مقالات للكاتب

نجاة فضل الله

الأحد 12 كانون الثاني 2025

شارك المقال

الولادة بين الطبّ الحديث والعادات القديمة

يُعدّ معدّل وفيات الأمهات أثناء الولادة مؤشراً لتطوّر الدول
يُعدّ معدّل وفيات الأمهات أثناء الولادة مؤشراً لتطوّر الدول

تاريخياً، كانت الولادة مرحلة خطرة على حياة الأمّ بسبب عدم القدرة على السيطرة على بعض التعقيدات والمضاعفات الخطيرة التي قد تتعرّض لها الأمّ بعد الولادة، أبرزها النزيف الحاد. ويُعدّ معدّل وفيات الأمهات أثناء الولادة مؤشراً لتطوّر الدول. بين عامي 2000 و2015، انخفض معدّل وفيات الأمّهات أثناء الولادة بنسبة 44% عالمياً، مع انحياز أكبر للبلدان المتطوّرة، ويعود الفضل في هذا الانخفاض إلى التطوّر الطبّي في مجال الحمل والولادة وتطوير طرق التعامل مع والسيطرة على المضاعفات الطبّيّة التي كانت تُصنّف على أنّها مميتة في الماضي.

لعب الطبّ الحديث دوراً مفصلياً في تحويل الولادة تدريجياً مع الزمن إلى عمليّة أكثر أماناً يمكن السيطرة على الكثير من مضاعفاتها الخطرة. فبعد أن كانت المرأة في السابق تلد في المنزل بحضور نساء العائلة والقابلة أو «الداية»، أصبحت الولادة اليوم تحصل في المستشفى في غرف مجهّزة لمراقبة الأمّ والجنين، وتحت إشراف فريقٍ طبّيّ جاهز للتدخّل الدوائي أو الجراحي عند اللزوم للحفاظ على حياتي الأمّ والجنين.

ولكن أثناء هذه النقلة النوعيّة، أو ما سُمّي بـ «تطبية» الولادة، أي تحوّل عمليّة الولادة مع الزمن من عمليّة طبيعيّة مكانها البيئة التي تعيش فيها الأم إلى أخرى طبّيّة موقعها مرفق طبّي مع وجود طاقم ومعدّات طبية وجراحيّة، فُقدت أيضاً ممارسات قديمة «بدائيّة» مفيدة وصحّيّة مرتبطة بالولادة وبالتفاعل بين الأم والطفل. فبعدما كان الرضيع يوضع على صدر أمّه مباشرةً بعد الولادة لينظّم حرارة جسده، صار ينقل مباشرةً إلى حجرة دافئة في الحضانة لبضع ساعات ريثما ينظّم حرارة جسمه. وبعدما كانت الرضاعة الطبيعيّة الخيار الوحيد والأساسي للأمّ بعد الولادة، اجتاح الحليب الصناعي الأسواق لدرجة أنّه صار خياراً شائعاً لأسباب طبّيّة أو شخصيّة أيضاً.

العودة إلى الطبيعة: بين التطرّف والاعتدال


في الوقت نفسه، برزت حركات مناهضة لـ «تطبية» الولادة، تدعو إلى نزع السمة الطبّيّة عن هذه العملية. راجت هذه الحركات في السنوات القليلة الأخيرة خلال ازدياد إقبال النساء اللواتي يملكن خيار الإنجاب في المرافق الطبية إلى الإنجاب في المنزل. وقد شهدت الولايات المتحدة عام 2021 أعلى نسبة من الولادات في المنزل منذ التسعينيّات. علماً أنّها النسبة الأعلى بين النساء البيض من الطبقة الوسطى.

تتنوّع هذه الحملات، فمنها ما تعتبر شديدة التطرّف تدعو إلى التخلّي التام عن مظاهر الطبّ الحديث في الولادة والعودة إلى «الطبيعة» من دون العبث بها. ومنها ما هي أكثر اعتدالاً، تدعو إلى العودة إلى والحفاظ على ممارسات قديمة أغفلناها مع الوقت، من دون أن نخسر ما وصلنا إليه اليوم من تطوّر في الطبّ والجراحة النسائيّة. ويعتبر الطبيب النسائي الفرنسي ميشال أودنت أحد رموز هذه الحركات. فهو أسّس في السبعينيّات مركز الأبحاث البدائيّة الصحيّة في لندن بهدف دراسة الارتباطات بين التفاعلات البدائيّة (أو الفطريّة) بين الأمّ والطفل أثناء الحمل والولادة وفي الفترة الأولى بعد الولادة، وبين صحّة كلٍّ منهما لاحقاً على المدى البعيد.

