والجائعة، وسحبتها، وهي لا تزال حية إلى حيث... يأبى عقلي حتى مجرد التصور.
في باب التعليقات لم يبخل قراء «لوفيغارو» على المقال بالمديح. قال أحدهم، وكرر آخرون «هذا يثبت أن المجتمع الإسرائيلي لا يتورع عن انتقاد متشدديه»، مستخلصين أن «هذه هي الديموقراطية بعينها».
ربما كنت لأسر ذلك في نفسي والغيرة تعتمل في قلبي، لكن كيف لدموع نعمة أن تخضني، أنا التي تعرف ما الذي حصل لفتاة غزة؟ أن تخضني صور صغيرة تبكي لأنها تخاف من العودة الى المنزل، لا شك شعور صحي وإنساني، لكن، من قال إننا لا نزال أصحّاء؟ كيف نحتفظ بصحتنا النفسية حين يكون كل العالم، متحالفاً ضد دموعنا ودمائنا وحقوقنا، متوارياً خلف نفاق تتواطأ على استمراره الصحافة العالمية، كسل الرأي العام عن السعي الى المعرفة والتدقيق، وسياسة اللاعدالة الدولية، التي ترعاها «الديموقراطيات» العالمية المنخورة نخراً بفساد الروح؟ كيف لي أن أبكي لدموع نعمة، وفتاة غزة لم تحصل حتى على حق أن ينقل اسمها، وأن تروى قصتها في الإعلام العالمي الكبير القلب ذاته، حين يكون الموضوع إسرائيلياً؟ كيف أبكي لدموع نعمة وأنا أتصور بان كي مون لا «يتورع» عن النوم بعد كل ما «لا يفعله» من مهمّاته؟ كيف أبكي لدموع نعمة والقهر من الظلم يملأ قلبي بالغضب؟
الى أين أوصلنا نقصان العدالة في المجتمع الدولي؟ ماذا فعل بإنسانيتنا؟ لكن، ألا يستأهل من يريد قتل إنسانيتنا باستغلال البراءة لمكاسب سياسية أن لا نقع في فخه؟ وإن تأثرت بدموع نعمة، فمن يضمن لي أني لن أراها غداً توقّع، كما فعلت الفتاتان «البريئتان»، قبلها، على صاروخ موجه الى بيوت المدنيين اللبنانيين خلال حرب تموز؟ هما أيضاً كانتا بريئتين أليس كذلك؟ كل ما فعلتاه كان تنفيذ ما أمرهما به الكبار! هل يجعل ذلك منهما بريئتين، تماماً مثل نعمة، المهاجرة للتو الى أرض محتلة طرد أهلها منها وما زالوا يُقتلون بمختلف الأساليب كل يوم؟ على الأقل نعمة تنام في بيت، فهل يفعل ذلك فلسطينيو القدس، الذين تُخرجهم قطعان المستوطنين من بيوتهم في وضح النهار وعتمة الليل تحت رعاية الشرطة الإسرائيلية؟ أخبار كهذه قد تجدها في الصحافة العالمية، لكن بكلمات مدوّرة لا تعود تثير شيئاً لشدة تدويرها. من يقتل الفلسطينيين إعلامياً باسم البراءة الإسرائيلية؟ من يقتل الإنسانية في قلوب المضطهدين، ليحولهم الى وحوش يسيّرهم الغضب والمرارة والرغبة في الانتقام؟ ربما هو من يريد أن يكون ذلك حجة لقتلهم بدورهم من دون أن يثير ذلك القتل غضب أحد. أليس هذا التلاعب بإنسانيتنا، هذا التحريف للنفس البشرية، هذا التضليل للغرائز البدائية، أجدر بغضب المجتمع الدولي وصحافته وفلاسفته ومثقفيه وناسه العاديين، بدلاً من دموعهم؟ وأخيراً، هل ستكبر نعمة لتُبكيها قصة الطفلة الغزاوية؟ أم لتقتل مثيلاتها في شوارع فلسطين التي لم تكن يوماً لها أو لأهلها المهاجرين الى الأرض المحتلة وطناً عن حق؟
فالصغيرة نعمة مرغوليس، التي وصلت للتو مهاجرة من أميركا، لا تنام الليل، وهي تخاف عند خروجها من المدرسة من «الأشرار الذين يترصدونني خارجاً ليؤذوني»، حسب ما قالت في ريبورتاج أذاعه التلفزيون الإسرائيلي وهي تبكي. دموع نعمة «خضّت» اسرائيل، حسب الصحيفة، فاستذكرت للمناسبة أعمالاً أخرى قميئة يقوم بها هؤلاء، كهجومهم على جندية في باص للجنود لإنزالها منه منعاً للاختلاط، لكن، من هم هؤلاء الأشرار، الذين تتجرأ صحيفة أوروبية على وصفهم بذلك، رغم يهوديتهم وإسرائيليتهم؟ إنهم «الحريديم». مجموعة من المتشددين اليهود الذين يرفضون الاختلاط بين الجنسين، ويفرضون على النساء ملابس محددة. وبما أن الصغيرة تسكن في ضاحية «بيت شمش» بالقرب من القدس المحتلة، التي يمثّل الحريديم 30 % من سكانها تقريباً، فإن هؤلاء «المناضلين» بزيّهم الأسود، يتجمعون أمام المدرسة ساعة الوصول وساعة الانصراف، ليعربوا عن «رأيهم» في البصق على التلميذات الصغيرات اللواتي لا يلتزمن بتعاليمهم، أو لإمطارهن بأقذع الشتائم و«أحياناً بأخطر من ذلك» حسب الصحيفة. أي إنهم نوع من «المطاوعة اليهود»، أو مجموعة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الفرع اليهودي. والحريديم هم جماعة على درجات من التشدد، لا يؤمنون بتعليم المرأة أصلاً، ولهم نظريات فلنقل «معقّدة» في الزواج، والهدف منه، فكيف بالاختلاط؟ الى ذلك هم لا يعملون، لا يخدمون في الجيش ولا يدفعون الضرائب، وفوق ذلك يتقاضون من الدولة العبرية معاشات، ولهم في الكنيست كوتا من النواب. وهنا على الأقل يصبح «المطاوعة» أفضل منهم، حيث إنه لا تمثيل «برلمانياً» لهؤلاء.
المهم، ليس هؤلاء هم الموضوع، ولا التشدد في «دولة اليهود الديموقراطية» (فليترجم لي شخص معنى العبارة السابقة)، بل الخبر نفسه.
الانفعال الذي تتسبب به صورة الصغيرة نعمة، استحضر في بالي ذكرى أخرى: تقرير لمراسل «ال بي سي» في فلسطين خلال عدوان «الرصاص المصهور» على غزة عام 2008.
ظهر يومها المراسل ليقول إنه نظراً إلى فظاعة الصور، فإن القناة لن تعرضها، لكنه روى الخبر تاركاً لمخيلاتنا أن تتصور: قصف الجنود منزلاً كان يؤوي عائلات فلسطينية هربت من جحيم القذائف، فلم ينج من المنزل إلا فتاة صغيرة، في السادسة من عمرها تقريباً، زحفت جريحة خارج المنزل وبقيت هناك في الخلاء، تعاني سكرات الموت. حاول العديدون إنقاذها وسحبها من الشارع، الا أن الجنود قنصوا كل من حاول الاقتراب منها على مدى أكثر من ساعة. ثم قال إنها كانت لا تزال حية حين تجمعت حولها الكلاب الشاردة والجائعة، وسحبتها، وهي لا تزال حية إلى حيث... يأبى عقلي حتى مجرد التصور.