بالرغم من صعوبة صرف النظر عن التطور الطبي الذي أنقذ ملايين الأرواح، تطرح هذه الحملات تساؤلات مهمة. وتهدف إلى إعادة تسليط الضوء على بعض الممارسات الطبيعية التي أهملها الطبّ الحديث

  •  شهدت الولايات المتحدة عام 2021 أعلى نسبة من الولادات في المنزل منذ التسعينيّات
    شهدت أميركا عام 2021 أعلى نسبة ولادات في المنزل منذ التسعينيّات

مبادرات تجمع بين الطبيعة والتقدّم الطبي


في هذا السياق، لاحظت منظمات صحية عدّة هذه الحاجة التي تسدّها الحملات المناهضة لـ «تطبية» الولادة، وبدأت العمل على إنشاء مبادرات تُوازن بين أهمّيّة توفّر الوسائل والتقنيّات الطبية أثناء الولادة من جهة، وبين الحفاظ على ممارسات طبيعية صحية بين الأمّ والطفل من جهة أخرى.

على سبيل المثال، أطلقت اليونيسيف بالتعاون مع منظمة الصحة العالميّة، في عام 2018، «مبادرة المستشفيات الصديقة للرضيع»، وهي من الأكبر في هذا المجال، لتشجيع المرافق الصحيّة حول العالم على دعم الترابط الطبيعي والصحّي بين الأم والطفل، ولتشجيع الرضاعة الطبيعيّة. تتألّف هذه المبادرة من 10 خطوات ينبغي على المستشفى اتباعها لتحويلها إلى «صديقة للرضّع». ويمكن اختصار هذه الخطوات بالتركيز على سياستين أساسيّتين، هما: وضع سياسات في المستشفيات لدعم ونشر التوعية حول مدى أهمّيّة الرضاعة الطبيعيّة ومفهوم التغذية المستجيبة، والتشجيع على الاتصال الجلدي المباشر مباشرةً بعد الولادة.

  • تتألّف هذه المبادرة من 10 خطوات
    ينبغي على المستشفيات اتباع 10 خطوات لتصبح «صديقة للرضّع»

أهمية الرضاعة الطبيعيّة


يجهل كثيرون مدى اتساع مروحة فوائد الرضاعة الطبيعي، للأم والطفل، خصوصاً على المدى الطويل. تاريخياً، لم يكن هناك خيار غذائي للرضّع سوى الرضاعة، إمّا من الأمّ أو من مرضعة. لاحقاً، توفّر الحليب الصناعي كخيار طبّيّ مفيد لبعض الرضّع الذين يعانون من مشاكل صحّيّة محدّدة، واستحال خياراً بديلاً في حال عدم قدرة الأمّ على الرضاعة، خصوصاً أنّ خيار المرضعة لم يعد متاحاً اجتماعياً كما كان في السابق، أو على الأقلّ ليس في كلّ المجتمعات.

توفّر خيار الحليب الصناعي في العقود الماضية هو ما سمح في الواقع بدراسة تأثيرات الرضاعة الطبيعيّة على صحّة الطفل على المدى الطويل مقارنةً بالحليب الصناعي. اليوم، هنالك كمّ هائل من الدراسات التي تظهر الفوائد اللاحقة لحليب الأمّ، والدور الوقائي التي تلعبه الرضاعة في الحماية من أمراض واضطرابات متنوّعة مثل اضطراب التوحّد، أو أمراض المناعة الذاتيّة، وحتّى خطر الإصابة بسرطان الدم (اللوكيميا). لا يعني ذلك أنّ الأطفال الذين لا يحصلون على حليب الأمّ لن يُصابوا بهذه الأمراض، ولا أنّ الذين يتلقّون الحليب الصناعي سيُصابون حكمًا بها، إلا أنّ الدراسات أظهرت (وما زالت تُظهر) دوراً وقائيّاً تلعبه الرضاعة في كثيرٍ من المشاكل الصحّيّة.

وبسبب الفوائد الهائلة لحليب الأمّ على صحّة وتطوّر الأطفال، لجأت الكثير من الدول إلى حلول بديلة، شبيهة نوعاً ما بخيار المرضعة القديم، عبر إنشاء «بنوك» تضمّ حليباً من أمّهات مرضعات مُتبرّعات، يتمّ فحص واختبار الحليب ومعالجته عبر البَسترة، ومن ثمّ عرض العيّنات للبيع عوضاً عن الحليب الصناعي. ورغم أنّ هذا الخيار هو ضمن توصيات منظّمة الصحّة العالميّة في حال عدم قدرة الأم على الرضاعة الطبيعيّة، إلا أنّ هنالك مجموعة كبيرة من العوائق الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة التي تحول دون ذلك. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الخيار غير متوفّر في لبنان.