في باب التعليقات لم يبخل قراء «لوفيغارو» على المقال بالمديح. قال أحدهم، وكرر آخرون «هذا يثبت أن المجتمع الإسرائيلي لا يتورع عن انتقاد متشدديه»، مستخلصين أن «هذه هي الديموقراطية بعينها».
ربما كنت لأسر ذلك في نفسي والغيرة تعتمل في قلبي، لكن كيف لدموع نعمة أن تخضني، أنا التي تعرف ما الذي حصل لفتاة غزة؟ أن تخضني صور صغيرة تبكي لأنها تخاف من العودة الى المنزل، لا شك شعور صحي وإنساني، لكن، من قال إننا لا نزال أصحّاء؟ كيف نحتفظ بصحتنا النفسية حين يكون كل العالم، متحالفاً ضد دموعنا ودمائنا وحقوقنا، متوارياً خلف نفاق تتواطأ على استمراره الصحافة العالمية، كسل الرأي العام عن السعي الى المعرفة والتدقيق، وسياسة اللاعدالة الدولية، التي ترعاها «الديموقراطيات» العالمية المنخورة نخراً بفساد الروح؟ كيف لي أن أبكي لدموع نعمة، وفتاة غزة لم تحصل حتى على حق أن ينقل اسمها، وأن تروى قصتها في الإعلام العالمي الكبير القلب ذاته، حين يكون الموضوع إسرائيلياً؟ كيف أبكي لدموع نعمة وأنا أتصور بان كي مون لا «يتورع» عن النوم بعد كل ما «لا يفعله» من مهمّاته؟ كيف أبكي لدموع نعمة والقهر من الظلم يملأ قلبي بالغضب؟
الى أين أوصلنا نقصان العدالة في المجتمع الدولي؟ ماذا فعل بإنسانيتنا؟ لكن، ألا يستأهل من يريد قتل إنسانيتنا باستغلال البراءة لمكاسب سياسية أن لا نقع في فخه؟ وإن تأثرت بدموع نعمة، فمن يضمن لي أني لن أراها غداً توقّع، كما فعلت الفتاتان «البريئتان»، قبلها، على صاروخ موجه الى بيوت المدنيين اللبنانيين خلال حرب تموز؟ هما أيضاً كانتا بريئتين أليس كذلك؟ كل ما فعلتاه كان تنفيذ ما أمرهما به الكبار! هل يجعل ذلك منهما بريئتين، تماماً مثل نعمة، المهاجرة للتو الى أرض محتلة طرد أهلها منها وما زالوا يُقتلون بمختلف الأساليب كل يوم؟ على الأقل نعمة تنام في بيت، فهل يفعل ذلك فلسطينيو القدس، الذين تُخرجهم قطعان المستوطنين من بيوتهم في وضح النهار وعتمة الليل تحت رعاية الشرطة الإسرائيلية؟ أخبار كهذه قد تجدها في الصحافة العالمية، لكن بكلمات مدوّرة لا تعود تثير شيئاً لشدة تدويرها. من يقتل الفلسطينيين إعلامياً باسم البراءة الإسرائيلية؟ من يقتل الإنسانية في قلوب المضطهدين، ليحولهم الى وحوش يسيّرهم الغضب والمرارة والرغبة في الانتقام؟ ربما هو من يريد أن يكون ذلك حجة لقتلهم بدورهم من دون أن يثير ذلك القتل غضب أحد. أليس هذا التلاعب بإنسانيتنا، هذا التحريف للنفس البشرية، هذا التضليل للغرائز البدائية، أجدر بغضب المجتمع الدولي وصحافته وفلاسفته ومثقفيه وناسه العاديين، بدلاً من دموعهم؟ وأخيراً، هل ستكبر نعمة لتُبكيها قصة الطفلة الغزاوية؟ أم لتقتل مثيلاتها في شوارع فلسطين التي لم تكن يوماً لها أو لأهلها المهاجرين الى الأرض المحتلة وطناً عن حق؟