  • الرضاعة تلعب دور وقائي في الحماية من أمراض واضطرابات متنوّعة
    تساهم الرضاعة في الحماية من أمراض واضطرابات منوّعة

التغذية المستجيبة


إضافةً لذلك، واحدة من أهمّ توصيات المبادرة هذه، ومبادرات أخرى شبيهة، هي اعتماد مبدأ التغذية المستجيبة، أو كما يصفها البعض اليوم بالرضاعة التفاعليّة. التغذية المستجيبة هي طريقة لإطعام الطفل تعتمد على انتباه الأهل لإشارات الجوع والشبع التي يرسلها الطفل، عوضاً عن الأسلوب المعتمد سابقاً طبّيّاً عبر اتّباع جدول زمني صارم للرضاعة (طبعاً يستثني هذا الأمر ارشادات الحدّ الأقصى لبقاء الرضيع حديث الولادة دون طعام أي 3-4 ساعات). وتُساعد التغذية المستجيبة في ضمان حصول الطفل على ما يكفي من الطعام وتدعم نموّه وتطوّره الصحّي، كما تعزّز العلاقة بين الطفل وأمّه.

الاتصال الجلدي: فوائد مثبتة علمياً


يشير مصطلح الاتصال الجلدي المباشر (أو الملامسة الجلديّة بعد الولادة مباشرةً ــ Skin to Skin) إلى تجفيف الطفل ووضعه مباشرةً على صدر الأم العاري بعد الولادة، ويتم تغطيتهما معاً ببطانية دافئة ويُترك الطفل على صدر أمه لمدة ساعة على الأقل أو حتى بعد الرضعة الأولى (التي تكون خلال الساعة الأولى بعد الولادة). ويُعتبر الاتصال الجلدي المباشر أمرًا ضروريّاً ومفيدًا للغاية تحديداً في وحدات العناية المركّزة لحديثي الولادة، حيث يُعرف غالباً باسم «رعاية الكنغر»، يساعد الاتصال الجلدي الأمّهات والآباء على تعزيز الروابط مع طفلهم، كما يدعم تحقيق نتائج تطوريّة وعصبيّة أفضل للطفل لاحقاً.

  • يساعد الاتصال الجلدي الأمّهات والآباء على تعزيز الروابط مع طفلهم
    يساعد الاتصال الجلدي الأمّهات والآباء على تعزيز الروابط مع طفلهم

الأدلّة التي تدعم ممارسة الاتصال الجلدي المباشر بعد الولادة قوية وغنية. في مراجعة منهجيّة نُشرت في كوكرين عام 2016، لخّص الباحثون الفوائد التي أظهرتها الدراسات للاتصال الجلدي المباشر أو المبكر للأمّ والطفل. بالنسبة للأم، تشمل الفوائد تقليل النزيف، وزيادة قدرتها الجسديّة على الرضاعة الطبيعية، وخفض مستويات التوتّر لديها. أمّا الرضيع، فيستفيد عبر تحسين تنظيم حرارة جسمه، وتقليل البكاء، إضافةً لمساعدته على التأقلم ما بعد «إجهاد الولادة» من خلال خفض مستويات الهورمونات التي ترتفع لديه أثناء العملية وإعادتها بشكل أسرع إلى مستواها الطبيعي. كما أظهرت المراجعة أنّ الاتصال الجلدي المباشر يسرّع بدء الرضاعة الطبيعية ويزيد من اختمال أن تكون حصرية، كما يخفف الحاجة إلى مكمّلات الحليب الصناعي في المستشفى.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المبادرة المهمّة هي جزء من حركة كبيرة نشأت في السنوات الأخيرة ضمن الطبّ الحديث. وبالرغم من أنّ هذه الحركة ليست منظّمة بالضرورة، إلا أنّ ملامحها بدأت تتشكّل في مجالات منوّعة، ومن مصادر وروّاد مختلفين. تعمل الحركة على إيجاد التوازن بين الاستفادة من التطوّر الطبّي الهائل الذي وصلنا إليه وخفّف من وطأة أمراض وحالات طارئة وخطيرة كثيرة، وبين عدم الإفراط في «تطبية» تجاربنا الصحية الطبيعية، وفقدان حكم صحية قديمة في التعاطي مع أجسادنا ومع بعضنا البعض.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي